المؤلفات |
نظافة الحرب |
مسألة: الحرب في الإسلام هي خلاف الأصل، ولذا يقتصر فيها على أقصى موارد الضرورة، وقد راعى الإسلام في الحرب نظافة لم تر البشرية مثلها قط رغم كثرة المنظمات الدولية اليوم التي تدعي بأنها تراقب الحروب، وتندد بالانتهاكات التي تتكرر فيها. ولا بأس هنا بذكر بعض ما جاء من وصايا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وذكر بعض المسائل الشرعية والنماذج العملية من سيرة النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) في هذا الخصوص. ففي الكافي عن الصادق (عليه السلام) قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أراد أن يبعث سرية، دعاهم فأجلسهم بين يديه، ثم يقول: سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله… لا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا صبياً، ولا امرأة، ولا تقلعوا شجراً، إلا أن تضطروا إليها، وأيما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى رجل من المشركين، فهو جار حتى يسمع كلام الله، فإن تبعكم فأخوكم في الدين، وان أبى فأبلغوه مأمنه، واستعينوا بالله عليه)(1). وفي هذه الوصية أجمل وثيقة لحقوق الإنسان عرض على العالم في مجال الحرب والعسكر، فإنه لم يسبق له مثيل، ولم يأت له نظير، فهل هناك من يوصي جيشه بأن يكون حربه لله وفي سبيل الله، وأن لا يغل ولا يختلس شيئا من الأموال والغنائم لأن الله تعالى يقول: (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة)(2) وأن لا يمثّل بقتيل، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور)(3)، وأن لا يجهز على جريح، وإلى آخر ما في الوصية من بنود أخلاقية ومواد إنسانية ؟
|
المستثنى قتلهم في الحرب |
ثم إن الإسلام قد استثنى من قتل الأعداء المتواجدين في ساحة القتال والحرب، قتل عشر طوائف من الكفار المحاربين ـ أو أربع عشرة طائفة على قول بعض آخر من الفقهاء ـ فإنهم لا يقتلون ولا يصابون بأذى رغم تواجدهم في المعركة، وهذا من ميزات الإسلام التي لا توجد في غيره. وهؤلاء هم: 1 ـ الشيخ الفاني الذي لا يقدر على حمل السلاح. 2 ـ المرأة التي لا تشترك في الحرب، وان كانت تسعف الجرحى والمحاربين وتساعدهم في المأكل والملبس ونحو ذلك. 3 ـ الطفل قبل بلوغه البلوغ الشرعي، وهو إكمال خمس عشرة سنة غالباً. 4 ـ من به الشلل والزمن وكل مقعد لا يقوم على رجليه. 5 ـ الأعمى. 6 ـ كل مريض أقعده المرض. 7 ـ الرسول الذي يأتي برسالة من الكفار المحاربين إلى المسلمين. 8 ـ الراهب المنشغل بعبادته، وان كان مع المحاربين، ويدعو لهم بالنصر ولكنه لا يشترك في الحرب عملياً. 9 ـ المجنون. 10 ـ كل من لا مصلحة انتصارية في قتله. وأضاف عدد من الفقهاء أربع طوائف أخر لا يقتلون أيضاً وهم: 11 ـ الفلاح والمزارع الذي يعمر الأرض بالزرع. 12 ـ أصحاب الصناعات، كالمهندسين، والمخترعين، ونحوهم. 13 ـ أصحاب الحرف كالنجار، والصائغ، ونحوهم. 14 ـ الخنثى.
