فهرس القسم الخامس | المؤلفات |
الخوف من الله وتنظيف النفس |
مسألة: من أهم ما يؤثر في نظافة النفس ونظافة المجتمع من الذنوب والآثام الفردية والاجتماعية: الخوف من الله تبارك وتعالى، وقد ورد في النصوص والروايات التأكيد الكبير على ذلك. قال الله تعالى على لسان هابيل (عليه السلام): (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين)(1). وقال سبحانه: (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى)(2). وقال عزّ وجلّ: (قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم)(3). وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من عرف الله خافه، ومن خاف الله حثه الخوف من الله على العمل بطاعته والأخذ بتأديبه، فبشر المطيعين المتأدبين بأدب الله، والآخذين عن الله، إنه حق على الله أن ينجيهم من مضلات الفتن)(4). أقول: لا يخفى أن الخوف إنما هو من عدل الله عزّ وجلّ، لأنا مهما بذلنا جهدنا في طاعة الله وعبادته، نكون مقصرين في قبال نعمه وأياديه، فلو لم يعاملنا بفضله لكنا من الهالكين، وذلك كما ورد في الأحاديث وإلا فهذا الخوف ليس كالخوف من أسد أو نار أو حيّة أو ما أشبه.
وعن أبي ذر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (يا أبا ذر يقول الله تعالى: لا أجمع على عبدي خوفين، ولا أجمع له أمنين، فإذا أمنني أخفته يوم القيامة وإذا خافني آمنته يوم القيامة)(5). وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (رأس الحكمة مخافة الله)(6). أقول: الحكمة عبارة عن وضع الأشياء مواضعها سواء بالنسبة إلى الموضوعات أو الأحكام. وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (المؤمن لا يخاف غير الله ولا يقول عليه إلا الحق)(7). أقول: يعني خوفاً واقعياً، فإن الخوف من الأشياء الدنيوية أقسام من الخوف المجازي، وإنما الخوف الحقيقي من الله سبحانه وتعالى. وفي حديث عنه (عليه السلام) قال: (خف الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)(8). وعنه (عليه السلام) قال: (من خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء)(9). أقول: وجه ذلك واضح لأن الذي يخاف الله سبحانه وتعالى يتفضل الله عليه بقوة وهيبة تسب خوف كل شيء منه، أما من لم يخف الله فإن الله سبحانه وتعالى يجعل نفس هذا الإنسان عادية والنفس العادية تخاف من كل شيء كما قال سبحانه: (يحسبون كل صيحة عليهم)(10). وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (إن الله إذا جمع الناس يوم القيامة نادى فيهم مناد: أيها الناس إن أقربكم اليوم من الله أشدكم منه خوفا، وإن أحبكم إلى الله أحسنكم عملاً، وإن أفضلكم عنده منصباً أعملكم فيما عنده رغبة، وإن أكرمكم عليه أتقاكم)(11). وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (إن الله يعاتب عبداً يوم القيامة ويقول عبدي خفت من النار وما خفت مني أما لتستحيي؟ فيطرق العبد رأسه حياء من الله)(12). |
التحلي والتجمّل بالرجاء |
مسألة: يجب أن يكون الخوف في الإنسان ممزوجاً مع الرجاء، فإن المؤمن يكون دائماً وأبداً بين الخوف والرجاء، وفي ذلك نصوص وروايات كثيرة. قال الله تعالى: (ويدعوننا رغباً ورهباً)(13). وعن الإمام الكاظم (عليه السلام) أنه قال لهشام بن الحكم: (يا هشام لا يكون الرجل مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عالماً لما يخاف ويرجو)(14). وعن الصادق (عليه السلام) قال: (الخوف رفيق القلب والرجاء شفيع النفس، ومن كان بالله عارفاً كان من الله خائفاً وإليه راجياً، وهما جناحا الإيمان يطير بهما العبد المحقق إلى رضوان الله، وعينا عقله يبصر بهما إلى وعد الله تعالى ووعيده، والخوف طالع عدل الله باتقاء وعيده، والرجاء داعي فضل الله وهو يحي القلب، والخوف يميت النفس)(15). وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (المؤمن بين خوفين: خوف ما مضى وخوف ما بقي، وبموت النفس تكون حياة القلب، وبحياة القلب البلوغ بالاستقامة، ومن عبد الله على ميزان الخوف والرجاء لا يضل ويصل إلى مأموله، وكيف لا يخاف العبد وهو غير عالم بما يختم صحيفته، ولا له عمل يتوسل به استحقاقاً، ولا قدرة له على شيء ولا مفر وكيف لا يرجو وهو يعرف نفسه بالعجز، وهو غريق في بحر آلاء الله ونعمائه من حيث لا تحصى ولا تعد والمحب يعبد ربه على الرجاء بمشاهدة أحواله بعين سهر، والزاهد يعبد على الخوف)(16). وفي حديث عن الصادق (عليه السلام) قال: (لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو)(17). |
النظافة عن مطلق الرذائل |
