فهرس القسم الرابع

المؤلفات

 الفقه والأحكام

الصفحة الرئيسية

 

قانون العقوبات ونظافة المجتمع

مسألة: أكد الإسلام على نظافة العقوبات ونزاهة قوانينه الجزائية، وبيّن أن من حكمتها نظافة المجتمع من المفاسد، وقد اشترط في إجرائها عشرات الشروط، مما جعلها متعسرة التطبيق والإجراء عادة، وربما متعذرة في بعض الأحيان، وقد ذكرنا في الفقه لحد السرقة أكثر من أربعين شرطا(1).

ثم إن الإسلام ببرامجه الوقائية قبل العلاجية ضمن نظافة المجتمع عن الجرائم، كما يدل عليه التاريخ الإسلامي الطويل، حيث تقلصت الجرائم فيه وانعدمت مما أدى إلى أن يختلف العلماء في تحديد قطع يد السارق.

ففي عهد المعتصم العباسي، جاءوا بسارق ثبت عليه الإدانة بالسرقة، وبعد ما تم الثبوت الشرعي لدى المعتصم بشأن إدانته بجريمة السرقة، توجه إلى الفقهاء المحدقين به يستفسرهم عن حكم (السارق)، فأجمع الكل على أن حكمه أن تقطع يده لقوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا)(2)، لكنهم اختلفوا في أن اليد من أين تقطع؟

فقال بعض الفقهاء، ومنهم أبو داود: تقطع يده من الكرسوع أي: الزند، لقوله تعالى في آية التيمم: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم)(3)، حيث أطلق القرآن كلمة (الأيدي) وأراد بها من الزند.

وقال آخرون من الفقهاء: بل تقطع يده من المرفق لقوله تعالى في آية الوضوء: (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق)(4). حيث أطلق القرآن كلمة (الأيدي) وأراد بها من المرفق.

هذا كله والإمام محمد بن علي الجواد (عليه السلام) كان حاضراً، ولكنه لم يتكلم بشيء، ولم يؤيد شيئاً من هذه الآراء، فتطلع (المعتصم) إلى رأي ثالث عند الإمام، حيث لم يؤيد هذه الأقوال وتوجه إلى الإمام قائلاً: ماذا تقول أنت يا ابن العم؟!.

فقال الإمام (عليه السلام): قالوا: وسمعت.

فقال المعتصم: لابد أن تقول رأيك، أي شيء عندك؟

فقال الإمام (عليه السلام): إن كان لابد من ذلك، فإنهم أخطأوا فيه السنة، فإن القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع، بأن تقطع الأصابع الأربعة فقط ويترك له الكف والإبهام.

فقال المعتصم: ولم؟.

قال الإمام: لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (السجود على سبعة أعضاء، الوجه، واليدين، والركبتين، وإبهامي الرجلين)(5)، فإذا قطعت يده من الكرسوع، أو المرفق، لم تبق له يد يسجد عليها، وقال الله تبارك وتعالى: (وإن المساجد لله) يعني به هذه الأعضاء السبعة (فلا تدعوا مع الله أحداً)(6) وما كان لله لم يقطع.

فأعجب المعتصم ذلك، فأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف والإبهام)(7)

ويظهر من هذه القصة أنه رغم مضي أكثر من مائتي سنة من تاريخ الإسلام لم يعرف بعدُ حكم قطع يد السارق تفصيلا، ولم يكن ذلك إلا لانعدام الجريمة وتقلّص السرقة وقلة الابتلاء بهذا الحكم.

 

نظافة تطبيق العقوبات

مسألة: الظاهر أن في مثل هذا الزمان الذي لم يطبق الإسلام بكامله، لا تجرى الحدود، ولا ينفّذ شيء من هذه القوانين الجزائية والعقوبات في المجتمع، وذلك كما فصلناه في بعض كتبنا، والذي يبدو للنظر ـ وان كان اللازم في هذا الباب الرجوع إلى شورى الفقهاء المراجع ـ أن على الدولة الإسلامية أن ترجئ العقوبات إلى التأديب بالسجن ونحوه مما يصلح أن يكون رادعا، لعدة سنوات، إلى أن يطبق الإسلام في كافة جوانبه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يطبق قانون العقوبات إلا بعد تطبيقه الإسلام في المدينة المنورة كاملاً، وبعد ما قلع أسباب الفساد.

