فهرس القسم الثالث

المؤلفات

 الفقه والأحكام

الصفحة الرئيسية

 

نظافة التعامل مع الشعوب

مسألة: من أهم ما يجب على الحاكم والحكومة الإسلامية أن تتعامل مع شعبها أفضل وأنظف تعامل إنساني يمكن تعامله مع الشعوب، وذلك في جميع المجالات، وبما للكلمة من معنى، علماً بأن مهمة الحاكم والحكومة في الإسلام هو: إدارة البلاد والعباد، إدارة تؤدي إلى عمران البلاد وازدهارها، وصلاح العباد وتقدمهم تقدماً مطلوباً في جميع مجالات الحياة، ومن ذلك يلزم على الحاكم والحكومة أن تكون انتخابية واستشارية، ومتواضعة وخدومة، وحكومة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) خير أسوة في ذلك.

قال علي (عليه السلام): (أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش؟ فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات، كالبهيمة المربوطة، همها علفها، أو المرسلة شغلها تقممها(1) تكترش من أعلافها، وتلهو عما يراد بها، أو أترك سدى، أو أهمل عابثاً، أو أجر حبل الضلالة، أو أعتسف طريق المتاهة)(2).

وفي نهج البلاغة قال (عليه السلام): (إن الله تعالى فرض على أئمة العدل، أن يقدروا(3) أنفسهم بضعفة الناس كي لا يتبيغ بالفقير فقره)(4).

 

نموذج من التعامل الإسلامي

أخرج الشيخ الصدوق (رحمه الله) عن الإمام الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام): أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين ظهر الإسلام وعلت شوكته في المدينة، رأى في بعض طريقه جارية قاعدة تبكي.

فقال لها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) :ما شأنك؟

فقالت: يا رسول الله إن أهلي أعطوني أربعة دراهم لأشتري لهم بها حاجة فضاعت فلا أجرؤ أن أرجع إليهم.

فأعطاها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أربعة دراهم، وقال: اشتري بها ما أمروكِ به، وارجعي إلى أهلك.

ومضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم رجع وإذا بالجارية قاعدة على الطريق تبكي، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما لك لا تأتين أهلك؟

قالت: يا رسول الله إني قد أبطأت عليهم وأخاف أن يضربوني.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): مرّي بين يدي ودليني على أهلك، فدلّته عليهم.

فجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى وقف على باب دارهم ثم قال: السلام عليكم يا أهل الدار.

قالوا: وعليك السلام يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يشفع للجارية: ان هذه الجارية أبطأت عليكم فلا تؤاخذوها.

فقالوا: نعم، بل هي حرة لممشاك(5).

 

نموذج آخر

عن الإمام الباقر (عليه السلام) في خبر أنه رجع الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أيام حكومته في الكوفة إلى داره في وقت القيظ، فإذا امرأة قائمة تقول: إن زوجي ظلمني وأخافني وتعدى عليَّ وحلف ليضربني.

فقال (عليه السلام): يا أمة الله اصبري حتى يبرد النهار ثم أذهب معك إن شاء الله.

فقالت: يشتد غضبه وحرده علي، فطأطأ رأسه ثم رفعه وهو يقول: لا والله أو يؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع، ثم قال: أين منزلك.

فمشت تدلّه عليه، فمضى (عليه السلام) معها إلى بابه فقال: السلام عليكم، فخرج شاب، فقال علي (عليه السلام): يا عبد الله اتق الله فإنك قد أخفتها وأخرجتها.

فقال الفتى: وما أنت وذاك والله لأحرقنها لكلامك.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد سل سيفه تهديداً: آمرك بالمعروف وأنهاك عن المنكر، وأنت تستقبلني بالمنكر وتنكر المعروف.

قال:فاقبل الناس من الطرق ويقولون: سلام عليكم يا أمير المؤمنين، فسقط الرجل في يده، فقال لأمير المؤمنين: أقلني من عثرتي فوالله لأكونن لها أرضاً تطأني.

فأغمد علي (عليه السلام) سيفه، وقال للمرأة: يا أمة الله أدخلي منزلك ولا تلجئي زوجك إلى مثل هذا وشبهه.

وقال للرجل:

ودع التـــجبر والتكبر يا أخي *** إن التكبر للعــــــبيد وبــــــــيل

وأجعل فؤادك للتواضع منـزلاً *** إن التواضع بالشريف جميل(6)

ومن هذا الحديث يعرف كيف كان الإمام (صلوات الله عليه) وهو صاحب خمسين دولة حسب خارطة العالم اليوم يقوم بإدارة البلاد والعباد بمثل هذه النظافة والعدالة، والخدمة والمسؤولية.

