الفهرس

فهرس الفصل الرابع

المؤلفات

 الثقافة الإسلامية

الصفحة الرئيسية

 

عوامل التقدم والازدهار

مسألة: الماء والأرض والإنسان والزمن عوامل أربعة لتقدم الإنسان وازدهار الحياة، فاللازم ربط بعضها ببعض حتى تتقدم الزراعة، والعمارة وغيرها، وقد أباح الإسلام الماء إذا لم يكن ملكاً لأحد بأسباب الملك والتي تبدأ أول ما تبدأ بالحيازة بشروطها المقررة.

واللازم على المسلمين أن يهتموا بالماء بحفر الآبار، وصنع الترع، ومد القنوات، وبناء الجسور وإنشاء السدود، إلى غير ذلك كل بقدر إمكانه، ليصل الماء إلى كل مكان، ويستفاد منه في الزرع والضرع وفي العمارة وغيرها.

أما البحار فهي لا تفيد للزراعة وإنما تفيد لأغراض أُخر كالاتجار، واتخاذ الملح، وصيد السمك، وما أشبه ذلك، نعم تفيد بعد التحلية، لكن التحلية بحاجة إلى وسائل حديثة، والمسلمون في طريق النجاة يجب أن يتجنبوها في الوقت الحاضر، حيث يستخدم في الإضرار بهم، في ظل أجواء إكراهية، كما فصلناه في (فقه الاقتصاد).

وربما يستشكل أن المرفوع في حديث الرفع ليس الجو الإكراهي بل الإكراه الفردي كما أن الاضطرار أيضاً كذلك، فإذا كان كل أهل المدينة مضطرين إلى التيمم دون زيد وجب عليه الوضوء، لأن الاضطرار لا يتعدى منه إلى غيره، وكذلك الإكراه ونحوه والأشياء تقدر بقدرها في المستثنى والمستثنى منه، كما هو واضح.

والجواب: الجو الإكراهي يلازم:

أولاً: الإجحاف والاحتكار والضرر والعسر والحرج والغش والخداع والغنى وما أشبه ذلك.

وثانياً: كون القانون بحيث يستلزم ذلك خلاف موازين الإسلام، فالالتزام بهذا القانون محرم تكليفاً من جهة أنه حكم بغير ما أنزل الله سبحانه، فله حرمة تكليفية مطلقاً، وحرمة وضعية في كثير من الأحيان، وحيث لم يوضع هذا الكتاب لمثل هذا البحث نكتفي منه بهذا القدر.

نعم قد يكون استعمار بدون استثمار، وقد يكون استثمار بدون استعمار، وهما حادتا الافتراق في العموم من وجه.

وعلى أي حال فاللازم الاستفادة من الماء بأكبر قدر من الاستفادة بالوسائل الخارجة عن نطاق الاستعمار والاستثمار، والتي منها السخرة المنفية بالأدلة الأربعة. قال سبحانه: (إلاَّ أن تكون تجارة عن تراض منكم)(1).

وعن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يكتب إلى عامله: (ألا لا تسخروا المسلمين، ومن سألكم غير الفريضة فقد اعتدى فلا تعطوه، وكان يكتب يوصي بالفلاحين خيراً، وهم الأكارون)(2). وعن علي الأزرق قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (وصى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً عند وفاته فقال: يا علي لا يظلم الفلاحون بحضرتك، ولا يزاد على أرض وضعت عليها، ولا سخرة على مسلم (يعني الأجير) )(3).

وعن إسماعيل بن الفضل الهاشمي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن السخرة في القرى وما يؤخذ من العلوج والإكراه في القرى فقال: اشترط عليهم، فما اشترط عليهم، من الدراهم والسخرة وما سوى ذلك فهو لك، وليس لك أن تأخذ منهم شيئاً حتى تشارطهم، وإن كان كالمستيقن إن كل من نزل تلك القرية أخذ ذلك منه، وسألته عن رجل بنى في حق له إلى جنب جار له بيوتاً أو داراً فتحول أهل دار جاره إليه، أله أن يردهم وهم له كارهون؟ فقال (عليه السلام): (هم أحرار ينزلون حيث شاءوا، ويتحولون حيث شاءوا)(4).

وعن عبد الله بن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (من زرع حنطة في أرض فلم يزل في أرضه وزرعه وخرج زرعه كثير الشعير فبظلم عمله في ملك رقبة الأرض، أو بظلم زارعه وأكرته، لأن الله تعالى يقول: (فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيبات أحلت لهم)(5).

وعن ابن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: كان علي (عليه السلام) يكتب إلى عماله: (لا تسخروا المسلمين فتذلوهم، ومن سألكم غير الفريضة فقد اعتدى، ويوصي بالأكارين وهم الفلاحون)(6).

وعن تفسير العياشي عن عبد الله بن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (من زرع حنطة في أرض فلم يزك زرعه أو خرج زرعه كثير الشعير فبظلم عمله في ملك رقبة الأرض، أو بظلم لمزارعيه وأكرته، لأن الله يقول: (فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيبات أحلت لهم) يعني لحوم الإبل والبقر والغنم)(7).

احترام أموال الناس ودمائهم وأعراضهم

مسألة: على القائمين بعبء النهوض أن يحترموا غاية الاحترام أموال الناس ودماءَهم وأعراضهم، فإنه ليس شيء أشد على الناس من هذه الثلاثة، ومن ينل منها شيئاً ينفض الناس من حوله، فقبل الوصول إلى الحكم يوجب ذلك عدم الوصول، وبعد الوصول يوجب الانفضاض، وعدم استقرار الحكم، والعناوين البراقة والألفاظ الرنانة وما أشبه التي يصنعها الحكام تبريراً لأعمالهم العدوانية لا تبرر قصد السوء، وعمل السوء منهم بالنسبة إلى هذه الأُمور الثلاثة كما اعتادته الحكومات، حيث أنهم يختفون وراء العناوين لنيل أغراضهم الدنيئة، ولذا نراهم يسقطون الواحد منهم تلو الآخر، وقد نرى أن أحدهم يأتي بشعبية كبيرة ثم لا يمر زمان إلاَّ ويأخذ في الترنح ثم السقوط.

