الفهرس

فهرس الفصل الأول

المؤلفات

 الثقافة الإسلامية

الصفحة الرئيسية

 

ما هي مقومات الحركة الإسلامية؟

مسألة: من أهم ما يلزم على الحركة الإسلامية العامة ملاحظة ثلاثة أُمور:

السلامة أولاً، والصعود ثانياً، والبقاء ثالثاً.

ولا يحتاج الأمر إلى برهان، فإنه من القضايا التي قياساتها معها فهل تتمكن حركة بدون الثلاثة من أن تشق طريقها في الحياة؟ ثم إذا لم تصعد الحركة كماً وكيفاً تبقى في زاوية صغيرة من الأرض كما بقيت عشرات الحركات كذلك سواء من الإسلاميين أو غير الإسلاميين.

ولنفرض أنه كانت الحركة سالمة وصعدت، فإذا لم تكن فيها عناصر البقاء سقطت ولو بعد الوصول إلى القمة، كما شاهدنا ذلك في حركات معاصرة إسلامية، وغير إسلامية، وكما حدثت أمثال هذه الأُمور في التاريخ.

وهذه المقومات الثلاثة تحتاج على أقل تقدير إلى خمسة أُمور:

الأول: إعطاء الحريات للناس غير الحركيين من قبل الحركيين بمعنى عدم المساس بحرياتهم.

الثاني: المداراة.

الثالث: التزام السلم الصعودي التدريجي.

الرابع: التواضع، بمعناه العام.

الخامس: سعة القاعدة حتى تتمكن القاعدة من تحمل البناء.

الحريات السياسية

أما الأول: فلأن الحركة إذا لم تعط للناس الحرية توحّد الجميع على هدمها. فإن الإنسان الذي يحس بالكبت يهتم كل الاهتمام لأن يرفع الكبت عن نفسه والناس كثيرون، والحركة مهما كانت فهي قليلة، ولا شك أن الكثير يغلب القليل ولو في الخط البعيد، والغالب أن يبدأ الأمر من أن الناس ينتقدون الحركة نفسها أو رجالها اجتهاداً أو حسداً أو تحريكاً أو ما أشبه ذلك. وهؤلاء الحركيون لا يتحملون فيردون ضعفاً أو أضعافاً على النقد، وعادة يكون الرد اتهاماً وسباً لاذعاً وما أشبه ذلك.

وهكذا يسير الأمر حتى يشعر الناس بأنهم مكبوتون من جهة الحركة فيجمعون على لزوم إبادة الحركة فتأخذ في الضمور وينفضّ الناس من حولها وأخيراً تموت، وكم رأينا من الحركات قد أصابها ذلك، ولذا ورد في الآيات والروايات التأكيد على حرية الإنسان، وإن الإنسان يلزم عليه أن يقابل السيئة بالحسنة.

قال سبحانه: (ويدرؤون بالحسنة السيئة).

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (عليكم بالعفو، فإن العفو لا يزيد العبد إلاَّ عزاً، فتعافوا يعزكم الله)(1).

وعن الباقر (عليه السلام) قال: (الندامة على العفو أفضل وأيسر من الندامة على العقوبة)(2).

وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه أتى إليه باليهودية التي سمّته فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لها: (ما حملك على ما صنعت؟ فقالت: قلت: إن كان نبياً لم يضره، وإن كان ملكاً أرحت الناس منه، قال: فعفا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنها)(3).

وعن الرضا (عليه الصلاة والسلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لليهودي الذي سحره ما حملك على ما صنعت: قال: علمت أنه لا يضرك وأنت نبي قال فعفا عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) )(4).

ولا يخفى أن ما في بعض التواريخ من تأثير السحر في النبيّ كذب محض، كما دل عليه العقل والنقل، وهذه الرواية مرتبطة بفعل السحر لا بتأثيره.

وعن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إنه قال لرجل: (أُوصيك بتقوى الله والعفو عن الناس).

وشكى رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خدمه فقال له: (أعف عنهم ما ستصلح به قلوبهم، فقال: يا رسول الله انهم يتفاوتون في سوء الأدب، فقال أعف عنهم ففعل)(5).

وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (كما في الحديث) يأمر في كل مجالسه بالعفو، وينهى عن المثلة وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (ما من عبد يعفو عن عبد في حال جهله إلاَّ زاده الله بذلك عزاً). وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله تعالى: (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) قال: إذا كان يوم القيامة ينادي مناد: من كان له على الله أجر فليقم، فيقوم عند ذلك أهل العفو، فيدخلون الجنة بغير حساب، وورد في الحديث أن: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم ينتقم لنفسه من أحد قط بل كان يعفو ويصفح)(6).

وعن موسى بن جعفر عن آبائه (عليهم السلام) عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (من عفا عن أخيه المسلم عفا الله عنه)(7).

وعن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (ثلاثة ينزلون الجنة حيث يشاءون إلى أن قال: ورجل عفا عن مظلمة)(8).

وعن عليّ بن الحسين (عليهما السلام) أنه قال: (من بدأ بالشر زيّف أصله، ومن كافاه شاركه أهله).

وعن ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبته: ألا أخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة؟ العفو عمن ظلمك، وأن تصل من قطعك، والإحسان إلى من أساء إليك، وإعطاء من حرمك، وفي التباغض الحالقة، لا أعني حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين)(9).

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (خير أهل الدنيا وأهل الآخرة أخلاقاً من يعفو عمن ظلمه، ومن يعطي من حرمه، ومَن يصل من قطعه من ذوي أرحامه، وأهل ولايته)(10).