من نصوص الاستثناء ويدل على ذلك نصوص مذكورة في المفصلات، نشير إلى بعضها: روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) انه سئل عن النساء كيف سقطت الجزية عنهن ورفعت عنهن؟ قال: فقال: (لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن قتل النساء والولدان في دار الحرب، إلا أن يقاتلن، فإن قاتلت أيضاً، فأمسك عنها ما أمكنك ولم تخف خللا. فلما نهى عن قتلهن في دار الحرب كان في دار الإسلام أولى. ولو امتنعت أن تؤدي الجزية لم يمكن قتلها، فلما لم يمكن قتلها رفعت الجزية عنها. ولو امتنع الرجال أن يؤدوا الجزية كانوا ناقضين للعهد، وحلت دماؤهم وقتلهم، لأن قتل الرجال (المحاربين) مباح في دار الشرك. وكذلك المقعد من أهل الذمة، والأعمى، والشيخ الفاني، والمرأة، والولدان، في أرض الحرب، فمن أجل ذلك رفعت عنهم الجزية)(4).
عدم البدء بالقتال ومن سياسة الإسلام الإنسانية في الحرب: انه لم يبدأ بحرب قط، فجميع الحروب والغزوات التي وقعت في حياة الرسول العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وبقية الأئمة الطاهرين من مثل الإمام الحسين (عليه السلام) كانت دفاعية، فلم يكن الإسلام يوماً ما يذهب إلى الكفار ليشن عليهم الحرب جزافاً واعتباطاً، وقد فصلنا ذلك في بعض كتبنا. كما أن من آداب الحرب في الإسلام انه لم يبدأ بالحرب إلا بعد الصبح، حتى أن في غزوة (ذات السلاسل) حينما تمكن المسلمون من الكفار ليلاً، لم يهجموا عليهم، لأن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أبى أن يهاجمهم ليلاً، ولذلك نزلت الآية المباركة: (والعاديات ضبحاً فالموريات قدحاً فالمغيرات صبحاً)(5))(6). وفي وصية للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أوصى بها عسكره قبل لقاء العدو قائلا: (لا تقاتلوهم حتى يبدأوكم، فإنكم بحمد الله على حجة، وترككم إياهم حتى يبدأوكم حجة أخرى لكم عليهم، فإذا كانت الهزيمة بإذن الله، فلا تقتلوا مدبراً، ولا تصيبوا معوراً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تهيجوا النساء بأذى، وإن شتمن أعراضكم، وسببن أمراءكم، فإنهن ضعيفات القوى والأنفس والعقول، إنا كنا لنؤمر بالكف عنهن وإنهن مشركات، وإن كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية بالفهر أو الهراوة فيعيّر بها وعقبه من بعده)(7). نعم، التعرض للنساء بأذى كان عاراً حتى عند بعض الجاهليين، لكنه ومع الأسف الشديد، أصبح العالم في جاهلية ثانية أشد من الأولى، حيث إن كثيراً من الحكومات يتعرضون اليوم للنساء بالأذى من سجن وضرب، وتعذيب وقتل، وليس هناك منظمات دولية قوية تنكر عليهم، وتعيّرهم بها، وتؤاخذهم وتحاسبهم عليها. وفي كتاب كتبه أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى زياد بن النضر حين أنفذه على مقدمته إلى صفين: (اعلم أن مقدمة القوم عيونهم، وعيون المقدمة طلائعهم ـ إلى أن قال: ـ وعليك بالتأني في حربك، وإياك والعجلة إلا أن تمكنك فرصة، وإياك أن تقاتل إلا أن يبدأوك، أو يأتيك أمري، والسلام عليك ورحمة الله)(8).
الأمان لأهل الحرب ومن سياسة الإسلام الإنسانية في الحرب، احترام الأمان الذي يعطيه المسلم لأحد الكفار أو لمجموعة منهم، وذلك حسب ما ذكر في كتاب الجهاد وما جاء في الروايات، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إن علياً (عليه السلام) أجاز أمان عبد مملوك لأهل حصن من الحصون وقال (عليه السلام): هو من المؤمنين)(9). وعن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، انه قال: خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مسجد الخيف فقال: (رحم الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها، وبلغها إلى من لم يسمعها… فإذا آمن أحد من المسلمين أحداً من المشركين، لم يجب أن تخفر ذمته)(10).