والمتعرض لأموال الناس ودمائهم وأعراضهم يفوت الهدف، ويسبب زوال الحكومة إذا فرضت تحققها في الخارج. (بالإضافة إلى أن عمله محرم في الشريعة الإسلامية ومعاقب عليه كما هو معلوم لدى الجميع حتى أن من قتل إنساناً واحداً فكأنما قتل الناس جميعاً، وإن درهماً من الربا كسبعين زنية كلها بذات محرم، ومن أكل شيئاً من مال اليتيم، فإنما أدخل في بطنه ناراً وسيصلى سعيراً، وكذلك بالنسبة إلى سائر الأموال، مما تواترت الآيات والروايات في ذم الفاعل وتهديده، وهكذا بالنسبة إلى هتك العرض إلى غير ذلك مما لا حاجة إلى تفصيل الكلام فيها).

فاللازم الاقتصار على الموارد المقررة شرعاً في الاستثناءات المالية والحدود المقررة حول العرض والدم، ولذا نجد التفاف الناس حول الرسول وعلي (عليهما الصَّلاة والسلام) إلى اليوم، أما الأمويون والعباسيون ومن إليهم من الحكام والأمراء فكانوا يعيشون في أشد حالات كره الناس ثم يسقطون، إما بقتلهم، أو بطردهم، أو بزوال حكومتهم، وقد صار أولئك الحكام لعنة التاريخ إلى اليوم، ولم يكن ذلك إلاَّ بسبب مدهم أيدهم إلى المحرّم من المال والعرض والدم، وسنتعرض في المقام لنماذج من أفعالهم في المال فقط، وإلا فالتفصيل بحاجة إلى مجلدات.

فقد ذكر المؤرخون: إنه في القرن الثالث الهجري أُنشئ ديوان خاص يسمى ديوان المواريث، وذلك في عهد الخليفة العباسي المسمى بالمعتمد، وكان هذا الديوان مجالاً واسعاً لظلم الناس، والإعنات في مواريثهم، وأخذ مالهم بغير ما جاءت به السنة النبوية، فإن السنة التي أعلنها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه إذا مات إنسان وله مال فماله لوارثه، وإنه إذا مات إنسان وعليه كلٌّ أو عيال فعلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يعني بيت المال، وفي الرواية أن بعد إعلان ذلك أسلم عامة اليهود هناك.

فأي دين حسن هذا، إن الأموال للوارث وإن الدَّين والعيال الذين لا عائل لهم على بيت مال المسلمين.

وقد عين بعض الحكام أبا حسين علي بن عبد الملك الرقي قاضياً على حلب، فكان هذا القاضي يصادر التركات ويقول: التركة للملك وليس لأبي الحسين إلاَّ أخذ الجعالة، وقد ذكروا أيضاً أن كثيراً من الحكام كانوا يحاولون أن يعتبروا التركة من غير وارث ليستولوا عليها، وكان هذا الشيء متعارفاً ومتفشياً عند الحكام، حتى عد من محاسن أعمال عميد الجيوش حاكم بغداد في القرن الرابع الهجري أنه حمل إليه مرة مال كثير قد خلفه بعض التجار المصريين وقيل له ليس للميت وارث، فقال لا يدخل خزانة السلطان ما ليس لها، يترك إلى أن يصح خبره، فلما كان بعد مدة جاء أخ للميت بكتاب من مصر بأنه مستحق للتركة، فقصد باب عميد الجيوش وأوصل إليه الكتاب، فقضى حاجته ولما وصل التاجر إلى مصر أظهر الدعاء له، فضج الناس بالدعاء له والثناء عليه، وبلغ عميد الجيوش الخبر فسرّ به.

ولم يكن هؤلاء الحكام والخلفاء يفرقون بين المسلمين والكفار في أخذ أموالهم.

وفي التاريخ أن في القرن الثاني عشر الميلادي أعتل (ربي بتاحيا) وقال الأطباء: إنها علة الموت، ولما كان المرسوم هناك في ذلك الوقت أن تستولي الحكومة على ما يخلفه كل يهودي غريب يموت هناك وكان (ربي بتاحيا) حسن اللباس، فقد قيل أنه غني، جاء عمال الحكومة لقبض تركته، كأنه قد مات، فإنه كثيراً ما كان يؤخذ جزء من مال الأغنياء في حياتهم وهذا كان من البدع في الأموال، لأن الحكومات كانت تريد المال لأجل التباهي والتصفيق والتبذير والإسراف وما إلى ذلك مما ألمحنا إليه سابقاً، ومن الواضح أن المقررات الشرعية في الأموال من الخمس والزكاة والجزية والخراج ما كانت تكفي تلك المصارف الاعتباطية الباهضة، ولذا كثرت المصادرات وما أشبه.

ويحكى أن الوزير أبا علي بن مقلة كان يعادي أبا الخطاب ابن أبي العباس بن الفرات ولم يكن يجد إلى القبض عليه طريقاً ديوانياً، لأنه كان ترك التصرف عشرين سنة، ولزم منزله وكان يعيش على دخل ضيعته.

وكان أخشيد صاحب مصر يقوم بالمصادرات الكثيرة في هدوء من جانبه وبرود، فكان يقبض على عماله وخاصته وثقاته ويصادرهم على المبالغ الكبيرة هم وأهلهم ومن يكون في دورهم يوم المصادرة، وكان أحب الأُمور إليه أن يأخذ غلمانهم بسلاحهم ودوابهم وثيابهم، فيجعلهم بين يديه، وكان إذا أفلت أحد من المصادرة حياً لم يسلم من أخذ أمواله بعد وفاته، وكانت طريقة الأخشيد أنه إذا توفي قائد من قواده أو كاتب تعرض لورثته وأخذ منهم وصادرهم. وكذلك كان يفعل مع التجار الموسرين، ففي زمانه توفي عفاف بن سليمان البزار من تجار مصر، فأخذ الأخشيد من ميراثه نحو مائة ألف دينار.