وعن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: (قال أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) لولده الحسن (عليه السلام) في وصيته إليه: ولا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته، ولا تكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان، ولا على البخل أقوى منك على البذل، ولا على التقصير أقوى منك على الفضل، ولا يكبرن عليك ظلم من ظلمك، فإنما يسعى مضرته ونفعك، وليس جزاء من سرك أن تسوءه)(11).

وعن الصَّادق (عليه الصلاة والسلام) أنه قال لعبد الله بن جندب، يا بن جندب: (صل من قطعك، وأعطِ من حرمك، وأحسن إلى مَن أساء إليك، وسلّم على من سبك، وأنصف من خاصمك، واعف عمن ظلمك، كما أنك تحب أن يعفى عنك)(12).

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (من كظم وهو قادر على إنفاذه دعاه الله تعالى يوم القيامة على رؤوس الخلائق وخيّره أن يختار من الحور العين ما أراد)(13).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (رأيت في ليلة المعراج غرفاً في أعلى الجنة فقلت لمن هي؟ قال: للكاظمين الغيظ وللعافين عن الناس وللمحسنين).

وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (ليس القوي من يصرع الفرسان، إنما القوي من يغلب غيظه ويكظمه)(14).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (ثلاثة يرزقون مرافقة الأنبياء: رجل يدفع إليه قاتل وليه ليقتله فعفا عنه، ورجل عنده أمانة ولو يشاء لخانها فيردها إلى من ائتمنه عليها، ورجل كظم غيظه عن أخيه ابتغاء وجه الله)(15).

وعن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من أحب السبل إلى الله تعالى جرعتان، جرعة غيظ يردها بحلم، وجرعة حزن يردها بصبر)(16).

وعن لقمان (عليه السلام): (من لا يكظم غيظه يشمت فيه عدوه)(17).

وعن سلمان الفارسي (رحمه الله) قال: (مَن كظم غيظه سلم، ومن لم يكظمه ندم)(18).

وعن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (أعقل الناس أشدهم مداراةً للناس، وأحزم الناس أكظمهم غيظاً)(19) إلى غيرها من الروايات الكثيرة.

المداراة

أما الثاني: وهو المداراة، فينبغي أن تعلم أن الناس لا يتحملون المتفوق عادة مهما كان لونه ومهنته وعمله.

قال سبحانه: (أم يحسدون الناس على ما أتاهم من فضله)(20).

والحركات بطبيعتها التفوقية التقدمية غير محتملة من قبل الناس، ولا يمكن رفع هذا إلاَّ بالمداراة إلى أبعد حد، ولذا نجد في الروايات التأكيد على المداراة، تأكيداً كبيراً:

فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاء جبرائيل إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: (يا محمد ربك يقرئك السلام ويقول: دارِِ خلقي)(21).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بتبليغ الرسالة)(22).

وعن الباقر (عليه السلام): سأل عنه عن رجل خبيث قد رأى منه جهداً، هل ترى مكاشفته أم مداراته، فكتب إليه: (المداراة خير لك من المكاشفة، وإن مع العسر يسراً، فإن العاقبة للمتقين)(23).

وعن الإمام العسكري (عليه الصلاة والسلام): إن مداراة أعداء الله من أفضل صدقة المرء على نفسه، وإخوانه، كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في منزله إذا استأذن عليه عبد الله بن أبي السلول، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (بئس أخو العشيرة ائذنوا له فأذنوا له، فلما دخل أجلسه وبشر في وجهه فلما خرج قالت عائشة: يا رسول الله، قلت فيه ما قلت وفعلت به من البشر ما فعلت؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا حميراء إن شر الناس يوم القيامة من يكره اتقاء شره)(24).

وفي الرضوي: (إن الله تبارك وتعالى أوحى الله إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إني آخذك بمداراة الناس كما آخذك بالفرائض)(25).

وفي رواية أُخرى عنه: (إن المؤمن آخذ عن الله عزَّ وجلّ الكتمان)(26).

وعن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: (لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون فيه ثلاث خصال: سنة ربه، وسنة من نبيه، وسنة من وليه، فأما السنة من ربه فكتمان السر، وأما السنة من نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فمداراة الناس، وأما السنة من وليه فالصبر في البأساء والضراء)(27).

وعن عليّ بن الحسين (عليه الصلاة والسلام) أنه وصى ولده الباقر (عليه الصلاة والسلام) قائلاً: (يا بني إن العقل رائد الروح، والعلم رائد العقل، والعقل ترجمان العلم، واعلم أن العلم أبقى واللسان أكثر زهداً، واعلم يا بني أن صلاح الدنيا بحذافرها في كلمتين، إصلاح شأن المعايش، مليّ مكيال، ثلثاه فطنة وثلثه تغافل لأن الإنسان لا يتغافل إلاَّ من شيء قد عرفه، وفطن له)(28).

وعن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: لسلمان الفارسي: (يا سلمان الناس إن قارضتهم قارضوك، وإن تركتهم لم يتركوك، وإن هربت منهم أدركوك، قال: فأصنع ماذا؟ قال: أقرضهم غرضك ليوم فقرك)(29).

وعن الصَّادق (عليه الصلاة والسلام) أنه قال: (كمال الأدب والمروءة في سبع خصال: العقل، والحلم، والصبر، والرفق، والصمت، وحسن الخلق، والمداراة)(30)، إلى غيرها من الروايات الكثيرة الواردة في هذا الباب بمختلف الألفاظ.