وقد جاء في كتاب لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى بعض عماله:

(أما بعد، فإنك ممن استظهر به على إقامة الدين، وأقمع به نخوة الأثيم، وأسدّ به لهاة الثغر المخوف، فاستعن بالله على ما أهمك، وأخلط الشدة بضغث من اللين، وارفق ما كان الرفق أرفق، واعتزم بالشدة حين لا تغني عنك إلا الشدة، واخفض للرعية جناحك، وابسط لهم وجهك، وألن لهم جانبك، وآس بينهم في اللحظة والنظرة، والإرشاد والتحية، حتى لا يطمع العظماء في حيفك، ولا ييأس الضعفاء من عدلك، والسلام)(7).

 

لا للخيانة والغلول

مسألة: يحرّم الإسلام الخيانة والغلول حرمة شديدة، وخاصة خيانة الحكام وغلولهم بالنسبة إلى شعوبهم، فإنها من أشد المحرمات كما جاء في القرآن والروايات.

قال تعالى: (إن الله لا يحب الخائنين)(8).

وقال سبحانه: (ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة)(9).

ومن كتاب لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى زياد بن أبيه، وهو خليفة عامله عبد الله بن عباس على البصرة وعبد الله عامل أمير المؤمنين (عليه السلام) يومئذ عليها وعلى كور الأهواز وفارس وكرمان وغيرها:

(وإني أقسم بالله قسماً صادقاً، لئن بلغني أنك خنت من فيء المسلمين (مالهم من غنيمة، أو خراج) شيئاً صغيراً أو كبيراً، لأشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر، ضئيل الأمر، والسلام)(10).

ومن كتاب له (عليه السلام) إلى بعض عماله:

(أما بعد، فقد بلغني عنك أمر، إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك، وعصيت إمامك، وأخزيت أمانتك، بلغني أنك جردت الأرض فأخذت ما تحت قدميك، وأكلت ما تحت يديك، فارفع إليّ حسابك، واعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس، والسلام)(11).

 

نظافة التعامل مع العدو

مسألة: يجب رعاية النظافة في التعامل مع الآخرين أو يستحب ـ كل بحسبه ـ وذلك حتى في التعامل مع الأعداء والكفار، وقد ذكرنا في بعض كتبنا: أن الإسلام بعد الحث على وجوب أو استحباب رعاية حق المؤمن والمسلم أخذ يحث ويوصي بذلك حتى بالنسبة إلى الأعداء، وهذا من كمال الإسلام وميزاته حيث أنه هو الدين الوحيد من بين الأديان الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

فإن الإنسان وإن كان ممن يراعي جانب العدل والإنصاف بالنسبة إلى أصدقائه أو إخوانه، إلا أنه كثيراً ما يزيغ مع الأعداء، فإن العدو ـ بما له من اصطدام عنيف مع النفس ـ يولد في النفوس غالباً وقعاً عدوانياً، وهو كاف للخروج عن الموازين، وعلى إثر ذلك نرى أن من سب أحداً يقابل بأضعافه من الشتم والوقيعة، ومن ضرب رجلاً ضربة نراه يَتلقّى ضربات، وهكذا.

وعلى هذا يقرر الإسلام ما يلي:

 

تحجيم الردّ وتأطيره

أولاً: رد الاعتداء بمثله، لا أكثر، يعني: تحجيم الرد بقدر الاعتداء، وتأطيره في إطار نظيف، فإن المقدار الزائد اعتداء وظلم وهو محرم، وبهذا المعنى ورد: إن المظلوم قد يصبح ظالماً(12).

ويقول القرآن الحكيم: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)(13).

 

أولوية العفو

ثانياً: الحث على العفو وعدم الانتقام، وقلع جذور البغضاء والعدوان عن النفس، يقول تعالى: (وأن تعفوا أقرب للتقوى)(14).

ويقول سبحانه: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين)(15).

ويقول عزّ وجلّ: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)(16).

وقال رسول الله: (صلى الله عليه وآله وسلم): (ثلاث والذي نفسي بيده، إن كنت حالفاً لحلفت عليهن: ما نقصت صدقة من مال فتصدقوا، ولا عفا رجل عن مظلمة يبتغي بها وجه الله إلا زاده الله بها عزاً يوم القيامة، ولا فتح رجل على نفسه باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر)(17).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (العفو لا يزيد صاحبه إلا عزاً، فاعفوا يعزكم الله)(18).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (ألا أدلكم على خير أخلاق الدنيا والآخرة؟: تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك)(19).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (قال موسى: يا رب أي عبادك أعز عليك؟ قال: الذي إذا قدر عفا)(20).