ولما مات الوزير أبو محمد المهلبي بعد أن لبث في الوزارة ثلاث عشرة سنة فصادر حاكم العراق تركته، وأموال عياله ومن دخل إليه يوم وفاته حتى الملاحين والمكارين الذين كانوا يخدمون حاشيته، حتى استقبح الناس ذلك منه واستفضعوه.

وكذلك لما مات الصاحب بن عباد بعد أن كان وزير فخر الدولة أرسل هذا الأمير من أحاط على دار الصاحب وخزائنه، ووجد له كيس فيه رقاع من مائة ألف وخمسين ألف دينار مودعة عندهم، فطولبوا بذلك ونقل ما كان في الدار والخزائن إلى دار فخر الدولة، ولذا كان أهل المال يستعملون جميع الوسائل لإفساد خطة المصادرين، فمن ذلك أنهم كانوا يودعون أموالهم عند ناس كثيرين، ويلحنون أسماءهم، ويكنون عن ألقابهم، ولما اعتقل ابن العميد وأيقن أن القوم قاتلوه وأنه لا ينجو منهم وإن بذل ماله أخرج من جيبه رقعة فيها ثبت ما لا يحصى من ودائعه وكنوزه وذخائره فألقاها في كانون نار بين يديه، وقال للموكل به اِصنع ما أنت صانع، فوالله لا يصل من أموالي المستورة إلى صاحبك دينار واحد، فما زال يعرضه على العذاب إلى أن تلف من غير أن يخبرهم بشيء.

ولما صح عند الخليقة المتقي قتل (بجكَن) ركب المتقي إلى داره، وحفر أماكن فيها فحصل له من مال (بجكَن) ما يزيد على ألفي ألف عيناً وورقاً، ثم أمر بغسل التراب، فأخرج منه ستة وثلاثين ألف درهم، ولكن ذكر المؤرخون بأن (بجكَن) كان قد دفن أمواله في الصحراء ولم يقتصر على ما دفنه في البيوت فكان الناس يتحدثون في حياته بأنه يقتل من يعاونه في ذلك، لأن لا يدل عليه في وقت آخر، وبلغ (بجكَن) ما يقوله الناس، فأنكر ذلك، وحكى عن سنان بن ثابت ما كان يفعله إذا أراد دفن مال في الصحراء كان يحضر إلى داره بغالاً عليها صناديق فارغة، فيجعل المال في بعضها ويدخل من يريد أن يكون معه من المساعدين في البعض الآخر، ويطبق عليهم، ثم يأخذ مقود قطار البغال بنفسه، ويسير إلى حيث يريد، ثم يفتح عن الرجال فيحفرون ويدفن المال، وبعد ذلك يرد الرجال إلى الصناديق، يطبقها عليهم ويعود، فلا يدري الرجال إلى أين ذهبوا من أرض الله، ولا من أين أتوا، وكان هو يجعل لنفسه علامات يهتدي بها، وبهذه الطريقة استغنى عن القتل.

وفي زمان معز الدولة توفي خازنه أبو علي وكان رجلاً كثير التمويه، متفاقراً يظهر الفقر والاقتصاد، حتى كان معزّ الدولة يعتقد أنه بائس لا يملك شيئاً، فاستأذن الوزير المهلبي معزّ الدولة في البحث عن أمواله، واستعمل طريقة رجال الشرطة، فقبض على غلمانه، وكان يخلو ببعضهم ويرهبه ويرغبه حتى استطاع أن يعرف أن أبا عليّ الخادم طرف غلاماً مزيناً حبشياً من حجرة موسومة به وجعل في هذه الحجرة للخلوة أياماً، فذهب الوزير المهلبي إلى دار أبي علي، فالتمس حجرة المزين، فحفر فيها فظفر بمال، وكان في جملة المدفون آلة شبيهة بالميزان من خشب الساج لا شيء فيه، فعجب منها، ثم قلبها فوجد عليها كتابة خط رديء، فإذا هي أسماء قوم ورموز لا يفهم منها شيء فلم يشك الوزير أنها أسماء قوم مودعين، وأن الرموز مبلغ ما عنده من المال، ولم يزل يستعمل الدهاء والتخمين في فك الرموز ومعرفة المعاملين حتى صح له ذلك، وبطش بمن اهتدى إليه حتى حصل منهم على المال.

وكان من جراء ذلك أن أحداً من الأغنياء إذا مات جر موته النكبة لأهله، وبكل من يتصل به من الكتاب والجهابذة والأصدقاء فكانوا يهربون ويستترون ويمتنعون عن تسليم الوصيّة للحكومة، حتى لا تهتدي إلى مكان التركة ووجوهها.

وقد حدث مثل هذا عند وفاة أحد الوجهاء إلى أن تقرر التصالح على التركة أخيراً على خمسين ألف دينار تحمل إلى الخزانة.

وإذا نظر الإنسان إلى التفاوت الفاحش بين قوله سبحانه: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاَّ أن تكون تجارة عن تراض منكم)(8) وما قاله الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في مسألة الميراث وبين هذه الأُمور التي ذكرناها بعضها يعرف أن الإسلام لماذا تجمد، ثم لماذا تأخر.

وكذلك إذا قاس الإنسان بين أخذ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعليّ (عليه الصلاة والسلام) الزكاة، وبين أكل الأُمراء والخلفاء الأمويين والعباسيين ومن إليهم الزكاة، ظهر الأمر الذي ذكرناه مرة أُخرى.