سلم الصعود التدرجي

وأما الثالث: وهو ملاحظة السلم الصعودي التدرجي، فلأن الله سبحانه قد جعل الحياة ذات درجات، والتفوق لا يكون إلاَّ بالتدرج، وقد قالوا في المثل: (سريع النمو سريع الزوال) وكما لا يمكن في عالم الطبيعة انقلاب الطفل رجلاً كبيراً ولا انقلاب النواة شجرة باسقة في ظرف سنة، كذلك يكون أمر الحياة الاجتماعية وإلاَّ انقلب الأمر على الناهضين فعوض أن يتقدموا يتأخرون، ولذا نجد في الروايات تأكيداً كبيراً على الصبر والأناة.

ففي رواية الجعفريات بسند الأئمة إلى علي (عليهم الصَّلاة والسلام) أنه قال في حديث: (والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد)(31).

وعن عليّ (عليه الصلاة والسلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الصبر خير مركب)(32).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (أربع من أعطيهن فقد أعطي خير الدنيا والآخرة: بدناً صابراً، ولساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً، وزوجة صالحة)(33).

وعن أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) أنه قال: (إن للنكبات غايات لا بد أن تنتهي إليها، فإذا احكم على أحدكم بها فليطأطئ لها وليصبر حتى يجوز، وأن أعمال الحيلة فيها عند إقبالها زائد في مكروها)(34).

وكان يقول: (الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فمن لا صبر له لا إيمان له)(35).

وعن أبي عبد الله قال: (إن قوماً يأتون يوم القيامة يتخللون رقاب الناس حتى يضربوا باب الجنة قبل الحساب، فيقولون: لم؟ فيقولون: كنا من الصابرين في الدنيا)(36).

وعن عليّ (عليه الصلاة والسلام) قال: (إن من ورائكم قوماً يلقون من الأذى والتشديد والقتل والتنكيل ما لم يلقه أحد من الأُمم السابقة، ألا وإن الصابر منهم الموقن بي العارف فضل ما يؤتى إليه فيَّ لمعي في درجة واحدة، ثم تنفس الصعداء فقال: آه آه، على تلك الأنفس الزاكية، والقلوب الراضية المرضية، أُولئك أخلاّئي، هم مني وأنا منهم)(37).

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (أيها الناس سيكون بعدي أُمراء لا يستقيم لهم الملك إلاَّ بالقتل والتجبر، ولا يستقيم لهم الغنى إلاَّ بالبخل والتكبر، فمن أدرك ذلك الزمان منكم فصبر على الفقر، وهو يقدر على الغنى منهم، وصبر على البغضاء وهو يقدر على المحبة منهم، وصبر على الذل وهو يقدر على العز منهم، ويريد بذلك وجه الله والدار الآخرة، أعطاه الله أجر اثنين وخمسين شهيداً)(38).

وعن أبي حمزة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: (ثلاث أقسم إنهن حق ـ إلى أن قال ـ: ولا صبر عن مظلمة إلاَّ زاده الله بها عزاً)(39). إلى غيرها من الروايات الكثيرة،و المراد بأمثال الصبر في المقام هو الصبر الإيجابي لا الصبر السلبي كما لا يخفى.

التواضع

وأما الرابع: وهو التواضع، فإنه ضروري لمن يريد التقدم، إذ التواضع يخفّف من شدة العداء والحسد اللذين هما من سمات الناس الذين لا يتمكنون من أن يروا المتفوقين عليهم.

فإذا رأى العدو عدوه متواضعاً تنزلت درجة عدائه من عشرة إلى خمسة. ثم إلى ثلاثة، وأحياناً إلى الصفر وقد قال سبحانه: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الــــذي بينك وبيـــنه عداوة كأنــــه ولي حميم)، (ولا يلقّاها إلاَّ الذين صبروا ولا يلقّاها إلاَّ ذو حظ عظيم)(40).

أما إذا رأى العدو أن المتفوق غير متواضع بقي على حسده. بل الأمر بين الصعود الخارجي كماً وكيفاً والهبوط النفسي تواضعاً، وقد رأينا نحن كيف قامت حكومات وحركات وارتفع أفراد ثم سقطوا جميعاً بسبب عدم تواضعهم، ولذا نرى جملة كبيرة من النصوص بهذا الصدد:

فعن عليّ (عليه الصلاة والسلام) أنه قال: (طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وتواضع من غير منقصة، وجالس أهل الفقر والرحمة، وخالف أهل الذل والمسكنة، وأنفق مالاً جمعه في غير معصية)(41).

وعن الصَّادق (عليه السلام) قال: (كمال العقل في ثلاث: التواضع لله، وحسن اليقين، والصمت إلاَّ من خير)(42).

وعن العسكري (عليه الصلاة والسلام) قال: (أعرف الناس بحقوق إخوانه وأشدهم قضاءاً لها أعظمهم عند الله شأناً، ومن تواضع في الدنيا لإخوانه فهو عند الله من الصديقين)(43).

وعن أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) في وصيته عند موته: (عليك بالتواضع، فإنه من أعظم العبادة)(44).

وقال (عليه السلام): (بالتواضع تتم النعمة)(45).

وقال (عليه السلام): (ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء طلباً لما عند الله)(46).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: (إن في السماء ملكين موكلين بالعباد، فمن تواضع لله رفعاه، ومن تكبر وضعاه)(47).

وعن الكاظم (عليه السلام) أنه قال: (في الإنجيل: طوبى للمتراحمين، أُولئك هم المرحومون يوم القيامة ـ إلى أن قال ـ: طوبى للمتواضعين في الدنيا أُولئك يرتقون منابر الملك يوم القيامة)(48).