هذا وقد قال تعالى: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها)(8).

وقبل التطبيق الكامل للإسلام لا يكون ذلك إصلاحاً، مضافاً إلى قانون الأهم والمهم، ولكي لا تشوه سمعة الإسلام، إلى غير ذلك من الأدلة، ومع الشك فإن الحدود تدرأ بالشبهات(9).

وعليه: فلا تطبق العقوبات ما لم تطبق قوانين الإسلام الأخرى كاملة، وما لم تتوفّر كل مستلزمات الحياة السليمة والصحيحة التي يحققها الإسلام للناس.

 

توبة المرتد الفطري

مسألة: توبة المرتد الفطري مقبولة، علماً بأن المرتد على قسمين:

1ـ ملّي: وهو الذي دخل في الإسلام باختياره ولم يكن أحد من أبويه مسلماً، وهذا قال الفقهاء جميعاً بقبول توبته لو ارتد عن الإسلام ثم رجع وتاب.

2ـ فطري: وهو الذي كان أحد أبويه أو كليهما مسلمين، فإنه ما دام صغيراً يتبع من كان مسلماً من أبويه، فإذا بلغ مسلماً وارتد بعد إسلامه، سمي بالمرتد الفطري، وهذا قد اختلف الفقهاء فيه، وقد اخترنا حسب الأدلة قبول توبته أيضاً لو ارتد ثم رجع وتاب، وذلك على ما فصلناه في الفقه.

درء الحدود بالشبهات

مسألة: الحدود تدرأ بالشبهات، موضوعية أو حكمية أو غير ذلك على ما فصلناه في الفقه، وهذا من ميزات الإسلام ومن عظيم اهتمامه بنظافة المجتمع الإسلامي، وشدة حرصه على إعفائه عن إجراء الحدود، وتطبيق قانون العقوبات عليه، ولذلك جعل الشبهة واحتمالها ـ أية شبهة كانت ـ في حق المتهم، ذريعة إلى رفع الحدّ عنه، ووسيلة إلى عفوه عن تنفيذ القانون في حقه، وكان اطراد هذا الحكم إلى درجة بحيث أصبح قاعدة فقهية معروفة على ما في الروايات: (الحدود تدرأ بالشبهات)(10).

 

لا قصاص قبل الجناية

مسألة: لا يجوز القصاص قبل الجناية، وهذا أصل متسالم عليه في الإسلام، وقد وردت به نصوص وروايات كثيرة، وهو من ميزات الإسلام الدال على شدة طهارة قوانينه ونظافتها.

قال الله تعالى: (قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذّب وإما أن تتخذ فيهم حسناً قال أما من ظلم فسوف نعذّبه)(11) أي: فلا عذاب قبل أن يصدر منه ظلم.

وقال سبحانه: (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون)(12).

وكان صاحب هذا القول (ابن أبي) فإنه كان ينوي ذلك وصرح ما ينويه بلسانه وأخبر القرآن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) به، ولكن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث لم يطبق (ابن أبي) جنايته لم يؤاخذه على مقالته.

وقد ورد أيضاً عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه كان يقول لعبد الرحمن بن ملجم: أنت قاتلي، وكان يكرر عليه هذا البيت:

أريد حياته ويريد قتلي *** عذيرك من خليلك من مراد

فيقول له ابن ملجم: يا أمير المؤمنين إذا عرفت ذلك مني فاقتلني.

فيجيبه (عليه السلام): انه لا قصاص قبل جناية.

فسمع أصحاب الإمام ذلك فجردوا سيوفهم وقالوا: يا أمير المؤمنين من هذا الذي تخاطبه بمثل هذا الخطاب مراراً وأنت أمامنا وولينا، وابن عم نبينا؟ فمرنا بقتله.

فقال لهم: اغمدوا سيوفكم، أترون إني أقتل رجلاً لم يقتل بعدُ أحداً؟

ومثله ما رواه المستدرك عن دعائم الإسلام:

(إن أمير المؤمنين (عليه السلام) أتي برجل سمع وهو يتواعده بالقتل فقال (عليه السلام): دعوه، فإن قتلني فالحكم فيه لولي الدم)(13).