ففي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) في وصيته كان يكتبها لمن يستعمله عن الصدقات: انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له، ولا تروّعنّ مسلماً ولا تجتازنَّ عليه كارهاً، ولا تأخذنّ منه أكثر من حق الله في ماله، فإذا قدمت على الحي انزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم انظر إليهم بسكينة ووقار، حتى تقوم بينهم، فسلم عليهم، ولا تخدج التحية لهم، ثم تقول: عباد الله أرسلني إليكم ولي الله وخليفته لآخذ منكم حق الله في أموالكم فهل لله في أموالكم من حق فتؤدونه إلى وليه، فإن قال قائل: لا فلا تراجعه، وإن أنعم لك منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه، أو توعده، أو تعسفه، أو ترافقه، فخذ ما آتاك من ذهب أو فضة، فإن كانت له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلاَّ بإذنه، فإن أكثرها له، فإذا أتيتها فلا تدخلها دخول متسلط عليه، ولا عنيف به، ولا تفرف بهيمة، ولا تفزعنها، ولا تسوءنّ صاحبها فيها، واصدع المال صدعين ثم خيّره، فإن اختار فلا تعرضنّ لما اختاره، ثم أصدع الباقي صدعين، ثم خيّره فإن اختار فلا تعرض لما أختاره، ولا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله في ماله، فأقبض حق الله منه، فإن استقالك فأقله، ثم أخلطهم، ثم اصنع مثل الذي صنعت أولاً، حتى تأخذ حق الله في ماله، ولا تأخذنّ عوراء ولا هرمة، ولا مكسورة ولا مهلوسة، ولا ذات عوار، ولا تأمننّ عليها إلاَّ من تثق بدينه، رافقاً بمال المسلمين، حتى يوصلها إلى وليهم ليقسمه بينهم ولا توكل بها إلاَّ ناصحاً شفيقاً وأميناً حفيظاً غير معنف، ولا مُجحفٍ، ولا ملغب، ولا متعب، ثم أحضر إلينا ما اجتمع عندك نصيّره حيث أمر الله إلى آخر الحديث(9).

وقس هذا مع ما في ديوان الإرث يقول ابن المعتز قرب أواخر القرن الثالث يشكو ما يجري على أصحاب المواريث.

وويل من مات أبــوه موســـراً           أليـــس هــذا محكـــماً مشهراً

وطال في دار البـــلاء سجــنـه           وقيـــل: مـــن يدري بأنه ابنه

فقال جيـــراني ومن يعــرفنــي           فنتفــــوا سبـــاله حتــــى فني

وأسرفوا في لكمــــه ودفعـــــه           وانطلــقت أكفــهم فــي صفعه

ولم يزل في أضيق الحبــــوس           حتــى رمــى إليـــهم بالكــيس

وتاجــــر ذي جوهـــر ومـــــال           كــان مـــن الله بحســــن حال

قيل له: عنــــدك للسلــــــــطان           ودائـــــــع غالــــــــية الأثمان

فقال: لا والله مــــا عنــــدي له           صغيـــــرة مـــن ذا ولا جليله

وإنما أربحـــــت في التــــجارة           ولم أكن في المــال ذا خسارة

فدخنـــــوه بدخـــــان التــــــبن           وأوقــــــدوه بثقـــــــال اللــين

حتى إذا مـــــلّ الحيــاة وضجر          وقال: ليس المال جمعاً في سقر

أعطاهـــــم ما طلــــبوا فانطلقا           يستعمل المشي ويمشي العنقا

فكم وكـــم مـــن رجـــل نبــــيل           ذي هيــــبة ومركـــب جلــــيل

رأيــــته يعــــــتل بالأعــــــوان           إلى الحبـــــوس وإلى الديوان

حتى أُقيم في جحــــيم الماجرة           ورأســــه كمــــثل قـــدر فائرة

وجعلـــــوا فــــي يـــده حبـــالاً           من طـــنب يقـــــطع الأوصالا

وعلقــــوه في علــــى الجـــدار           كأنــــه بــــرادة فـــي الـــــدار

وصفــــقوا قفــــاه صفق الطبل           نصـــب عــــين شامــت وخل

إذا استغاث من سعيـر الشمس           أجابــــه مستخــــرج برقـــس

وصب سبحــــان عليـــه الزيتا           فصــــار بـــــعد بـــزة كميـــتا

حتى إذا طــــال علـــــيه الجهد           ولــــم يكــــــن مـــــما أراد بد

قال: أئذنــــوا لي أسأل التجارا           قرضـــاً وإلا بعتـــــهم عقــارا

وأجلونــــي خمــــسة أيامــــــاً           وطوقـــــوني منكــــم أنعــــاماً

فضايقــــوا وجعلـــــوهـا أربعة           ولــــم يأمــل في الكلام منفعة

وجاءه المعيـــــنون الفجـــــرة           وأقرضـــــوه واحـــــداً بعشرة

وكتبوا صــــكاً ببيـــــع الضيعة           وحلّفــــوه بيمــــــين البيــــعة

ثم تأدى ما عليــــه وخـــــرج           ولم يكن يطمع في قرب الفرج

وجاءه الأعــــوان يســــــألونه           كأنهــــم كانــــوا يدللـــــــــونه

وإن تلــــكأ أخــــذوا عمــــامته           وحرشـــــوا أخدعـــه وهامته

فالآن زال كــــلّ ذاك أجـــــــمع           وأصبــــح الجور بعــدك يقمع

وما ذكره ابن جبير الرحال الأندلسي في القرن السادس الهجري مما عومل به في بعض مواضع نزوله، قال ما نصه:

[فمن أول ما شاهدنا فيها يوم نزولنا أن أطلع أُمناء إلى المركب من قبل السلطان بها لتقييد جميع ما وجد فيه، فاستحضر جميع من كان فيه من المسلمين واحداً واحداً، وكتب أسماءَهم وصفاتهم وأسماء بلادهم وسأل كل واحد منهم عما لديه من سلع أو نض ليؤدي زكاة ذلك، دون أن يبحث عما حال عليه الحول من ذلك أو ما لم يحل، وكان أكثرهم مشخصين لأداء الفريضة (الحج) لم يستصحبوا سوى زاد طريقهم، فألزموا أداء زكاة ذلك دون أن يسأل هل حال عليه الحول أم لا، واستنزل أحمد بن حسان منا ليسأله عن أبناء المغرب وسلع المركب، فطيف به مراقباً عليه السلطان أولاً، ثم على القاضي، ثم على أهل الديوان، ثم عدل على جماعة من حاشية السلطان، وفي كل يستفهم ثم يقيد قوله، فخلى سبيله وأمر المسلمون بتنزيل أسبابهم وما فضل من أمتعتهم، وعلى ساحل البحر أعوان من يتوكلون بهم، وحمل جميع ما أنزلوه إلى الديوان، فاستدعوا واحداً واحداً، وأحضر ما لكل واحد من الأسباب، والديوان قد غص بالزحام، فوقع التفتيش لجميع الأسباب ما دق منها وما جلّ، واختلط بعضهم ببعض، وأدخلت الأيدي إلى أوساطهم بحثاً عما عسى أن يكون فيها، ثم استحلفوا بعد ذلك هل عندهم غير ما وجدوا لهم أولاً، وفي أثناء ذلك ذهب كثير من أسباب الناس باختلاط الأيدي وتكاثر الزحام، ثم أطلقوا بعد موقف الذل والخزي العظيم نسأل الله أن يعظم الأجر بذلك] انتهى كلام الرحالة المذكور.

نعم ذلك الإسلام النبوي كان يستقطب الناس. أما هذا الإسلام الذي نقله هذا الرحالة وغيره فذلك كان سبب نفور الناس والتفافهم حول من ينقذهم من هؤلاء الحكام الذين كانوا يحكمون باسم الإسلام، ولو كان صليبياً غربياً، أو مغولياً شرقيا، ولذلك انفتحت البلاد أمامهم وتمكنوا من اكتساح بلاد الإسلام بلا أيّ مانع ولا دافع.

فبينما كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يمتعض إذا بقي عنده أربعة دراهم ليلاً ولم يتمكن من تقسيمها بين المسلمين كما في قصة مشهورة ويموت (صلى الله عليه وآله وسلم) ويرحل عن دار الدنيا ودرعه رهن عند يهودي لأجل أصوع من شعير لقوت عائلته.

وكان عليّ (عليه الصلاة والسلام) لا يأكل اللحم إلاَّ مرّة في كل عام يوم الأضحى، لأنه يعلم أن في هذا اليوم يأكل كل المسلمين اللحم، ويمتنع عن الشبع من الخبز، لأنه لعل هناك بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له بالقرص، ولا عهد له بالشبع.

بينما صار الخلفاء والأُمراء الأمويون والعباسيون والعثمانيون ومن إليهم يصرفون المال لأهوائهم وأغراضهم، يجعلون أموال الله دولاً وعبادة خولاً، ودينه دخلاً، لا هذا فحسب بل يجمعون الأموال الطائلة ليخلفوها من بعدهم لورثتهم.

وقد ورد في التاريخ أن هارون الرشيد خلف ثمانية وأربعين ألف ألف دينار، وكان المعتضد يستفضل في كل سنة من سني خلافته بعض النفقات مما كان يحصل عليه بيت مال الخاصة ألف ألف حتى اجتمع في بيت المال تسعة آلاف ألف دينار، وكان يريد أن يتمها عشرة آلاف دينار ثم يسبكها ويجعلها قطعة واحدة، ونذر عند بلوغ ذلك بعض النذور، وأراد أن يطرح السبيكة على باب العامة ليبلغ أصحاب الأطرف أن له عشرة آلاف ألف دينار وهو مستغن عنها، فاخترمته المنية قبل بلوغ الأمنية.

ثم جاء المكتفي بعد المعتضد، فأبلغ المدخر إلى أربعة عشر ألف ألف دينار، والأموال العامة إذا كانت تأتي إلى رئيس الدولة كان يخصص قسماً صغيراً منها للمسلمين عامة، والقسم الأكبر لخزينته الخاصة، فقد ذكروا: إن مال الخراج وضياع العامة الذي كان يرتفع من أعمال فارس وكرمان بعد إسقاط النفقات بلغ في كلّ سنة منذ عام مائتين وتسعة هجرية، إلى عام ثلاثمائة وعشرين هجرية ثلاثة وعشرين ألف ألف درهم، منها أربعة آلاف ألف درهم كانت تحمل إلى بيت مال العامة، والباقي وهو تسعة عشر ألف ألف درهم إلى بيت مال الخاصة.

كما أنهم كانوا يأخذون العشور والرسوم وذلك مما حرمه نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) منذ أول يوم، حتى قال عليّ (عليه الصلاة والسلام) كما في نهج البلاغة: إن دعاء العشّار لا يستجاب، بينما ذكر قبول أدعية الناس في وقت خاص من الليل، مما يفهم منه أن دعاء العشار أسوء من دعاء الزاني، والخمار، والقاتل، والسارق، ومن أشبههم، لكن الخلفاء والأُمراء كانوا لا يعيرون اهتماماً خاصاً بالشرعية، ولذا انسحب الإسلام من الميدان وتدرج في الضمور والذوبان حتى وصل إلى الحالة التي نشاهدها في العصر الحاضر من التأخير والتقهقر.

وقد ذكر المؤرخون: أنه كان يؤخذ في (جدة) عن كل حمل من الحنطة نصف دينار وكيل من فرد الزاملة، وعن سفط الثياب الشتوي ثلاثة دنانير، وعن سفط الدبيقي ديناران، وعن حمل الصوف ديناران، وكان يؤخذ بـ(السويف) عن كل حمل درهم، وكانت تفرض رسوم في الموانئ الإسلامية الأُخرى، وكانت الضرائب تؤخذ على الراكب الآتي من الغرب وبـ(الفرما) على مراكب الشام وكان بعضهم يأخذ نصف دينار عن كل حمل، وأكثرهم كان لا يأخذ عن الحمل إلاَّ درهماً أما العراق فكانت كثيرة المراصد في البر والبحر والنهر، وكانت البصرة مشهورة بتفتيش صعب وأعمال منكرة.