وقال (عليه الصلاة والسلام) للراوي، الذي هو هشام بن الحكم: (يا هشام إن الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا، وكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع ولا تعمر في قلب المتكبر الجبار، لأن الله تعالى جعل التواضع آلة العقل، وجعل التكبر آلة الجهل، ألم تعلم من شمخ إلى السقف برأسه شجه، ومن خفض رأسه استظل تحته وأكنه، فكذلك من لم يتواضع لله خفضه الله، ومن تواضع لله رفعه)(49) ـ إلى أن قال ـ (عليه السلام): (وأعلم أن الله لم يرفع المتواضعين بقدر تواضعهم، ولكن رفعهم بقدر عظمته ومجده)(50).

وعن الجعفريات بسند الأئمَّة إلى علي (عليهم الصَّلاة والسلام) قال: (سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: لا حسب إلاَّ بالتواضع)(51).

وعن الصَّادق (عليه الصلاة والسلام) قال في حديث (رأس الحزم التواضع)(52).

وعن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (طوبى لمن تواضع في غير منقصة، وأذل نفسه في غــير مسكنة، وأنفق من مال جمعه من غير معصية)(53).

إلى غيرها من الروايات.

سعة القاعدة

وأما الخامس: وهو سعة القاعدة، فكما أنه لا يمكن في الماديات بناء بيت وسيع أفقياً أو مرتفع عمودياً على قاعدة ليس لها السعة المناسبة والقوة المتينة، كذلك الأمر في المعنويات.

ولذا فاللازم على القائمين بالنهوض ملاحظة النسبة بين القاعدة وبين البناء، وهذا من كبرى شعب الإتقان والحكمة وتدبر عاقبة العمل ونحوها، مما أكدت الروايات عليها:

ففي رواية عن الرضا عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال أمير المؤمنين: (عليه السلام): (التدبير قبل العمل يؤمنك من الندم)(54).

وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أتى رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: (علمني؟ فقال: عليك باليأس بما في أيدي الناس، فإنه الغنى الحاضر، قال: زدني يا رسول الله، قال: إذا هممت بأمر فتدبر عاقبته، فإن يكون خيراً ورشداً فاتبعه وإن يك غياً فدعه)(55).

وعن أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) أنه قال لولده الحسين (عليه السلام): (ومن تورط في الأُمور بغير نظر في العواقب فقد تعرض للنوائب، التدبير قبل العمل يؤمنك الندم)(56).

وعن الصَّادق (عليه الصلاة والسلام) قال في وصيته لعبد الله بن جندب: (وقف عند كلّ أمر حتى تعرف مدخله من مخرجه، قبل أن تقع فيه فتندم)(57).

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (إذا هممت بأمر فتدبر عاقبته فإن كان خيراً فأسرع إليه، وإن كان شراً فانته عنه)(58).

وعن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (من نظر في العواقب سلم في النوائب)(59).

وعن الدرة الباهرة قال: أوصى آدم ابنه شيث (عليهما السلام) بخمسة أشياء: وقال له: (اعمل بها وأوصي بها بنيك من بعدك ـ إلى أن قال ـ: إذا عزمتم على أمر فانظروا إلى عواقبه، فإني لو نظرت إلى عاقبة أمري لم يصبني ما أصابني)(60).

وعن عليّ (عليه الصلاة والسلام) قال: (من ركب العجَل أدرك الزلل، من عجل ندم على العجل)(61) إلى غير ذلك.

والحاصل أن فكرة الإنقاذ عبارة عن الحركة الهدفية بالمقارنة بأرفع أقسام الأخلاق على طول الحياة، فهو شبه العلم الذي يروي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد.

الأسباب المباشرة لإقامة حكم الإسلام

مسألة: على التيار الإسلامي أن يهتم غاية الاهتمام بأربعة أمور، هي الأسباب المباشرة لإقامة حكم الإسلام في البلاد، فإن الحكم الإسلامي في ظروفنا الراهنة (ولعلها تطول على هذا النحو) من أصعب الأُمور، وإذا لم تتوفر هذه الأُمور الأربعة فقيام حكم الله في الأرض من قبيل حصول المسبب بدون السبب، وقد جعل الله الدنيا دنيا أسباب، ولذلك كرر في القرآن الحكيم في قصة ذي القرنين (ثمّ اتبع سبباً) وقد أبى الله أن يجري الأُمور إلاَّ بأسبابها إلاَّ في أوضاع الإعجاز.

فبعد الاتكال على الله سبحانه حتى يكون هو معطي السبب والمسبب يحتاج الوصول إلى هذه الأُمور:

الأول: ملاحظة المعادلات الدّولية العالمية، فإنها وإن لم تكن تسمح بإقامة حكم الإسلام إطلاقاً، إلاَّ أن هناك فرقاً بين ملاحظة هذه المعادلات، وبين عدم ملاحظتها.

إن الدول العالمية في هذا اليوم لا تسمح حتى بإقامة حكم الإسلام في جزء من أجزاء بلاد المسلمين، فهل من المعقول أن تسمح بإقامة حكم الإسلام في كل العالم الإسلامي؟ فمنذ أكثر من مائة سنة والمسلمون يريدون النهوض في كل هذه الأجزاء المتناثرة، لكنهم لم يتمكنوا من ذلك، فهل يُقام حكم الإسلام بدون ملاحظة المعادلات الدولية، وهل هذا شيء ممكن عادةً وإن كان ممكناً عقلاً؟.