 

نظافة القضاء

مسألة: القضاء الإسلامي أنظف قضاء عرفته البشرية حتى اليوم، وأبسطه وأسرعه، وهذا ليس مجرد ادعاء، بل قد أثبت صحته الواقع الخارجي، وهو واضح على من راجع كتاب القضاء من الفقه، أو نظر في قضاء علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، مضافاً إلى حرمة أخذ القاضي الرشوة، وحتى الهدية في الجملة، ولزوم أن يحكم بينهما بالعدل، إلى غير ذلك.

ففي مستدرك الوسائل: (إن أمير المؤمنين (عليه السلام) ولّى أبا الأسود الدؤلي القضاء ثم عزله. فقال أبو الأسود له: لم عزلتني وما خنت ولا جنيت؟ فقال (عليه السلام): (إني رأيت كلامك يعلو كلام خصمك)(14).

وفي الحديث: أن قاضياً كان يقضي بالحق في بني إسرائيل، فلما مات جعلت دودة تقرب من منخره لأنه جاء أخو زوجته يوماً إليه مع خصمه يتخاصمان إليه، قال القاضي في نفسه: اللهم اجعل الحق له، فلما اختصما كان الحق له، ففرح القاضي بذلك(15).

وقال (عليه السلام): (القضاة أربعة، ثلاثة في النار وواحد في الجنة، رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بحق وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بحق وهو يعلم فهو في الجنة)(16).

 

نظافة البيئة (17)

مسألة: لقد أكدّ الإسلام على نظافة البيئة تأكيداً كبيراً، وذلك عبر الروايات الكثيرة الواردة في المياه والهواء وما أشبه.

منها: ما ورد في باب منزوحات البئر، فقد جعل مقداراً معيناً للنزح في وقوع شيء من النجاسات والقاذورات فيها، وهو مذكور في الكتب المفصلة من الفقه والحديث.

ومنها: أن الشارع أمر بابتعاد البئر عن البالوعة بقدر مذكور في الفقه، لأن البالوعة تسري إلى البئر عادة.

ومنها: أن الماء إذا تغير بالنجاسة وكان بئراً أو نهراً أو ما أشبه، فيجب تطهير البئر بالنزح منها حتى ينتهي التغيير، وعدم استعمال ماء النهر أو ما أشبه إلا بعد زوال التغير، وإذا كان الماء كرا فتغير طعمه أو لونه أو ريحه بالنجاسة، كان اللازم اجتنابه، كذا يلزم اجتناب الماء إذا لم يكن كراً ولاقى نجساً وان لم يتغير، وماء الكر على قول ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار.

ومنها: أن الشارع نهى عن استعمال الماء المضاف إذا لاقى النجس ولو كان كثيراً.

ومنها: أن الشارع أمر بصب كف من الماء في أطراف الماء القليل حين يريد غسل الجنابة حتى لا يرجع ماء الغسل إلى ذلك الماء القليل فيوجب وساخته أو نجاسته.

فعن علي بن جعفر عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل يصيب الماء في ساقية أو مستنقع أيغتسل فيه للجنابة، أو يتوضأ منه للصلاة، إذا كان لا يجد غيره والماء لا يبلغ صاعاً للجنابة ولا مداً للوضوء وهو متفرق؟ فكيف يصنع وهو يتخوف ان يكون السباع قد شربت منه؟

فقال (عليه السلام): إذا كانت يده نظيفة فليأخذ كفاً من الماء بيد واحدة فلينضحه خلفه، وكفا عن أمامه، وكفاً عن يمينه، وكفاً عن شماله، فإن خشي أن لا يكفيه غسل رأسه ثلاث مرات ثم مسح جلده بيده فإن ذلك يجزيه، وإن كان الوضوء غسل وجهه ومسح يده على ذراعيه ورأسه ورجليه، وان كان الماء متفرقاً فقدر أن يجمعه وإلا اغتسل من هذا ومن هذا، وإن كان في مكان واحد وهو قليل لا يكفيه لغسله فلا عليه أن يغتسل ويرجع الماء فيه فإن ذلك يجزيه)(18).