وفي عهد المقدسي كان على باب البصرة عند حدود مملكة الخليفة من حدود بلاط القرامطة ديوان للقرامطة، وديوان آخر للديلم، حتى لقد كان يؤخذ على الغنمة الواحدة أربعة دراهم أي ضعف ثمنها، وكان الديوان لا يفتح إلاَّ ساعة من النهار، وكان يؤخذ من كل حمل دخل (اليهودية) وهي القسم التجاري في أصفهان ثلاثون درهماً وكان الخراج في (طوران) يؤخذ عن الحمل ستة دراهم، إذا دخل، وكذلك إذا خرج، ومن الرفيق اثني عشر إذا دخل، وإن كان من نحو الهند فعشرون من الحمل، وإن كان من قبل السند فعلى حسب القيم.

وربما يستشكل بأن الدولة في العصر الحاضر تحتاج إلى المال بما لا تكفي فيه الضرائب الأربع: الخمس، والزكاة، والجزية والخراج.

الجواب: هذه الضرائب تكفي إذا اقتنعت الدولة بأُسلوب الإسلام المتطلب قلة الموظفين وعدم البذخ في الدوائر وكانت الحكومة انتخابية بشورى المرجعية وتعدد الأحزاب الحرة، وتفويض كل الأُمور إلى الناس حسب ما قرر في الإسلام من حرية الناس في كلّ شيء إلاَّ في المحرمات وإنما شأن الدولة الإشراف فقط، كما ذكرنا كل ذلك في جملة من الكتب المعنية بهذا الشأن، هذا بالإضافة إلى إمكان استفادة الحكومة من المباحات بدون أن تزاحم الناس.

ولسائل أن يسأل فإذا طرأ طارئ من سيل أو حرب أو زلزلة أو ما أشبه ذلك، فماذا تفعل والحكومة تحتاج إلى مال جديد؟.

الجواب: إن الناس سوف يساهمون في المساعدة باختيارهم، كما كانوا يساعدون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلياً (عليه الصلاة والسلام) في حروبهم بدون جبر من أحدهما على الناس في أخذ المال.

فإذا كانت الحكومة من الناس ديناً ودنياً ـ لا كما في الحال الحاضر حيث أن الحكومات أجنبية عنهم ديناً ودنياً بل تكون باختيار المستعمرين وبقوة السلاح كما هو واضح ـ فإن الناس يكونون راغبين آنذاك في إعطاء المال لهم لسد حوائجهم التي هي حوائج الناس.

لنفرض عدم كفاية بذل الناس باختيارهم المال الكافي لسد الحاجة الاضطرارية، فماذا نصنع؟.

الجواب: في ذلك الوقت تأتي مسألة شورى المرجعية لتجعل بأكثرية الآراء العنوان المؤقت لأخذ الناقص من الناس، ويكون ذلك من الحكم الشرعي الاضطراري المقدر بقدره، وشورى المرجعية تفعل ذلك بالتعاون مع الأحزاب الحرة الإسلامية والخبراء الاقتصاديين ونحوهم فيوزعـــون المال المضطر إليه على الناس على نحو عادل في التوزيع، لا كالضرائب الفوضوية الموضوعة الآن في كل بلاد الإسلام لمجرد شهوة الحكام في السيطرة ولجهلهم ولإرادتهم كثرة المصفقين حولهم، وتقصدهم حصول أكبر قدر من المال ليودعوه البنوك، ويرفعوا رصيدهم بذلك، بالإضافة إلى إرادتهم البذخ والترف والسرف والتجمل مما هو معروف.

الكسب بالجهد البدني

ولا يخفى أن من أنواع كسب اليد إجارة الإنسان نفسه للعمل حتى ينتفع بكسبه.

فعن ابن سنان عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألته عن الإجارة فقال: صالح لا بأس بها إذا نصح قدر طاقته، فقد آجر موسى (عليه الصلاة والسلام) نفسه واشترط فقال: إن شئت ثماني وإن شئت عشراً، فأنزل الله عزّ وجلّ فيه: (إن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك)(10).

وعن أبي الجارود عن أبي عبد الله (عليه الصلاة والسلام) قال: (سألته عن قول الله جل اسمه: (الذين يلمزون المطوّعين من المؤمنين في الصدقات)(11) قال: ذهب أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) فآجر نفسه على أن يستقي كل دلو بتمرة مختارها، فجمع مداً فأتى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعبد الرّحمان بن عوف على الباب فلمزه ووقع فيه)(12).

وفي رواية كان سلمان يسف الخوص وهو أمير على المدائن ويبيعه ويأكل منه، ويقول: لا أحب أن آكل إلاَّ من عمل يدي، وقد كان تعلم سف الخوص من المدينة، وفي رواية: أنه قال للثاني: (لأكل الشعير وسف الخوص والاستغناء به عن الناس في المطعم والمشرب وعن غصب مؤمن ادعاء ما ليس له بحق أفضل وأحب إلى الله عزّ وجلّ وأقرب للتقوى، ولقد رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أصاب الشعير أكله وفرح به ولم يسخطه)(13).

وفي رواية: ان أحدهم رأى علياً (عليه الصلاة والسلام) ومع تمر يحمله قال الراوي: فسلمت عليه وقلت له: أعطني هذا التمر أحمله، قال (عليه السلام): (أبو العيال أحق بحمله)(14).