مسألة: يلزم تنظيف النفس عن الصفات المذمومة العالقة بها، وأدران الملكات السيئة والتمنيات الفاسدة والانحرافات المشينة. قال تعالى: (ونفس وما سواها فألهما فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها)(18)، ومرادنا باللزوم الأعم من الواجب والمستحب، كل في موضعه. فعن أبي بصير قال: قال: أبو عبد الله (عليه السلام): (أصول الكفر ثلاثة: الحرص، والاستكبار، والحسد)(19). وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (أركان الكفر أربعة: الرغبة، والرهبة، والسخط، والغضب)(20). أقول: المراد بكل ذلك ما كان فيه الجهة المخالفة لله سبحانه وتعالى وأحكامه. وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن أول ما عصي الله به ستة: حب الدنيا، وحب الرئاسة، وحب الطعام، وحب النوم، وحب الراحة، وحب النساء)(21). وعن الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ثلاث من كن فيه كان منافقاً وان صام وصلى وزعم أنه مسلم، من إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، إن الله عزّ وجلّ قال في كتابه: (إن الله لا يحب الخائنين)(22)، وقال: (أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين)(23) وقال: (واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً)(24))(25).
صفات الأشرار والنزاهة منها في الخبر عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ألا أخبركم بشرار رجالكم، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: شرار رجالكم البهّات، الجريء، الفحاش، الآكل وحده، والمانع رفده، والضارب عبده، والملجئ عياله إلى غيره)(26). وعن يزيد الصائغ قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): (رجل على هذا الأمر إن حدث كذب وإن وعد أخلف، وإن ائتمن خان، ما منزلته؟ قال: هي أدنى المنازل من الكفر وليس بكافر)(27). وعن الباقر (عليه السلام) قال: (خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس فقال: ألا أخبركم بشراركم، قالوا: بلى يا رسول الله، فقال: الذي يمنع رفده، ويضرب عبده، ويتزود وحده، فظنوا أن الله لم يخلق خلقاً هو شر من هذا، ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم): ألا أخبركم بمن هو شر من ذلك، قالوا: بلى يا رسول الله قال: الذي لا يرجى خيره، ولا يؤمن شره، فظنوا أن الله لم يخلق هو شر من هذا، ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم): ألا أخبركم بمن هو شر من ذلك، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: المتفحش اللعان، الذي إن ذكر عنده المؤمنون لعنهم، وإذا ذكروه لعنوه)(28). وعن الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ألا أخبركم مني بأبعدكم شبهاً، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الفاحش، المتفحش، البذيء، البخيل، المختال، الحقود، الحسود، القاسي القلب، البعيد من كل خير يرجى، غير المأمون من كل شر يتقى)(29). وعن الباقر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (خمسة لعنتهم وكل نبي مجاب، الزائد في كتاب الله، والتارك لسنتي، والمكذب بقدر الله، والمستحل من عترتي ما حرم الله، والمستأثر بالفيء المستحل له)(30).
إياك ودعائم الكفر والنفاق عن سليم بن قيس عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (بني الكفر على أربع دعائم: الفسق، والغلو، والشك، والشبهة. والفسق على أربع شعب: على الجفاء، والعمى، والغفلة، والعتو. والغلو على أربع شعب: على التعمق بالرأي، والتنازع فيه، والزيغ، والشقاق. والشك على أربع شعب: على المرية، والهوى، والتردد، والاستسلام. والشبهة على أربع شعب: إعجاب بالزينة، وتسويل النفس، وتأول العوج، ولبس الحق بالباطل. والنفاق على أربع دعائم: على الهوى، والهوينا، والحفيظة، والطمع. والهوى على أربع شعب: على البغي، والعدوان، والشهوة، والطغيان. والهوينا على أربع شعب: على الغرة، والأمل، والهينة، والمماطلة. والحفيظة على أربع شعب: على الكبر، والفخر، والحمية، والعصبية. والطمع على أربع شعب: الفرح، والمرح، واللجاجة، والتكاثر)(31). ولا يخفى أن هذا الحديث يحتاج إلى بعض الشرح لكن الكتاب لم يوضع لمثل ذلك، كما ان في هذا الحديث جاء ذكر بعض الأمور العملية لكن الغالب الأمور النفسية التي تسبب شين الإنسان وانحرافه مثل الغلو والشك والشبهة والعمى والغفلة وما أشبه ذلك، فيلزم على الإنسان أن يطهر نفسه وينظفها من هذه الأدران التي تسبب شر الدنيا والآخرة، فإن الكون بني على الاستقامة، فلا يعقل بقاء انحراف فيه، ولذا قال علي (عليه السلام): (من صارع الحق صرعه)(32).