وعن الصادق (عليه السلام) أنه (سئل عن الرجل ينتهي إلى الماء القليل في الطريق، فيريد أن يغتسل وليس معه إناء والماء في وهدة، فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء كيف يصنع؟ قال: ينضح بكف بين يديه، وكف من خلفه، وكف عن يمينه، وكف عن شماله ثم يغتسل)(19).

وعن الكاهلي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إذا أتيت ماءً فيه قلة، فانضح عن يمينك وعن يسارك وبين يديك وتوضأ)(20).

 

لا لتلويث البيئة

مسألة: لقد نهى الإسلام نهياً بالغاً عن تلويث البيئة بشكل عام، كما ورد النهي عن تلويث الطرق والساحات والبساتين وما أشبه ذلك في روايات كثيرة.

ففي الخبر: أنه قال رجل لعلي بن الحسين (عليهما السلام) : (أين يتوضأ الغرباء، قال: يتقي شطوط الأنهار، والطرق النافذة، وتحت الأشجار المثمرة، ومواضع اللعن، فقيل له وأين مواضع اللعن، قال: أبواب الدور)(21).

وفي حديث قال: (خرج أبو حنيفة من عند أبي عبد الله (عليه السلام) وأبو الحسن موسى (عليه السلام) قائم وهو غلام، فقال له أبو حنيفة: يا غلام أين يضع الغريب ببلدكم؟ فقال: اجتنب أفنية المساجد، وشطوط الأنهار، ومساقط الثمار، ومنازل النزال، ولا تستقبل القبلة بغائط ولا بول، وارفع ثوبك وضع حيث شئت)(22)، وقوله (عليه السلام): (وارفع ثوبك) حتى لا يتلوث كما هو واضح.

وفي حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (نهى أن يتغوط على شفير بئر ماء يستعذب منها، أو نهر يستعذب، أو تحت شجرة فيها ثمرتها)(23).

وفي حديث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ثلاث من فعلهن ملعون: المتغوط في ظل النزال، والمانع الماء المنتاب، وسادّ الطريق المسلوك)(24).

وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبول أحد تحت شجرة مثمرة أو على قارعة الطريق)(25).

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عن آبائه (صلوات الله عليهم): (ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى أن يتغوط الرجل على شفير بئر يستعذب منها، أو على شفير نهر يستعذب منه، أو تحت شجرة فيها ثمرها)(26).

وفي حديث آخر قال (عليه السلام): (يتوارى خلف الجدار، ويتوقى أعين الجار، وشطوط الأنهار، ومساقط الثمار، ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، فحينئذ يضع حيث شاء)(27).

وعن علي (عليه السلام) قال: (لا تبل على المحجة ولا تتغوط عليها)(28).

ومن الواضح أن كل ذلك خلاف النظافة أو خلاف النزاهة والطهارة وهي بين واجب ومستحب كل في مورده.

 

الطرق ورعاية نظافتها

مسألة: من ملحقات نظافة البيئة وما أشبه ذلك نظافة الطرق عن كل ما يزاحمها، فقد جاء عن جماعة من علمائنا كالعلامة والشهيد وصاحب الجواهر (رحمه الله) وغيرهم من قولهم: أنه لا بأس بإخراج الرواشن والأجنحة إلى الطرق النافذة إذا كانت لا تضر بالطريق، مستدلين عليه بوجوده في جميع الأعصار والأمصار من غير نكير، وسقيفة بني ساعدة، وبني النجار أشهر من الشمس في رابعة النهار، فقد كانتا بالمدينة في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

أقول: هذا بالإضافة إلى أنه لا دليل على الحرمة فالأصل الإباحة إلا أنه ورد في الأحاديث أنه: (إذا قام القائم (صلوات الله عليه) سار إلى الكوفة وهدم بها أربعة مساجد، ولم يبق مسجد على وجه الأرض له شرف إلا هدمها وجعلها جماً، ووسع الطريق الأعظم، وكسر كل جناح خارج في الطريق، وأبطل الكنيف والميازيب إلى الطرقات، فلا يترك بدعة إلا أزالها ولا سنة إلا أقامها)(29).

وهذا يدل على لزوم تنحية الأذى عن الطريق، فإن الكنيف الذي على الطريق، والميازيب المسلطة عليها، توجب الوساخة والأذى للمسلمين، أما إذا كانت موجبة للمضرة فهي محرمة ويجب إزالتها وهدمها فإنه: (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)(30).