لا لتلويث المياه والأجواء ومن سياسة الإسلام الإنسانية في الحرب، عدم تلويث أجواء أو مياه العدو بالسم، ولا قطع الماء عنهم، ولا الغدر بمواثيق الصلح وما أشبه، وبذلك روايات كثيرة: فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يلقى السم في بلاد المشركين)(11). كما نهى (صلى الله عليه وآله وسلم) عن إلقاء السم في مياههم. وكذلك نهى عن قطع الماء على العدو، فإن في غزوة خيبر اقترح البعض قطع الماء الذي كان يدخل حصون خيبر، قال عن ذلك: بأنه أقرب الطرق لاستسلام يهود خيبر وفتح قلاعهم، فأبى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك.
لا للغدر بمعاهدات الصلح وأما بالنسبة إلى النهي عن الغدر بمعاهدات الصلح وما أشبه، فإنه قد وردت روايات بذلك. فعن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قريتين من أهل الحرب، لكل واحدة منهما ملك على حدة اقتتلوا ثم اصطلحوا، ثم أن أحدا من الملكين غدر بصاحبه، فجاء إلى المسلمين فصالحهم على أن يغزوا تلك المدينة، فقال أبو عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا ينبغي للمسلمين أن يغدروا، ولا يأمروا بالغدر، ولا يقاتلوا مع الذين غدروا، ولكنهم يقاتلون المشركين حيث وجدوهم، ولا يجوز عليهم ما عاهد عليه الكفار)(12).
نظافة التعامل مع الأسرى مسألة: ينبغي للقائد المسلم والجيش الإسلامي حسن التعامل مع أسرى الحرب، فإن التعامل مع الأسرى في الإسلام هو أنظف تعامل عرفته البشرية إلى اليوم، وذلك ما أكدت عليه النصوص والروايات الشريفة: فعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (كان علي (عليه السلام) إذا أخذ أسيراً في حروب الشام أخذ سلاحه ودابته واستحلفه أن لا يعين عليه)(13). وفي البحار عن (المناقب) قال: (وأسر مالك الأشتر يوم الجمل مروان بن الحكم فلم يزد الإمام (عليه السلام) على معاتبته وأطلقه)(14). ولما انتصر علي (عليه السلام) في حرب الجمل، قالت عائشة: (ملكت فاسجح) يعني: اعف بفضلك. قال في البحار: فعفا عنها أمير المؤمنين (عليه السلام) ثم جهزها أحسن الجهاز، وبعث معها بتسعين امرأة أو سبعين يرافقنها ـ وهن في ملابس الرجال ـ حفاظاً عليها من البصرة إلى المدينة(15). كما عفا أمير المؤمنين (عليه السلام) عن أهل البصرة، وعن المشتركين في الحرب، والمساهمين فيها، وحتى عن رؤوس أصحاب الجمل، مثل عبد الله بن الزبير وغيره، ففي البحار عن المناقب: إن عائشة بعثت أخاها محمد بن أبي بكر إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) تطلب منه الأمان والعفو لعبد الله بن الزبير. فآمنه أمير المؤمنين (عليه السلام) وآمن معه سائر الناس ممن اشتركوا في حرب الجمل(16). وفي المناقب: (لما قتل علي (عليه السلام) أصحاب النهر جاء بما كان في عسكرهم، فمن كان يعرف شيئاً أخذه، حتى بقيت قدر ثم رأيتها بعد قد أخذت)(17).