إنه في عقد واحد من الزمن قتل الغرب والشرق وشرد وعوّق في مناطق محدودة من بلاد الإسلام أكثر من خمسة وعشرين مليون مسلماً، ففي انفصال بنغلاديش عن باكستان قتلوا ثلاثة ملايين، وفي أفغانستان قتلوا مليونين، وأعاقوا مليونين، وشردوا ستة ملايين، وفي الحرب العراقية الإيرانية قتلوا وأعاقوا أكثر من ثلاثة ملايين، كما أن المشردين من إيران وحدها أربعة ملايين، ومن العراق وحدها أكثر من ثلاثة ملايين، ومن السودان في حرب قرنق شردوا أكثر من ثلاثة ملايين، وهذا مع قطع النظر عن المعوقين والمشردين والمقتولين في السودان، ولبنان، وفلسطين، وإرتريا، والفليبين، وغيرها.

نعم لسان حال الغرب والشرق بالنسبة إلى الإسلام والمسلمين ما قاله الشاعر:

الآن إذ نشبت مـخالبنـــا بــــه           يرجو النجــاة ولات حين فرار

الثاني: فهم الحكومة فهماً كاملاً، فإن فهم الحكومة والحكم في الحال الحاضر صار من أصعب أقسام الفهم، فكما أنه لكل من الطب والهندسة والفقه والقضاء وما أشبه فهم خاص، فمن يسير في طريق الطب لا يكون مهندساً وكذلك بالعكس هكذا فهم الحكم.

إن حزباً إسلامياً يجاهد أكثر من نصف قرن ثم لا يصل إلى الحكم بل لا يقترب من الحكم ليس السر فيه إلاَّ لأن فهم الحزب للحكم دون المستوى المطلوب، إن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يُرمى بالحجارة ويهان أكبر إهانة ويُراد قتله فيقول: (اللَّهُمَّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) وبعدما استولى على الحكم قال لمن قتلوا أقرباءه والمؤمنين به وصادروا أموالهم وشردوهم وعذبوهم بمختلف أنواع العذاب والإهانة: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) ولم يقتل صبراً لا عالماً واحداً، ولا ثرياً واحداً ولا حاكماً واحداً، ولا منافقاً واحداً مع ما لاقى من الاضطهاد منهم قبل وصوله إلى الحكم، إلى أن التحق بالرفيق الأعلى، حتى في أشد القضايا خطورة وهو المؤامرة على قتله، بل عفا عمن سقته السم حتى استشهد من أثر ذلك.

وفي القرآن الحكيم في قصة مسجد ضرار قال سبحانه: (والذين اتخذوا مسدداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلاَّ الحسنى والله يشهد أنهم لكاذبون).

(لا تقم فيه أبداً لمسجد أُسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين).

(أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين).

(لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلاَّ أن تقطّع قلوبهم والله عليم حكيم)(62).

فمع أنهم كانوا ضارين وكافرين ومفرقين وجواسيس وأكثر من ذلك وأنهم كانوا مستمرين على هذه الحالات كما تدل عليه الآيات المتقدمة لم يزد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على إحراق ذلك البناء، وعدم إقامة الصَّلاة فيه حسب نهي الله سبحانه وتعالى له. لقد فعل (صلى الله عليه وآله وسلم) كل ذلك حتى تمكن من شق طريق حكم الإسلام إلى الأمام في عالم ذلك اليوم المتفكك، فكيف في عالم هذا اليوم المتشابك قيوداً وأصفاداً وأغلالاً.

نعم إن هذا الأمر بحاجة إلى تفكير عميق مقدمة للعلم المناسب والعمل المناسب.

الثالث: الأفراد الصالحون حتى يقبلهم الناس لهم حكاماً، وهذا أيضاً من أصعب الأُمور.

إن حزباً إسلامياً تراه يبدأ مفكراً في إقامة حكم الله في الأرض ثم بعد عقود من الزمن لم تكن حصيلته إلاَّ جملة من المساجد، وعدّة من الشباب، وعدد من النشرات والكتب، لأنه لم يرب نفسه على الاستعداد المطلوب، نعم قال الشاعر:

أوردها سعد وسعد مشتمل           ما هـــكذا يا ســعد تورد الإبل

وليس هذا تهجماً بل تذكيراً والذكرى تنفع المؤمنين، وفي المثل (صديقك من يبكيك لا من يضحكك).

ولا شك أن أعمال المخلصين منهم مرفوعة في عليين، وأنهم مأجورون مثابون في خدماتهم الإسلامية، إلاَّ أنها خدمات جمعية خيرية لا أُناس يريدون إنقاذ المسلمين، ومن لم يقبل بهذا الكلام فلينتظر حتى يحكم الزمان بأنه هل كان تياراً إسلامياً عالمياً مطّرداً أو جمعية خيرية، نعم لقد رأيت بنفسي شيوخاً كبار السن ابتدأوا قبل نصف قرن بهذا التفكير الرفيع وانتهوا إلى أن صاورا أئمة في مساجد متباعدة بمأمومين قليلين أو خطباء من الدرجة الثالثة أو ما أشبه، وذلك لأن طريقهم لم يكن طريق الحكم، بل رأيت بعضهم صاروا موظفين لحكومات كانوا هم أشد المناوئين لتلك الحكومات، يقول سعدي في شعر له وهذا ترجمته:

أخاف أن لا تصل إلى الكعبة أيها الأعرابي           فإن طــــريقك ذاهــب إلـــــى تــــركستان

الرابع: يجب تطبيق القانون الصالح للحياة المستقى من الأدلة الأربعة للناس، في كل أبعاد الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والفكرية والعسكرية، والأمنية وغيرها وذلك بمئات الملايين من الكتب والنشرات بمختلف الألسنة والمستويات وإلاَّ فإن الناس لا يبدلون طريقتهم في الحياة وعاداتهم إلى أُمور لا يعرفون هل أنها أنفع لهم أو أضرّ، بل هل أنها أقرب إلى الإسلام أو أبعد مما هم فيه، فإن (سكارنو) الأندنوسي كان يريد تطبيق الاقتصاد الشيوعي باسم الإسلام، وعبد السلام كان يريد تطبيق الاشتراكية في العراق باسم الإسلام، والمجاهد الأكبر كما سموه في تونس كان ينقض الإسلام حجراً حجراً باسم الإسلام.