أما المساجد التي يهدمها الإمام (عليه السلام) فهي مساجد بنيت لأجل الشر، حالها حال (مسجد ضرار) التي أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بهدمها(31).

ولعل وجه إزالة الشرُف أنها زينة، والمساجد لا ينبغي تزيينها بشكل تصرف الإنسان عن الله سبحانه وتعالى، ولذا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا عريش كعريش موسى) بالنسبة إلى مسجده، إلى غير ذلك مما يذكر في باب المساجد.

وروى القطب الراوندي: (إن الفرات مد على عهد علي (عليه السلام) فقال الناس: نخاف الغرق، فركب وصلى على الفرات، فمر بمجلس ثقيف فغمز عليه بعض شبانهم، فالتفت إليهم وقال: يا بقية ثمود، يا صغار الخدود، هل أنتم إلا طغام اللئام، من لي بهؤلاء الأعبد، فقال مشايخ منهم: إن هؤلاء شباب جهال فلا تأخذنا بهم وأعف عنا، قال (عليه السلام): لا أعف عنكم إلاّ على أن أرجع وقد هدمتم هذه المجالس، وسددتم كل كوة، وقلعتم كل ميزاب، وطممتم كل بالوعة على الطريق، فإن هذا كله في طريق المسلمين، وفيه أذى لهم، فقالوا: نفعل، ومضى وتركهم ففعلوا ذلك كله)(32).

أقول: لعل المراد بصغار الخدود الكناية عن خستهم لأن البعض قال إن صغير الخد يكون ـ عادة ـ إنساناً ملتوياً، و(بقية ثمود) أي أنهم مثلهم في الانحراف عن الله تعالى، وقوله (عليه السلام): (من لي بهؤلاء الأعبد) يدل على أن الإمام المعصوم (صلوات الله عليه) له حق أن يجعل العبد حراً، كما له الحق بأن يجعل الحر عبداً، وقد حرر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عبيد الطائفة في قصة مشهورة.

وعلى كل فالخبر يدل على لزوم نظافة الطرق من أمثال هذه الأمور، ومنه يعرف الملاك بالنسبة إلى سائر الأمور المؤذية، بالإضافة إلى العمومات مثل: (النظافة من الإيمان)(33) وشبهه.

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (من أراد أن يحول باب داره عن موضعه، أو يفتح معه باباً غيره في شارع مسلوك النافذة، فذلك له، إلا أن يتبين أن في ذلك ضرراً بيناً، وإن كان في رائقة سكة غير نافذة، لم يفتح فيها باباً ولم ينقله عن مكان إلا برضى أهل الرائقة)(34).

هذا بالنسبة إلى النوافذ والأبواب والشرفات، وأما بالنسبة إلى الجدر في طرقات المسلمين قال: (من أخرج جدار داره إلى طريق ليس له، فإن عليه رده إلى موضعه، وكيف يزيد إلى داره ما ليس له! ولمن يترك ذلك، وهل يُترك فيها، بل يرحل عن قريب عنها ويقدم على من لا يعذره، ويدعها لمن لا يحمده ولا ينفعه)(35).

وفي حديث رواه أبو بصير عنه (عليه السلام) قال: (إذا قام القائم (عليه السلام) دخل الكوفة وأمر بهدم المساجد الأربعة حتى يبلغ أساسها ويصيرها عريشاً كعريش موسى (عليه السلام)، فتكون المساجد كلها جماء لا شرف لها كما كانت على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويوسع الطريق الأعظم فيصير ستين ذراعاً، ويهدم كل مسجد على الطريق، وكل جناح وكنيف وميزاب على الطريق)(36).

وعن علي (عليه السلام): (أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر مناديه فنادى: من ضيق طريقنا فلا جهاد له)(37).

 

إذا نظّفت الطريق

إذن نظافة الطريق مما اهتم به الإسلام، وذلك حسب الأدلة العامة والخاصة التي سبقت، بالإضافة إلى ان ذلك يوجب الأجر الجزيل، والثواب الكبير.

فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (الإيمان بضعة وسبعون بابا، أكبرها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)(38).

وفي حديث ثانٍ عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه عدّ في جملة آداب المسلم: (المميط أذى عن الطرق)(39).