اكرموا كريم القوم وفي العدد القوية، عن محمد بن جرير الطبري قال: لما ورد سبي الفرس إلى المدينة، أراد عمر بن الخطاب بيع النساء وأن يجعل الرجال عبيداً، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أكرموا كريم كل قوم. فقال عمر: قد سمعته يقول: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه، وإن خالفكم. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): هؤلاء قوم قد ألقوا إليكم السلم، ورغبوا في الإسلام، ولا بد من أن يكون لي فيهم ذرية، وأنا أشهد الله وأشهدكم، إني قد أعتقت نصيبي منهم، لوجه الله. فقال: جميع بني هاشم قد وهبنا حقنا لك أيضاً، فقال: اللهم اشهد أني قد أعتقت ما وهبوا لي لوجه الله، فقال المهاجرون والأنصار: وقد وهبنا حقنا لك يا أخا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) . فقال: اللهم اشهد أنهم قد وهبوا لي حقهم وقبلته، وأشهدك إني قد أعتقتهم لوجهك. فقال عمر: لم نقضت علي عزمي في الأعاجم، وما الذي رغبك عن رأيي فيهم؟ فأعاد عليه ما قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في إكرام الكرماء. فقال عمر: قد وهبت لله ولك يا أبا الحسن، ما يخصني وسائر ما لم يوهب لك. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): اللهم أشهد على ما قاله، وعلى عتقي إياهم، فرغب جماعة من قريش أن يستنكحوا النساء فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): هؤلاء لا يكرهن على ذلك ولكن يخيرن، فما اخترنه عمل به)(18) الخبر.
|
نظافة القانون ونظافة التطبيق |
مسألة: إن القانون في الإسلام من أنظف ما يكون، كما شهد به الخبراء وعلماء القانون، مضافاً إلى الواقع الخارجي والتاريخ الماضي والمعاصر. ومن ثم يجب أن يكون تطبيق هذا القانون أيضا من أنظف ما يكون، علماً بأن تشريع القوانين خاص بالشارع المقدس، وليس لغيره سوى التطبيق. وقد شهد التاريخ واعترف المحققون بأمانة التنفيذ، ونظافة التطبيق للقوانين الإسلامية التي طبقها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة الطاهرون (عليهم السلام) نظافة جذبت إليها النفوس، واستهوت لها القلوب، حتى دخل الناس في دين الله أفواجا، وآمنوا به زرافات زرافات. وكذلك يجب على كل من يتصدى لإدارة البلاد والعباد في الإسلام، ويأخذ على عاتقه تطبيق قوانين الإسلام، أن يسعى جاهداً ـ في ظل شورى المراجع ـ لأن تكون إدارته وتطبيقه في أعلى درجات النظافة والنزاهة، وإلا كان عليه وزر تشويه سمعة الإسلام، وإثم تمويه قوانينه العادلة، كما يفعله أولئك الذين يطبقون من الإسلام قانون عقوباته فقط ومن دون رعاية لشرائط العقوبات الكثيرة التي اشترطها الإسلام في إجراء الحدود الشرعية، وتفصيل الكلام في كتاب (فقه القانون).
نماذج من نظافة التطبيق في التاريخ: انه عندما أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تطبيق قانون (وانذر عشيرتك الأقربين)(19) أخذ يدعو أقرباءه وعشيرته إلى طعام استضافهم به، فسقاهم وأطعمهم، ثلاثة أيام ثم عرض عليهم الإسلام بأمانة ونظافة وبدون أي التواء وختل(20). وعندما أراد (صلى الله عليه وآله وسلم) تطبيق قانون الإنذار العام وإبلاغ الإسلام إلى الجميع، صعد على الصفا ونادى في الناس قائلا: كيف محلي عندكم؟ فأجابوا: إنك الصادق الأمين. عندها قال: فلو أخبرتكم بأن وراء هذا الجبل جيشا جاهزاً، وأنذرتكم بأنه يريد الإغارة عليكم، والقتل والنهب فيكم، فهل تصدقوني؟ فلما أجابوه بنعم، قال: فإني نذير لكم بين يدي الساعة .. قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا(21). وعندما أراد تطبيق قانون الهجرة، مهّد لهجرته المباركة باللقاء مع شبان المدينة. وزرع الإيمان في قلوبهم، ونشر الإسلام في ربوعهم، ثم في ليلة الهجرة أمر عليا (عليه السلام) بالمبيت مكانه، والنوم على فراشه، ثم خرج (صلى الله عليه وآله وسلم) نحو المدينة بعد أن وصى علياً (عليه السلام) برد الودائع والأمانات التي أودعت عنده (صلى الله عليه وآله وسلم) وقضاء ما عليه من ديون، فخرج من مكة بأمانة ونظافة ودخل المدينة بنزاهة وطهارة، فأحبه الناس لطهارته (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمانته، والتف حوله احتفاءً بنزاهته وقداسته(22).