وما لم تتوفر هذه الأُُمور الأربعة في الحركة الإسلامية كان طلب تطبيق الإسلام في حكومة البلاد من قبيل طلب المسبب بدون سلوك السبب.

الاستعداد لمسلك الحكومة الصعب

الحكومة من أصعب الأُمور وهكذا الوصول إليها وحفظها.. وأصعب من كل ذلك جعلها مثالية تستهوي الأفئدة حتى يقتدي الناس بها، فهل الذين يريدون سلوك طريق النجاة للمسلمين مستعدون لتحمل كل هذه الصعوبات؟.

إن أقل قدر من الكبر والعنجهية والغرور والغفلة توجب عدم الوصول إلى الحكم في المرتبة الأُولى، ومن المعلوم أن الله سبحانه جعل قانونية في الحياة في ضمن مليارات من القوانين لأجل الصعود والنزول، فكما للفرد صعود ونزول حسب الموازين الكونية، كذلك الجماعة الذين يريدون الصعود عليهم أن يعملوا ليل نهار بكل يقظة وحذر وتضحية حتى يصلوا إلى الحكم، كما كانوا يسلكون الطريق الذي قرره الله سبحانه في أسباب الدنيا، وقد أبى الله أن تجري الأُمور إلاَّ بأسبابها، وقال سبحانه: (كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك)(63).

ثمَّ أن بعضهم إذا وصلوا يأخذهم الكبر والغرور والغفلة وما إلى ذلك، فيأخذون في طرد الناس من حولهم، ويسقطون في النهاية، أما الجماعة النشطة التي تكونت في رحم الزمان فهم الذين يصلون إلى الحكم مكان أُولئك الذين اغتروا بالمنصب والجاه والمال والخدم والحشم وما إلى ذلك، وهكذا يدور الفلك يوماً عليهم ويوماً لهم.

وقد قال علي (عليه الصلاة والسلام): الدهر يومان، يوم لك ويوم عليك، فإذا كان لك فلا تبطر، وإذا كان عليك فاصبر.

وقال سبحانه وتعالى قبل ذلك (وتلك الأيام نداولها بين الناس)(64).

ولعل الإذن في قوله تعالى: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله)(65) يُراد به الإذن التكويني، وهو وجود المؤهلات والأسباب التكوينية.

والذي يقرّب هذا الاحتمال في الآية المباركة ما نجده من غلبة الباطل على باطل آخر مرة وبالعكس مرّة أُخرى، وغلبة الحق على الباطل غلبة مادية مرّة وغلبة الباطل على الحق غلبة مادية، وإن الأنبياء كانوا يُقتلون كما في الآية الكريمة: (فلم تقتلون أنبياء الله من قبل) وفي بعض الأحيان كانوا يقتلون المتعدين عليهم من باب: (جزاء سيئة سيئة)(66) قال سبحانه: (يقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً)(67) وأن أحد الباطلين كان يهزم الباطل الآخر، كما هزم بنو العباس بني أُمية، وهزم المغول بني العباس.

أما الحق فلا إشكال في أنه دائماً مقدم على الباطل معنوياً، فإن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وقد قال سبحانه: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه).

وقد خلط يزيد بين الإرادة التكوينية والتشريعية حيث قرأ قوله تعالى:

(قل اللَّهُمَّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير)(68) على مسامع الإسراء من أهل البيت (عليهم الصَّلاة والسلام) في قصة الحسين (عليه السلام) الدامية، فإنه أراد أن يبين أن الملك الذي أوتيه وسلب الملك الذي كان نصيب أهل البيت (عليهم الصَّلاة والسلام) إنما هما بإرادة الله التشريعية، فهو الخليفة بالحق في قبال الحسين (عليه السلام) الذي نزع الملك منه، بينما لم يكن الكلام من يزيد أكثر من مغالطـــة واضحة، فالأمر مرتبط بالتكوين لا بالتشريع، وإلاَّ فالذين كانوا يقتلون الأنبياء أيضاً خلفاء الأرض بالإرادة التشريعية! ولا يقول به مؤمن بالقرآن.

وعلى أي حال، فالحكم أمر صعب الوصول، لكن البعض ينظرون إلى الانقلابات العسكرية ونحوها حيث بين عشية وضحاها يصل الشخص العادي إلى أعلى درجات الدولة فيظنون أن الانقلاب من صنع هؤلاء الزمرة من العسكر ومن إليهم، بينما وراء هذا الانقلاب مليارات من البشر، على ما ذكرنا تفصيله في بعض الكتب المعنية بهذا الشأن.

إن ناصر أو قاسم أو غيرهما لم يصلوا إلى الحكم إلاَّ بمساعدة القوانين العالمية بتصديق الانقلاب والانقلابيين، ثم أن التخطيط كان من الأجانب، كما دلت عليه الأدلة.

فهذا النوع من الوصول إلى الحكم ليس محل الكلام، وإنما محل الكلام الوصول الصحيح ولو الصحيح عند الذين يصلون وعند مجتمعاتهم من باب (لكل قوم نكاح).