وفي حديث ثالث قال: (بينما رجل في طريق وجد غصن شوك فأخذه، فنظر الله له فغفر له)(40).

وعن القطب الراوندي في دعواته عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (إن على كل مسلم في كل يوم صدقة، قيل من يطيق ذلك قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إماطتك الأذى عن الطريق صدقة، وإرشادك الضال إلى الطريق صدقة، وعيادتك المريض وأمرك بالمعروف صدقة، ونهيك عن المنكر صدقة وردك السلام صدقة)(41).

أقول: فإن الصدقة مأخوذة من الصدق، والذي يفعل هذه الأمور يكون مصدقاً لله سبحانه وتعالى ولثوابه، وكلها نوع من النظافة والجمال، والله نظيف وجميل ويثيب عليهما.

 

النظافة في الطب

مسألة: يجب على الطبيب الدقة اللازمة في تشخيصه للمرض ووصفه للدواء، وهناك روايات تدل على ضمان الطبيب والبيطار إن أخطأ في تشخيص المرض أو في وصف الدواء، وقد أفتى الفقهاء بذلك، وهذا الضمان فيما لو دقق واخطأ، فضلاً عن أنه لو تساهل أو تعمد، فإن حكمه حينئذ أشق من ذلك.

فعن الإمام الصادق (عليه السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (من تطبب أو تبيطر فليأخذ البراءة من وليه، وإلا فهو له ضامن)(42).

وعن أبي جعفر (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) قال: (إن علياً (عليه السلام) ضمن ختاناً قطع حشفة غلام)(43).

وعن الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنه قال: (إن علياً (عليه السلام) ضمّن ختانة ختنت جارية فنزفت الدم فماتت، فقال لها علي (عليه السلام): ويلاً لأمك أفلا أبقيت، فضمّنها علي (عليه السلام) دية الجارية وجعل الدية على عاقلة الختانة)(44).

هذا مضافا إلى القوانين الطبية التي سنها الإسلام من واجبات ومستحبات ومحرمات ومكروهات، وقاية وعلاجاً(45)، وبعض التفصيل مذكور في طب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وطب الأئمة (عليهم السلام) وما أشبه.

 

من حقوق البهائم والبقاع

مسألة: لا تختص نظافة التعامل بالإنسان مع نفسه أو بني نوعه فحسب، بل إنها تشمل حتى البهائم والبقاع، وقد جاء ذلك في نصوص وروايات كثيرة.

ففي بعض خطب الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) التي خطبها أوائل خلافته ورد ما يلي: (اتقوا الله في عباده وبلاده، فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم)(46).

وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن الله تبارك وتعالى يحب إبراد الكبد الحرّى، ومن سقى كبداً حرى من بهيمة وغيرها أظله الله يوم لا ظل إلا ظله)(47).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنسبة إلى الغنم: (نظفوا مرابضها وامسحوا رغامها)(48).

وعن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): للدابة على صاحبها خصال: يبدأ بعلفها إذا نزل، ويعرض عليها الماء إذا مر به)(49).

وفي نهج البلاغة: (ولا تنفرن بهيمة ولا تفزعنها، ولا تسوءن صاحبها فيها… إلى أن قال (عليه السلام) :

(ثم احدر إلينا ما اجتمع عندك، نصيَّره حيث أمر الله به، فإذا أخذها أمينك فأوعز إليه: ألا يحول بين ناقة وبين فصيلها، ولا يمصر لبنها فيضر ذلك بوليدها، ولا يجهدنها ركوباً، وليعدل بين صواحباتها في ذلك وبينها… وليرفه على اللاغب، وليستأن بالنقب والضالع، وليوردها ما تمر به من الغُدُر، ولا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جواد الطرق، وليروّحها في الساعات، وليمهلها عند النطاف(50) والأعشاب، حتى تأتينا بإذن الله بدناً منقيات غير متعبات ولا مجهودات، لنقسمها على كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن ذلك أعظم لأجرك، وأقرب لرشدك، إن شاء الله).

وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوصي بالحيوانات ويقول: (ان الله كتب الإحسان في كل شيء)(51).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (فإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)(52).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة)(53).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته)(54).

إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة التي وردت في باب حقوق الحيوان.

1ـ راجع أيضا كتاب (ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين)، للإمام المؤلف دام ظله.