من سنن الكون ومن الواضح: إن إضاعة أحكام الله سبحانه وتعالى واتباع شهوات الدنيا، توجب التقهقر والسقوط، والخراب والفساد في العباد والبلاد، وكل من يسير اليوم في العراق من بابل إلى سامراء يرى الخراب فيهما وبينهما، وفي الكوفة أيضاً، وذلك لترك قوانين الإسلام، وإذا كان الإنسان يعيش في عصر ازدهار هذه البلاد كان يعلم بالخراب الذي سيحصل فيها بعد حين. ألم تخرب بابل بحاكم مستبد طغى في البلاد، وأكثر فيها الفساد، بانحرافه عن الواقع، فإنه كان يستبد بالأمر في أموره العملية، ويدعي الألوهية في الاعتقاد. والكوفة كانت كذلك فقد تنازع فيها المنهج الأموي المنحرف بكل الانحراف، مع المنهج العلوي المستقيم بكل الاستقامة في القول والعمل، وحيث انه كان لدعاة المنهج الأموي السوط والسيف، ويسومون بها أصحاب المنهج العلوي سوء العذاب، تغلب المنهج الأموي وأدى إلى خراب الكوفة. وكذلك كانت سامراء، فإنه كان يحكم فيها خلفاء لم يكن همهم وهم حاشيتهم إلا شهوات الدنيا على طول الخط، فبيت الخليفة ـ أي بحسب ادعائه أنه خليفة ـ محل الفجور بأربعة آلاف جارية جميلة وسبعة آلاف شاب باسم حفظ الخليفة وحفظ حاشيته، إلى غير ذلك مما هو خلاف القوانين الإسلامية بحيث أدى إلى خراب سامراء وسقوطها. وبعد كل ذلك ألا يحق للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي جاء بالحق والحقيقة، والصدق والواقع، ألا وهو الإسلام، أن يقول حتى مع قطع النظر عن الوحي ما ذكره القرآن الحكيم: (ليظهره على الدين كله)(33)؟. فإن من اكتشف الكهرباء يحق له أن يقول: الكهرباء تغلب النفطيات، ومن اكتشف السيارة يحق له أن يقول: إن السيارة تغلب الخيل والبغال والحمير، وهذا هو شأن الكون. وعليه: فالدين الإسلامي من شأنه أن يظهر على الدين كله، وسيظهر بأذنه تعالى، ولكن لو خالف المسلمون قوانين السماء فالإشكال منهم لا من الإسلام.
الناس إذا تركوا الإسلام نعم، إن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يتمكن من التحديد الدقيق كما قال سبحانه: (في بضع سنين)(34) بينما غيره من العقلاء إنما يعلمون الواقع على صورة ضبابية مجملة، فعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في وصية طويلة قال: (سيأتي من بعدي أقوام يأكلون طيب الطعام وألوانها، ويركبون الدواب، ويتزينون بزينة المرأة لزوجها، ويتبرجون تبرج النساء، وزيهن مثل زي الملوك الجبابرة، وهم منافقو هذه الأمة في آخر الزمان، شاربون القهوات (الخمور) لاعبون بالكعاب، راكبون الشهوات، تاركون الجماعات، راقدون عن العتمات، مفرطون في العداوات، يقول الله تعالى: (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً)(35))(36). أقول: هذه الأمور كلها شأن الأمم إذا طال بهم الزمن وتركوا قوانين السماء. وفي حديث آخر عن الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) في وصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام) قال: (يا علي خلق الله عزّ وجلّ الجنة لبنتين: لبنة من ذهب ولبنة من فضة ـ إلى أن قال: ـ فقال الله جل جلاله: وعزتي وجلالي لا يدخلها مدمن خمر، ولا نمام، ولا ديوث، ولا شرطي، ولا مخنث، ولا نباش، ولا عشار، ولا قاطع رحم، ولا قدري، يا علي كفر بالله العظيم من هذه الأمة عشرة: القتات، والساحر، والديوث، والناكح المرأة حراماً في دبرها، وناكح البهيمة، ومن نكح ذات محرم، والساعي في الفتنة، وبائع السلاح من أهل الحرب، ومانع الزكاة، ومن وجد سعة فمات ولم يحج)(37) أقول: من الواضح أن هذه أمور عملية وترتبط بالجوارح، لكنها إنما تنبعث عن القلب المنحرف والملكة المشينة، غير النظيفة ولا السليمة، أما ناكح امرأة حراماً في دبرها فالسبب هو أن الفتيات الباكرات ـ عادة ـ لا يرضين بالقبل عند الزنا وذلك خوفاً من الفضيحة وحفاظاً على ماء وجههن فيكون النكاح في الدبر. إلى غيرها من الروايات. |