والكلام الآن في أنه إذا أُريد الوصول إلى الحكم في بلاد الإسلام كان الأمر بحاجة إلى مليارات من الساعات من العمل الجاد ليل نهار، عملاً بالمستوى كماً وكيفاً، فإذا رأى الإنسان جماعة يريدون الوصول إلى حكم الإسلام أو بالأحرى يريدون إيصال الإسلام إلى الحكم ثم لم يكن بينهم شورى، ولا لهم جمع الكلمة، ولا التواضع المنشود، ولا الحل والعقد المطلوب، ولا التقشف والزهد ولا الأخذ بأسباب الدنيا إلى غير ذلك، فإنهم لا يتمكنون من شيء ينوون الوصول إليه، وحتى إن كانت نواياهم حسنة، فإن النوايا الحسنة شيء والوصول إلى الخارج العملي شيء آخر.

ثم بعد الوصول إلى الحكم فرضاً يعتبر بقاء الحكم أمر صعب، الواصل يجب عليه أن يثبت أنه رجل دولة، فإن الحكم ليس عبارة عن الرئاسة، والوزارة، والإمارة، والأمر والنهي، والمال والإعلام، والجيش، وما أشبه، بل انه فوق كل ذلك عبارة عن الإدارة الصحيحة داخلاً وخارجاً، فإن الداخل بحاجة إلى عشرات الأُلوف من المقومات، والخارج أيضاً بحاجة إلى عشرات الأُلوف من المقومات، حتى يبقى هذا البناء الذي شيد رغم العواصف الداخلية والخارجية.

وهل الذين يريدون الوصول إلى حكم الإسلام فكروا في هذا الشأن تفكيراً جاداً، وهل أنهم أعدوا العدة، له، إذ الإدارة ليست وليدة الساعة، بل تحتاج إلى أُسس ومقومات، وإلاَّ ففي المثل: (سريع النمو سريع الزوال).

ثم ما هو البرنامج الذي يريدون أن يروه للناس، ومن هم الأشخاص الذين هيأوهم لتحمل هذه المسؤولية وهل الناس يعرفونهم ويستعدون الانضواء تحت لوائهم؟ أو على الأقل السكوت عليهم؟ إلى عشرات الأسئلة الأُخرى؟.

وهذا الكلام ليس من جهة اليأس، بل من جهة الحزم، وفي المثل: (صديقك من يبكيك لا من يضحكك) ولا يفيد أن يقول الإنسان المريد لحكم الإسلام: إني أعمل بالكتاب والسنّة وأطبق عدل الإسلام فكل الحكام الذين حكموا بلاد الإسلام باسم الإسلام كانوا يقولون ذلك، فالقائل ماذا يريد؟ لو قال: إسلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإسلام رسول الله صحيح مائة في المائة لكن كيف يطبق في الحال الحاضر، وهذا يحتاج إلى عشرات الأجوبة في مختلف الحقول: الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والفكرية، والتربوية، والحربية، والعسكرية، والزراعية، والصناعية، والتجارية، وغيرها وغيرها، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تبعاً للقرآن، قال أموراً (شخصية) لا يشك فيها اثنان كوجوب الصَّلاة والصوم والحج، وحرمة الخمر والزنا والقمار وما أشبه ذلك، وقال (كليات) مثل (أوفوا بالعقود)(69) (وذروا ما بقي من الربا)(70) (خلق لكم ما في الأرض)(71) إلى ألوف الكليات المذكورة في القرآن الحكيم والسنة المطهرة، فهل العقود تشمل العقود الجديدة، وهل الربا يشمل قدر العمل والعامل والمحل، وهل (لكم) في الآية الكريمة على الأسلوب الشيوعي الشرقي، أو الرأسمالي الغربي، أو الاشتراكية بمختلف أقسامها التي تبنتها دول متعددة، أو الإسلام له منهج خاص في الاقتصاد لا يشبه أحدها، كما نرى ذلك نحن ويراه جماعة من المفكرين الإسلاميين، وهكذا حال الأمور في سائر الحقول التي يحتاج إليها الإنسان المعاصر، كحقل الاجتماع وغيره.

وبعد هذين الأمرين يأتي دور الأمر الثالث وهو هل يتمكن المسلمون بعد وصولهم إلى الحكم أن يظهروا الإسلام المثالي بحيث يدخل الناس في دين الله أفواجاً؟.

إن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لما طبق الإسلام كان بحيث يستهوي الأفئدة ويجلب القلوب، ولذا بمجرد أن عرف الناس الإسلام أخذوا يتهافتون عليه تهافت الفراش على النور، فما هي كيفية تطبيق الإسلام في الحال الحاضر بحيث يجلب الجماهير في الشرق والغرب، ويكون تطبيقه في عين الناس أفضل من تطبيق الديمقراطية في نظر الديمقراطيين ومن قوانين حقوق الإنسان في نظر الغربيين، إلى غير ذلك؟ حتى يأخذ الإسلام دوراً جديداً في العالم يكون في مقبض الزمام لا مشابهاً لقوانين العالم أو أسوأ.

ثم إن الغرب في أول بزوغ الإسلام لم يكن مسيحياً وإنما ألجأه إلى المسيحية حكام بني أمية، وبني العباس، وبني عثمان، حيث أنهم هربوا من ظلم هؤلاء وأشباههم إلى المسيحية لتكون سداً واقياً لهم، ولما رأوا المسيحية بقيادة الكنيسة تظلم أيضاً هربوا من المسيحية العملية إلى المسيحية الاعتقادية فقط، حيث لا ربط لها بشؤون الحياة إطلاقاً، واحتموا بالعلمانية والحرية التي أشاعوهما بينهم.