2ـ سورة المائدة: الآية 38.

3ـ سورة النساء: الآية 43.

4ـ سورة المائدة: الآية 6.

5ـ راجع الكافي: ج3 ص311 ح8، ووسائل الشيعة: ج4 ص954 ب4 ح2.

6ـ سورة الجن: الآية 18.

7ـ وسائل الشيعة: ج18 ص490 ب4 ح5، عن تفسير العياشي (بتصرف).

8ـ سورة الأعراف: الآية 56.

9ـ وسائل الشيعة: ج18 ص336 ب24 ح4.

10ـ وسائل الشيعة: ج18 ص336 ب24 ح4.

11ـ سورة الكهف: الآية 86-87.

12ـ سورة المنافقون: الآية 8.

13ـ مستدرك الوسائل: ج18 ص259 ب55 ح22691.

14ـ مستدرك الوسائل: ج17 ص359 ب11 ح21581.

15ـ سفينة البحار: ج2 ص 435 الطبعة القديمة، مادة (قضى).

16ـ بحار الأنوار: ج75 ص247 ب23 ح108.

17ـ للتفصيل راجع موسوعة الفقه، كتاب (البيئة) للإمام المؤلف (دام ظله).

18ـ تهذيب الأحكام: ج1 ص416 ب21 ح34.

19ـ الاستبصار: ج1 ص28 ب14 ح2.

20ـ تهذيب الأحكام: ج1 ص408 ب21 ح2.

21ـ الكافي: ج3 ص15 ح2.

22ـ الكافي: ج3 ص16 ح5.

23ـ تهذيب الأحكام: ج1 ص353 ب15 ح11.

24ـ تهذيب الأحكام: ج1 ص30 ب3 ح19.

25ـ وسائل الشيعة: ج1 ص230 ب15 ح10.

26ـ وسائل الشيعة: ج1 ص229 ب15 ح6.

27ـ وسائل الشيعة: ج1 ص229 ب15 ح7.

28ـ وسائل الشيعة: ج1 ص231 ب15 ح12.

29ـ وسائل الشيعة: ج17 ص347 ب20 ح1.

30ـ وسائل الشيعة: ج17 ص376 ب1 ح10.

31ـ راجع تفسير تقريب القرآن لسماحته (دام ظله): ج11 ص31 في تفسير سورة التوبة الآية 107.

32ـ الكافي: ج3 ص295 ح1.

33ـ مستدرك الوسائل: ج16 ص319 ب92 ح20016.

34ـ مستدرك الوسائل: ج17 ص120 ب11 ح20931.

35ـ مستدرك الوسائل: ج17 ص120 ب11 ح20934.

36ـ مستدرك الوسائل: ج17 ص121 ب11 ح20935.

37ـ مستدرك الوسائل: ج17 ص122 ب12 ح20937.

38ـ مشكاة الأنوار: ص40، وراجع غوالي اللئالي: ج1 ص431 ح130.

39ـ راجع تنبيه الخواطر: ج1 ص8.

40ـ راجع الخصال: ص32، باب دخل الرجل الجنة بخصلة.

41ـ مستدرك الوسائل: ج7 ص242 ب4 ح8144.

42ـ وسائل الشيعة: ج19 ص194 ب24 ح1.

43ـ وسائل الشيعة: ج19 ص195 ب24 ح2.

44ـ مستدرك الوسائل: ج18 ب325 ب19 ح22855.

45ـ راجع كتاب (إلى حكم الإسلام) للإمام المؤلف دام ظله.

46ـ نهج البلاغة: الخطبة167 ص59.

47ـ وسائل الشيعة: ج6 ص284 ب19 ح2.

48ـ الكافي: ج6 ص544 ح3.

49ـ من لا يحضره الفقيه: ج2 ص286 ب2 ح3465.

50ـ جمع نطفة، المياه القليلة، أي يجعل لها مهلة لتشرب وتأكل

51ـ راجع تفسير الإمام الحسن (عليه السلام): ص671، وبحار الأنوار: ج62 ص315 ب8 ح7.

52ـ بحار الأنوار: ج62 ص315 ب8 ح7.

53ـ بحار الأنوار: ج62 ص315 ب8 ح7.

54ـ بحار الأنوار: ج62 ص315 ب8 ح7.