وهكذا كان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث طبق قوانين الإسلام بكل أمانة ونظافة، وقدسية وطهارة. فمثلاً بالنسبة إلى قانون وجوب حفظ بيضة الإسلام نرى حسن تطبيقه (عليه السلام) له في موقفه تجاه خلافته بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه لما رأى أن الناس نكثوا بيعتهم له، احتج عليهم بالتي هي أحسن، وأثبت بالدليل والبرهان حقانيته بالخلافة، وعدم شرعيتها لغيره، من دون أن يحاربهم ويخرج عليهم بالسيف، مع أنه كان من حقه ذلك، وإنما لم يفعل ذلك لأنه (عليه السلام) رأى أن قوى الكفر والشرك قد أحاطوا بالمسلمين من كل جانب، وبقوا يتربصون بالمسلمين بعد ارتحال نبيهم، ويتحينون فرصة انشغالهم بحرب داخلية حتى ينقضّوا عليهم ويقضوا على الإسلام بالمرة. وفي قصة ما أسموه بالشورى لما عرضوا عليه (عليه السلام) الخلافة بشرط تطبيق سيرة الشيخين، لم يقبل بالشرط وأعرض عن الخلافة، وغيره قبل بالشرط ولم يعمل به، وكان بمقدور الإمام (عليه السلام) أن يفعل كما فعل غيره، لكنه (عليه السلام) لم يفعل حفاظا على قانون الصدق والأمانة، والنظافة والطهارة، وحفاظاً على الإسلام وعلى سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا والحق كان مع علي وعلي مع الحق(23). وهكذا لم يقدم (عليه السلام) على قتل قاتله ابن ملجم وكان يعلم بأنه قاتله وقد أخبر بذلك أصحابه ومنعهم عن قتلهم له لما أرادوا ذلك، رعاية لقانون (لا قصاص قبل الجناية)، وإلى غير ذلك.
|
لا للجواز ولا الجنسية |
مسألة: ليس في الإسلام جواز ولا جنسية ولا إقامة ولا هوية ولا ما أشبه مما ابتدعه الاستعمار، فإن الإسلام يحرّم كل القيود والأغلال التي تعرقل تقدم الإنسان، وتثقل كاهله، وتحد من حرياته، وما جاء به الغرب في بلادنا وفرضه علينا هو تحقير للإنسان وتثقيل لكاهله وتقييد لحرياته وتكبيل ليديه ورجليه حتى لا يستطيع التقدم والتحضر والنمو والازدهار، فيتقدم عليه غيره ممن أخذوا يرفضون هذه البدع ولم يخضعوا لها. قال تعالى: (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)(24). وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (الناس مسلطون على أموالهم)(25) وكذلك على أنفسهم. وقال (عليه السلام) :(لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حرا)(26). وحيث إن أمثال هذه الأمور: الجنسية والجواز وما أشبه تنافي حرية الإنسان المسلم، أخذ يحاربها العلماء فقد نقل عن العالم الكبير (الميرزا صادق آقا التبريزي رحمه الله)، أنه لما حدث قانون الجنسية والجواز والهوية والإقامة في إيران، عارضه وأفتى بتحريم الخضوع له، حتى نقل انه أفتى بعدم جواز الحج إلى بيت الله الحرام إذا توقف الحج على الخضوع للجواز والجنسية، باعتباره محرماً أشد ومزاحماً أعظم لوجوب الحج.