فهل يكون إسلام اليوم كإسلام أولئك، أو كإسلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا يحتاج إلى جهود ألوف المفكرين في مختلف الحقول ممن يعرفون الإسلام كاملاً ويعرفون العالم المعاصر كاملاً، وإلاَّ فكل يدعي وصلاً بليلى.. والله الموفق وهو المستعان.

 

1 ـ الكافي ج2 ص88 ح5، الوسائل ج8 ص519 ح2.

2 ـ الكافي ج2 ص88 ح6، الوسائل ج8 ص519 ح4.

3 ـ الكافي ج2 ص89 ح9، الوسائل ج8 ص519 ح3.

4 ـ انظر الحلم والعفو وكظم الغيظ البحار ج71 ص397 باب93.

5 ـ مستدرك الوسائل ج2 ص87.

6 ـ انظر البحار ج71 ص397، باب93.

7 ـ المصدر السابق.

8 ـ المصدر السابق.

9 ـ الكافي ج2 ص87 ح1، الوسائل ج8 ص520 ح1.

10 ـ الكافي ج2 ص87 ح2.

11 ـ نهج البلاغة ص403، نسخة صبحي الصالح، الوسائل ج8 ص522 ح7.

12 ـ تحف العقول ص353.

13 ـ انظر البحار ج71 ص399، وص428 باب كظم الغيظ.

14 ـ مثله في البحار ج77 ص150.

15 ـ انظر البحار ج71 ص399 وص428.

16 ـ الكافي ج2 ص90 ح9، الوسائل ج8 ص523 ح4.

17 ـ انظر البحار ج71، ص399، وص428، وج73 ص262.

18 ـ المصدر السابق.

19 ـ المصدر السابق.

20 ـ سورة النساء: الآية 54.

21 ـ الكافي ج2 ص95 ح2، الوسائل ج8 ص540 ح3.

22 ـ الكافي ج2 ص69 ح4، الوسائل ج8 ص539 ح1 وص540 ح1.

23 ـ انظر البحار ج75 ص393 باب 87، التقية والمداراة، والوسائل ج8 ص538 باب121، استحباب مداراة الناس.

24 ـ الكافي ج2 ص245 ح1، باب من يُتقى شرُّه.

25 ـ فقه الإمام الرضا (عليه السلام) ص368.

26 ـ فقه الإمام الرضا (عليه السلام) ص368.

27 ـ الخصال ج1 ص82 ح7.

28 ـ انظر البحار ج47 ص153، والبحار ج75 ص308، والبحار ج78 ص142.

29 ـ انظر البحار ج47 ص311 باب 95 معنى الفتوة والمروءة.

30 ـ المصدر السابق.

31 ـ الكافي ج2 ص71 ح2، البحار ج71 ص92.

32 ـ البحار ج82 ص139.

33 ـ انظر البحار ج71 ص56 باب62 الصبر، وانظر الوسائل ج2 ص907 باب 76 استحباب الصبر على البلاء.

34 ـ البحار ج71 ص95، وج78 ص95.

35 ـ الكافي ج2 ص72 ح4.

36 ـ انظر البحار ج71 ص56 باب 62، والوسائل ج2 ص907 باب 76.

37 ـ انظر البحار ج75 ص305 باب79، الظلم وأنواعه وص17، وص367، وص384.

38 ـ الكافي ج2 ص74 ح12.

39 ـ انظر البحار ج75 ص305.

40 ـ سورة فصلت؛ الآيتان 34ـ35.

41 ـ البحار ج75 ص119 وج69 ص381 وج77 ص395 نقلاً عن تفسير علي بن إبراهيم القمي.

42 ـ انظر البحار ج75 ص117 باب 51 التواضع.

43 ـ البحار ج75 ص117ـ118.

44 ـ البحار ج75 ص119.

45 ـ نهج البلاغة ص508 رقم الحكمة (224).

46 ـ البحار ج78 ص13.

47 ـ الكافي ج2 ص99 ح2.

48 ـ تحف العقول ص458.

49 ـ تحف العقول ص463، البحار ج78 ص312.

50 ـ تحف العقول ص465.

51 ـ البحار ج77 ص168.

52 ـ البحار ج75 ص117، التواضع باب51.

53 ـ البحار ج77 ص90.

54 ـ الوسائل ج11 ص223 ح2، الفقيه ج2 ص246.

55 ـ الوسائل ج11 ص224 ح7، المحاسن ص16 ح46.

56 ـ الوسائل ج11 ص223 ح2، في وصية لمحمد بن الحنفيّة: الفقيه ج2 ص246.

57 ـ تحف العقول ص351.

58 ـ الوسائل ج11 ص223 ح1 وص224 ح7، المحاسن ص16 ح46.

59 ـ مثله في غرر الحكم ج1 ص85.

60 ـ انظر البحار ج71 ص314، باب 80 التفكر والاعتبار.

61 ـ المصدر السابق.

62 ـ سورة التوبة: الآيات 110.

63 ـ سورة الإسراء: الآية 20.

64 ـ سورة آل عمران: الآية 140.

65 ـ سورة البقرة: الآية 249.

66 ـ سورة الشورى: الآية 40.

67 ـ سورة التوبة: الآية 111.

68 ـ سورة آل عمران: الآية 26.

69 ـ سورة المائدة: الآية 1.

70 ـ سورة البقرة: الآية 278.

71 ـ سورة البقرة: الآية 29.