الكسب في الوطن حصانة للعائلة من الضياع

مسألة: الاكتفاء الذاتي أن يجعل الإنسان كسبه في بلده، فإنّه لا تضيع عائلته ويكون هو القيم عليهم، وقد ورد في ذلك روايات متعددة:

فعن علي بن الحسين (عليهما السلام): (إن من سعادة المرء أن يكون متجره في بلاده، ويكون خلطاؤه صالحين، ويكون له ولد يستعين بهم)(15).

وفي رواية أُخرى عن الصَّادق (عليه الصلاة والسلام): (قال ثلاثة من السعادة: الزوجة المؤاتية، والأولاد البارّون، والرجل يرزق معيشه ببلده يغدو إلى أهله ويروح)(16).

وعن الطائي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام)، إني اتخذت رحى فيها مجلسي ويجلس إليَّ فيها أصحابي، فقال: (ذلك رفق)(17).

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (خمسة من السعادة ـ إلى أن قال ـ: ورزق المرء في بلده)، وفي رواية أخرى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (من أعطى خمساً لم يكن له عذر في ترك عمل الآخرة ـ إلى أن قال ـ: ومعيشته في بلده)(18).

أقول فاللازم أن تنظم الحياة بحيث يكون الأمر كذلك فالمدارس وساحات التدريب، والكسب، والتعليم، والمعامل، والمصانع، وغيرها تنظم لكل بلد إلاَّ بقدر الاضطرار، فإن ذلك يوجب حفظ النفس وحفظ الأهل وسهولة الحياة مهما أمكن.

الهجرة لطلب الرزق

نعم مع الاضطرار يستحب الاغتراب في طلب الرزق.

فعن عمر بن أُذينة عن الصَّادق (عليه السلام) أنه قال: (إن الله تبارك وتعالى ليحب الاغتراب في طلب الرزق).

وفي رواية أُخرى قال (عليه السلام): (اشخص يشخص لك الرزق)(19).

وفي رواية عن أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) أنه أوصى إلى ولده الحسن (عليه السلام) فقال فيما أوصى به ـ (يا بني لا فقر أشد من الجهل ـ إلى أن قال ـ: وليس للمؤمن بد من أن يكون شاخصاً في ثلاث: مرمة لمعاش، وخطوة لمعاد، ولذة في غير محرم)(20).

وعن أبي عبد الله عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهم السلام): (ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إذا أعسر أحدكم فليضرب في الأرض يبتغي من فضل الله ولا يغم نفسه)(21).

الصناعات الوطنية العمود الفقري للاقتصاد

مسألة: يلزم الاهتمام بالصناعات الوطنية مهما كانت صغيرة، وإحياؤها وتعميمها في كل أجزاء الحياة، وإني أذكر أنه حسبنا ذات مرّة قبل زهاء أربعين سنة في كربلاء الصناعات الوطنية فوصلت أعدادها إلى أربعمائة صناعة وطنية جعلت من كربـــلاء سوقاً رائجة لمختلف المدن من البصرة إلى الحدود العراقية الحجازية.

مثلاً كانت أكثر من ثلاثين من الصناعات تتخذ من النخيل، من الحبل إلى المروحة ، إلى الحصران إلى أغطية الأواني، وإلى غيرها من مائة قسم من المياه المقطرة كمياه مختلف الأزهار العطرية والطبية وما أشبه ذلك، وهكذا كانت أنواع متعددة من المخللات والحلويات والجلال والسروج والأواني والقدور التي كان يصنعها الصفارون ومن إليهم، وهكذا أنواع الآلات ومكائن الطبخ وغيرها.

ومن الصناعات التي يلزم إحياؤها الأواني الفخارية والكيزان والصحون والحباب والمطاحن والمشاجب والصناديق والكراسي والبسط والحصران والمنسوجات وما يرتبط بالنجارين والحدادين والصفارين والنساجين والعطارين والمخللين والجلالين وغيرهم مما هو كثير، وقد كانت هذه الصناعات متوفرة في العراق بكثرة كبيرة فيما قبل الجمهورية التي أطاحت بحكم الملكيين قبل ما يقارب الثلاثين سنة، حيث جاء العسكريون من عملاء الغرب باسم الجمهورية، وفتحوا الباب لمن بعدهم من الهدامين الانقلابيين بمختلف الأشكال والأسماء، وإني أذكر أنه في الحرب العالمية الثانية حيث كانت الدنيا تحترق في أتون الإبادة البشرية لم نحتج نحن في العراق إلى البضائع الأجنبية إلاَّ بأقل من عدد الأصابع، لأن كل شيء كان من نفس البلاد، وحتى لما صار السكر والقماش ببطاقة التموين قال والدي (رحمه الله): إنا نستغني عنهما، فكنا نشرب شاي الصباح بالدبس عوض السكر، كما كنا نستخدم لأجل ظهارة البسط والوسائد القنب المصنوع من نفس العراق عوض الأقمشة المستوردة التي صارت خاضعة لبطاقة التموين.

أما الآن وبعد ثلاثين سنة من استيلاء الانقلابيين العسكريين على الحكم في العراق فلا تجد من الصناعات الأربعمائة التي شاهدتها وأنا في العراق حتى العشر، فقد حطم الانقلابيون بألف اسم واسم كل الصناعات الوطنية ليستورد أمثالها بأضعاف أضعاف القيمة من بلاد أسيادهم الذين أتوا بهم.

نعم لقد حث الإسلام على هذه الصناعات ففي حديث أنه كانت الأواني التي اشتريت لجهاز فاطمة (عليها الصَّلاة والسلام) من الخزف، وعن عمرو بن أبي المقدام قال: رأيت أبا جعفر (عليه السلام) وهو يشرب في قدح من خزف(22).

وعن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يشرب في الأقداح الشامية التي يجاء بها من الشام وتهدى إليه)(23)، وفي رواية أخرى كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعجبه أن يشرب في القدح الشامي، وكان يقول: (هي من أنظف آنيتكم)(24).