إلى غيرها من الأحاديث والروايات التي تأمر بالعفو وحسن المعاشرة حتى مع الأعداء..!

 

نماذج من عفو المعصومين (عليهم السلام)

لقد عفا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن مثل: وحشي، قاتل عمه حمزة سيد الشهداء (عليه السلام) مع ما ارتكبه من عظيم الإثم وكبير الجرم(21).

وعفا (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أهل مكة(22)، مع أنهم كانوا وراء كل المؤامرات التي حيكت ضدّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه، من أول البعثة إلى أواخر عمره الشريف.

وعفا (صلى الله عليه وآله وسلم) كثيراً وعفا.

ولقد عفا الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) عن أهل الجمل(23) مع عظيم ما اقترفوه ضده، وكبير ما جنوه في حقه.

وعفا الإمام الحسن (عليه السلام) عمن كان يسبه بأمر مروان، حين أقدم الإمام الحسين (عليه السلام) على تأديبه.

وعفا الإمام الحسين (عليه السلام) عن الحر بن يزيد الرياحي(24).

وهكذا سائر الأئمة (عليهم السلام): فهذا الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) يعفو عن مثل مروان، مع أن مروان كان من أعدى أعدائه وأعداء أبيه، فإنه آذى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وأقام عليه حرباً شعواء، وآذى الإمام الحسن (عليه السلام) وسبه ورمى جنازته بالنبال، وآذى الإمام الحسين (عليه السلام) وشتمه، وكان شريكاً في التضييق عليه حتى اضطر (عليه السلام) إلى الخروج من وطنه إلى حيث قتل، ثم فرح مروان بذلك، وآذى الإمام السجاد (عليه السلام) بنفسه مرات عديدة، ومع ذلك كله، نراه (عليه السلام) يعفو عنه.

نعم، كان من عفو الإمام السجاد (عليه السلام) عن مروان: انه لما أرسل يزيد بن معاوية جيشاً لإباحة المدينة المنورة ـ فأباحوها في يوم الحرة ـ إذا بمروان يأتي إلى علي بن الحسين (عليه السلام) ويقول له: إن لي حرماً، وحرمي يكون مع حرمك، فقال الإمام (عليه السلام): افعل.

فبعث مروان بامرأته، وهي عائشة ابنة عثمان بن عفان وسائر حرمه إلى الإمام علي بن الحسين، فخرج الإمام (عليه السلام) بحرمه وحرم مروان إلى ينبع فما أصيب حرم مروان بشيء.

وهذا الإمام الباقر (عليه السلام): يعفو عن ذلك النصراني الذي قال له وبكل صلافة: أنت بقر.

فقال (عليه السلام): لا، أنا باقر.

قال: أنت ابن الطباخة.

فقال (عليه السلام): ذاك حرفتها.

قال: أنت ابن السوداء الزنجية البذية.

فقال (عليه السلام): إن كنت صدقت غفر الله لها، وإن كنت كذبت غفر الله لك.! فأسلم النصراني(25).

وهكذا كان دأب سائر أئمة أهل البيت (عليهم السلام) مما هو مذكور في كتب الأخبار والتواريخ، حيث قد ضربوا بذلك أروع الأمثلة، وأعطوا أجمل الصور والنماذج، في نظافة التعامل حتى مع الأعداء، فكيف بالتعامل مع الأحبة والأولياء؟.

 

نظافة التعامل مع غير المسلمين

مسألة: ينبغي للحاكم والحكومة الإسلامية أن تتعامل بالتي هي أحسن حتى مع غير المسلمين مما يصطلح عليهم اليوم بالأقليات، فتعاملهم أنظف تعامل عرفه البشر، ولا فرق بين كون الأقليات أدياناً كالنصارى، أو غير أديان كالبرهمية، وبذلك روايات كثيرة.

ففي المستدرك بإسناده أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عاد يهودياً في مرضه(26).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (من آذى ذمتي فقد آذاني)(27).

وقال علي (عليه السلام): (الناس أما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق)(28).

وروى الكليني في الكافي بسنده عن رجل من ثقيف وكان من عمال أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (استعملني علي بن أبي طالب (عليه السلام) على بانقيا وسواد من سواد الكوفة ـ إلى قوله ـ فقال لي: إذا أردت أن تتوجه إلى عملك فمر بي.