|
لا للحدود الجغرافية |
مسألة: الحدود الجغرافية المصطنعة بين بلاد الإسلام من المحرمات الشرعية، فإنها توجب تبديد شمل المسلمين وتفريق جمعهم وهي مضادة لوحدتهم التي صرح بها القرآن الحكيم في أكثر من آية وصرحت بها الأحاديث الشريفة العديدة. قال تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم)(27). وقال سبحانه: (إنما المؤمنون أُخوة)(28). وقال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا)(29). وقال سبحانه: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)(30). وقال تعالى: (ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون)(31). وقال سبحانه: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات)(32). وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (يد الله مع الجماعة)(33). وقال (عليه السلام): (إياكم والفرقة)(34). نعم، إنهم عبر هذه الحدود المصطنعة وغيرها بددوا شملنا وفرقوا جمعنا، وزرعوا الخلاف بيننا وأحيوا فينا العنصريات والقوميات، ورسخوا ذلك في نفوسنا، حتى إذا أحس كل بلد منا انه خاص لنفسه ولا يمسه نفع البلد الآخر وضره، استضعفونا واستحقرونا، فنهبوا ثرواتنا وسلبوا خيراتنا، وسلطوا الحرب علينا وفيما بيننا!، فقتلونا وأزهقوا أرواحنا أو أماتونا جوعا، كما يحدث ذلك باستمرار في بلادنا، في العراق وفي إيران، وفي الحبشة والسودان، وفي لبنان والشيشان، وغيرها وغيرها. ولا مفر من ذلك كله إلا بإلغاء هذه الحدود المصطنعة، والرجوع إلى الأمة الواحدة والبلد الواحد الذي أراده الله لنا، وما ذلك على الله بعزيز. |
1ـ الكافي: ج5 ص27 ح1. 2ـ سورة آل عمران: الآية 161. 3ـ مستدرك الوسائل: ج18 ص256 ب51 ح22680. 4ـ وسائل الشيعة: ج11 ص47 ب18 ح1. 5ـ سورة العاديات: الآية 1_3. 6ـ انظر تفسير مجمع البيان: ج5 ص528 سورة العاديات. 7ـ بحار الأنوار: ج33 ص458 ب28 ح674. 8ـ بحار الأنوار: ج33 ص465 ب29 ح680. 9ـ وسائل الشيعة: ج11ص49 ب20 ح2. 10ـ دعائم الإسلام: ج1 ص378. 11ـ بحار الأنوار: ج19 ص177 ب8 ح23. 12ـ وسائل الشيعة: ج11 ص51 ب21 ح1. 13ـ مناقب آل أبي طالب: ج2 ص114. 14ـ بحار الأنوار: ج41 ص49 ب104 ح2. 15ـ بحار الأنوار: ج41 ص49 ب104 ح2. 16ـ البحار: ج32 ص176 ب3 ح132، وج41 ص49 ب104 ح2. 17ـ مناقب آل أبي طالب: ج2 ص114. 18ـ بحار الأنوار: ج46 ص15 ب1 ح33. 19ـ سورة الشعراء: الآية 214. 20ـ راجع تفسير القمي: ج2 ص124. 21ـ راجع المناقب: ج1 ص56. 22ـ راجع المناقب: ج1 ص175. 23ـ الخصال: ص496 و559. وأمالي الصدوق: ص89. 24ـ سورة الأعراف: الآية 157. 25ـ غوالي اللئالي: ج1 ص457. 26ـ نهج البلاغة: الكتاب 31. 27ـ سورة الأنبياء: الآية 92. 28ـ سورة الحجرات: الآية 10. 29ـ سورة آل عمران: الآية 103. 30ـ سورة الأنفال: الآية 46. 31ـ سورة الروم: الآية 31 و32. 32ـ سورة آل عمران: الآية 105. 33ـ الفصول المختارة: 237. 34ـ نهج البلاغة: الخطبة 127. |