وعن الطبرسي في مكارم الأخلاق عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه كان يشرب في أقداح القوارير التي يؤتى بها من الشام، ويشرب في الأقداح التي تتخذ من الخشب ومن الجلود، وروي في صفة مشربه (صلى الله عليه وآله وسلم) (انه كان يشرب في الخزف)(25).

وفي رواية أن أبا جعفر (عليه الصلاة والسلام) قال لجاريته: (اسقيني، فجاءته بكوز من أدم، فلما صار في يده قال: الحمد لله الذي جعل لكل شيء حداً ينتهي إليه حتى أن لهذا الكوز حداً ينتهي إليه، فقيل له وما حده؟ قال: يذكر اسم الله عليه إذا شرب، ويحمد الله إذا فرغ، ولا يشرب من عند عروته، ولا من كسرٍ إن كان فيه)(26).

وفي الصناعة روى عن أُم الحسن النخعية قالت مرّ بي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهما السلام) فقال: أي شيء تصنعين يا أُم الحسن؟ قالت: أغزل، قال: فقال: (أما أنه أحل الكسب)(27).

وفي رواية أُخرى عن علي (عليه الصلاة والسلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في جملة كلامه: (ونعم اللهو المغزل للمرأة الصالحة)(28).

وفي رواية أنه مرّ إبراهيم النخعي على امرأة وهي جالسة على باب دارها بكرة، وكان يُقال لها: أم بكر، وفي يدها مغزل تغزل به، فقال لها: يا أم بكر، أما كبرت، أما آن لك أن تضعي هذا المغزل، فقالت: وكيف أضعه، وقد سمعت علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول: (هو من طيبات الكسب)(29).

وعن الجعفريات بسند الأئمَّة إلى علي (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): نعم شغل المرأة المؤمنة المغزل)(30).

وفي حديث آخر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (وعلموهن الغزل)(31).

وفي رواية اللهوف، قال يزيد لعلي بن الحسين (عليهما السلام): (اذكر حاجاتك الثلاث التي وعدتك بقضائهن ـ إلى أن قال ـ قال (عليه السلام): والثانية أن ترد علينا ما أخذ منا ـ إلى أن قال (عليه السلام) ـ: وإنما طلبت ما أخذ منا لأن فيه مغزل فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) )(32).

وفي رواية قرأت عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده (عليهم السلام) قال: مرض الحسن والحسين (عليهما السلام) ـ إلى أن قال ـ: فلما غاض الله الغلامين مما بهما انطلق علي (عليه السلام) إلى جار له يهودي يُقال له شمعون بن حارى، وقال له: يا شمعون أعطني ثلاث أصيع من شعير وجزة من صوف تغزله لك ابنة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فأعطاه اليهودي الشعير والصوف، فـــانطلق إلى مـــنزل فاطمة (عليها السلام) فقال لــــها: (يا ابنة رسول الله كلي هـــذا واغزلي هذا)(33).

 

1 ـ سورة النساء: الآية 29.

2 ـ الوسائل ج13 ص216 ح1 باب 201، الكافي ج5 ص216 باب20.

3 ـ الوسائل ج13 ص216 ح2 باب 201، الكافي ج5 ص284 ح2.

4 ـ الوسائل ج13 ص216 ح3 باب20، والكافي ج5 ص283 ح1.

5 ـ الكافي ج5 ص306 ح9، الوسائل ج13 ص217 ح4 باب20.

6 ـ مثله عن الصَّادق (عليه السلام): الوسائل ج13 ص216 ج1 باب30، الكافي ج5 ص284 ح3.

7 ـ تفسر العياشي ج1 ص284 ح304، البحار ج14 ص774، تفسير الصافي ج1 ص412 و277، تفسير البرهان ج1 ص298.

8 ـ سورة النساء: الآية:29.

9 ـ نهج البلاغة (صبحي الصالح) كتاب رقم 25 ص280.

10 ـ سورة القصص: الآية 27.

11 ـ سورة التوبة: الآية 79.

12 ـ تفسير العياشي ج2 ص101 ح93، البحار ج9 ص333، البرهان ج2 ص148 الصافي ج1 ص719.

13 ـ انظر البحار ج103 ص1، أبواب المكاسب، الوسائل ج12، ص52، أبواب ما يكتسب به.

14 ـ انظر البحار ج41 ص54، تواضع أمير المؤمنين (عليه السلام).

15 ـ الخصال ج1 ص159 ح207، الكافي ح5 ص257 ح1.

16 ـ الكافي ج5 ص310 ح26.

17 ـ مثله البحار ج103 ص5، وص7 وص86، البحار ج104 ص102.

18 ـ الوسائل ج12 ص50 ح1و2 باب29، الفقيه ج3 ص95 ح6و7.

19 ـ تحف العقول ص223 ح19.

20 ـ تحف العقول ص223 ح19.

21 ـ نحوه: الوسائل ج12 ص12 ح12 باب4.

22 ـ المحاسن ص580، الوسائل ج3 ص1097 ح3 باب 76، الكافي ج6 ص385 ح3.

23 ـ الكافي ج6 ص385 ح1، الوسائل ج2 ص1096 ح1 باب76.

24 ـ الوسائل ج2 ص1096 ح2 باب76، الكافي ج6 ص386 ح8، المحاسن ص577 ح38.

25 ـ مكارم الأخلاق ص31.

26 ـ الوسائل ج17 ص205 ح9 باب 14، رجال الكشي ص143.

27 ـ الوسائل ج12 ص174 ح1 باب64، الكافي ج5 ص311 ح32.

28 ـ الوسائل ج12 ص174 ح2 باب64، علل الشرائع ص94.

29 ـ الوسائل ج12 ص174 ح3 باب64، تفسير العياشي ج1 ص150 ح494.

30 ـ قريب منه الوسائل ج12 ص174 ح2 باب64.

31 ـ انظر الوسائل ج12 ص174 ح2 ب64 مثله.

32 ـ اللهوف ص85.

33 ـ روضة الواعظين ص160.