قال: فأتيته فقال لي: إياك أن تضرب مسلماً أو يهودياً أو نصرانياً في درهم خراج، أو تبيع دابة عمل في درهم، فإنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو)(29).

وفي (وسائل الشيعة): أن الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) كان يمشي في أزقة الكوفة، فنظر إلى رجل يستعطي الناس، فقال (عليه السلام): ما هذا؟

فقالوا: إنه نصراني كبر وشاخ ولم يقدر على العمل، وليس له مال يستعيش به، فيتكفف الناس.

فقال الإمام (عليه السلام) في غضب: استعملتموه على شبابه حتى إذا كبر تركتموه؟

ثم جعل الإمام (عليه السلام) لذاك النصراني من بيت مال المسلمين مرتباً خاصاً ليعيش به حتى يأتيه الموت(30).

ومن هذا المنطلق الإنساني، أمر الإسلام بقبول إسلام الكافر فوراً، من دون شروط مسبقة أو شك في إسلامه.

قال تعالى: (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً)(31).

وعليه: فمن قال: (أشهد أن لا اله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)) أصبح كسائر المسلمين من دون أي فرق وتمييز.

 

رعاية المعاهدات الدولية

مسألة: يجب على الحاكم والحكومة الإسلامية أن تحافظ على حسن تعاملها مع جميع الدول، سواء المجاورة منها أو البعيدة، مسلمة وغير مسلمة، وأن تراعي جميع المعاهدات الدولية التي تعقدها مع الدول الأخرى، حتى غير الإسلامية منها، فإن الإسلام قد أمر باحترام كل ذلك.

قال تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون)(32).

فإن هذه الآية نزلت في (خزاعة) و(بني مدلج) حيث صالحوا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) على أن لا يقاتلوا المسلمين، ولا يعينوا أحداً عليهم(33)، فعقد المسلمون معهم العهود والمواثيق، وأقاموا معهم الروابط الحسنة، وبروهم وأحسنوا إليهم، وذلك حسب قانون المعاهدات العالمية الحسنة، التي يجعلها الإسلام بين بني الإنسان، فالإنسان نظير الإنسان، كما مرّ عن أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال: (الناس إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق)(34)، فلم يقاطع المسلمون الذين لم يحاربوهم ولم يعملوا على إخراجهم، بل تعاملوا حتى مع من حاربهم أحسن تعامل، كما لا يخفى على من راجع التاريخ.

 

لا للاستبداد الديني

مسألة: لا يجبر الإسلام أحداً على أن يسلم، فإنما هو بالإقناع والرضى، وليس بالجبر والإكراه.

قال تعالى: (لا إكراه في الدين)(35).

ومن الأدلة على ذلك: أن في مكة المكرمة والمدينة المنورة وما حولهما من القرى والأرياف كان يعيش فيها ـ وبكثرة ـ اليهود، والنصارى، والمشركون، حتى وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يجبرهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على الإسلام، بل تركهم وشأنهم.

وهكذا كان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، والإمام المجتبى (عليه السلام) وبقية الأئمة من أهل البيت (عليه السلام)، وذلك تطبيقاً منهم (عليهم السلام) لما جاء في القرآن الكريم.

قال تعالى: (إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً)(36).

وقال سبحانه: (قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً)(37).

وقال عزّ وجلّ: (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً)(38).

وقال تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)(39).

وقال سبحانه: (وهديناه النجدين)(40).

وقال تعالى: (فذكر إنما أنت مذكّر لست عليهم بمسيطر)(41).

إلى غيرها من الآيات التي تدل على نفي الجبر والإكراه، والدكتاتورية والاستبداد.

ومن الأدلة على ذلك: احتجاجات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أصحاب الأديان والمبادئ ـ كما في كتاب الاحتجاج ـ وإفحامهم، وإيقافهم على بطلان دينهم ومبدئهم، ومع ذلك كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يجبرهم على الإسلام.

وقصة نصارى نجران الذين نزلت فيهم آيات عديدة، وقد أمر الله رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمباهلتهم، ولم يأمره بإجبارهم وإكراههم على الإسلام، خير دليل على ذلك.

 

إصدار العفو العام

مسألة: ينبغي على الحاكم الإسلامي والحكومة الإسلامية إذا قامت، إصدار العفو العام عن كل من أجرم قبل قيام الحكم الإسلامي، كما عفا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أهل مكة، وعفا أمير المؤمنين (عليه السلام) عن أهل البصرة، فإن العفو هو الطابع العام للسياسة الإسلامية ويدل على ذلك عمومات أدلة العفو التي أشرنا إليها سابقا.

وهكذا بالنسبة إلى المجرمين بعد قيام الدولة، ولكن بالمقدار الذي لا يخل بحقوق الناس والأمن العام، كما يظهر ذلك من قصة عفوه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الفارين من الزحف مع أن الفرار من الزحف من المعاصي الكبيرة، قال تعالى: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير)(42).

ولكن مع ذلك عفا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الذين فروا من الزحف يوم أحد وتركوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحيداً في نفر قليل من أصحابه بين جمع من الأعداء.

وقد عفا الله تعالى عنهم بقوله عزّ وجلّ: (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعدما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين)(43).

(إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم )(44).

وهذا كله من النظافة بالمعنى الأعم كما لا يخفى.

وفي المناقب قال: (وبعث أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى لبيد بن عطارد التميمي في كلام بلغه عنه، فمر به أمير المؤمنين (عليه السلام) في بني أسد فقام إليه نعيم بن دجاجة الأسدي فأفلته، فبعث إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) فأتوه به، وأمر أن يضرب، فقال له: نعم والله إن المقام معك لذل، وإن فراقك لكفر.

فلما سمع ذلك منه قال: قد عفونا عنك، إن الله عزّ وجلّ يقول: (ادفع بالتي هي أحسن السيئة)(45)، أما قولك: إن المقام معك لذل فسيئة اكتسبتها. وأما قولك: إن فراقك لكفر فحسنة اكتسبتها فهذه بهذه)(46).

1ـ تقممها: التقاطها للقمامة، أي الكناسة.

2ـ نهج البلاغة: الكتاب 45.

3ـ يقدروا أنفسهم: أي يقيسوا أنفسهم، يتبيغ: يهيج به الألم فيهلكه.

4ـ نهج البلاغة: الخطبة 209.

5ـ الخصال: ص490، وأمالي الصدوق: ص238 المجلس الثاني والأربعون.

6ـ مناقب آل أبي طالب: ج2 ص106. وبحار الأنوار: ج41 ص57 ب105 ح7.

7ـ نهج البلاغة: الكتاب 46.

8ـ سورة الأنفال: الآية 58.

9ـ سورة آل عمران: الآية 161.

10ـ نهج البلاغة: الكتاب 20.

11ـ نهج البلاغة: الكتاب: 40.

12ـ راجع سفينة البحار: مادة (ظلم) وفيه عن الصادق (عليه السلام): (ان العبد ليكون مظلوما فما يزال يدعو حتى يكون ظالما).

13ـ سورة البقرة: الآية 194.

14ـ سورة البقرة: الآية 237.

15ـ سورة النحل: الآية 126.

16ـ سورة الأعراف: الآية 199.

17ـ مجموعة ورام: ج1 ص125 باب الغضب.

18ـ مستدرك الوسائل: ج9 ص6 ب95 ح10039.

19ـ الكافي: ج2 ص107 ح2.

20ـ راجع بحار الأنوار: ج64 ص311 ب14 ح45.

21ـ راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم) ج1-2 للإمام المؤلف.

22ـ راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم) ج1-2 للإمام المؤلف.

23ـ راجع كتاب (الحكومة الإسلامية في عهد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)). للإمام المؤلف.

24ـ مثير الأحزان: ص59.

25ـ المناقب: ج4 ص207.

26ـ مستدرك الوسائل: ج2 ص77 ب6 ح1462.

27ـ من لا يحضره الفقيه: ج4 ص124 ب2 5258.

28ـ نهج البلاغة: الكتاب 53.

29ـ الكافي: ج3 ص450 ح8.

30ـ راجع وسائل الشيعة: ج11 ص49 ب11.

31ـ النساء: 94.

32ـ سورة الممتحنة: الآية 8 و9.

33ـ راجع تفسير مجمع البيان، سورة الممتحنة: ج5 ص271.

34ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج17 ص32 ب53.

35ـ سورة البقرة: الآية 256.

36ـ سورة المزمل: الآية 19، وسورة الإنسان: 29.

37ـ سورة الفرقان: الآية 57.

38ـ سورة الإنسان: الآية 3.

39ـ سورة الأعراف: الآية 157.

40ـ سورة البلد: الآية 10.

41ـ سورة الغاشية: الآية 21-22.

42ـ سورة الأنفال: الآية 16.

43ـ سورة آل عمران: الآية 152.

44ـ سورة آل عمران: الآية 155.

45ـ سورة المؤمنون: الآية 96.

46ـ مناقب آل أبي طالب: ج2 ص113.