نظافة القلب من سوء الظن |
مسألة: يجب ـ كما في الروايات والنصوص ـ تنظيف القلب من سوء الظن بالله تعالى، كما ويجب شحنه بحسن الظن به عزّ وجلّ. قال الله تعالى: (الظانين بالله ظنّ السوء عليهم دائرة السوء)(38). وقال سبحانه: (وظننتم ظن السوء وكنتم قوماً بوراً)(39). وقال عزّ وجلّ: (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم..)(40). وعن داود (عليه السلام) قال: (يا رب ما آمن بك من عرفك ولم يحسن الظن بك)(41). وفي الحديث: (إن آخر عبد يؤمر به إلى النار فيلتفت فيقول: يا رب لم يكن هذا ظني بك، فيقول: ما كان ظنك بي، قال: كان ظني بك أن تغفر لي خطيئتي وتسكنني جنتك، فيقول الله جل وعز: يا ملائكتي وعزتي وجلالي وجودي وكرمي وارتفاعي في علوي ما ظن بي عبدي خيراً ساعة قط، ولو ظن بي ساعة خيراً ما روعته بالنار، أجيزوا كذبه وأدخلوه الجنة)(42). وعن الرضوي (عليه السلام): (إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى داود (عليه السلام) فلانة بنت فلانة معك في الجنة في درجتك، فسار إليها فسألها عن عملها، فخبرته فوجده مثل سائر أعمال الناس، فسألها عن نيتها فقالت: ما كنت في حالة فنقلني منها إلى غيرها إلا كنت بالحالة التي نقلني إليها أسر مني بالحالة التي كنت فيها فقال: حسن ظنك بالله عزّ وجلّ)(43). وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (رأيت رجلاً من أمتي على الصراط يرتعد كما ترتعد السعفة في يوم ريح عاصف، فجاءه حسن ظنه بالله فمسكت رعدته)(44). |
تنظيف النفس عن الغرور |
مسألة: يلزم ـ على ما في النصوص والروايات ـ تنظيف النفس من الغرور، لأن الغرور يصدّ عن العروج في سلّم الكمال، ويهوي بالإنسان إلى درك الهوان والسقوط. قال الله تعالى: (يا أيها الإنسان ما غرّك بربك الكريم)(45). وقال سبحانه: (إن الكافرون إلا في غرور)(46). وقال عزّ وجلّ: (فلا تغرّنكم الحياة الدنيا ولا يغرّنكم بالله الغرور)(47). وعن الحسن بن الجهم قال: (سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: إن رجلاً في بني إسرائيل عبد الله أربعين سنة ثم قرَّب قرباناً فلم يقبل منه، فقال لنفسه: ما أتيت إلا منك وما الذنب إلا لك، قال: فأوحى الله عزّ وجلّ إليه ذمك لنفسك أفضل من عبادتك أربعين سنة)(48). أقول: فاللازم على الإنسان أن ينظف نفسه عن الاعتلاء والترفع الكاذب. وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) كما في (نهج البلاغة) أنه قال: (يا أسرى الرغبة اقصروا، فإن المعرج على الدنيا لا يروعه منها إلا صريف أنياب الحدثان، أيها الناس تولوا عن أنفسكم تأديبها واعدلوا بها عن ضراوة عادتها)(49). أقول: المراد العادات السيئة التي مبعثها النفس. وفي رواية قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من مقت نفسه دون مقت الناس، آمنه الله من فزع يوم القيامة)(50).
|
التحلي بالزهد |
مسألة: يلزم التحلي بالزهد، وتنظيف النفس من حب الدنيا ومن الرغبة إليها والتعلق بها، كما جاء في النصوص والروايات الكثيرة. قال الله تعالى: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم)(51). وقد شرط الله على المعصومين (عليهم السلام) الزهد في درجات هذه الدنيا الدنية وزخرفها وزبرجها فشرطوا (عليهم الصلاة والسلام) له ذلك، وعلم منهم الوفاء به فقبلهم وقربهم(52) فلما كان هذا حال المعصومين (عليه السلام) فكيف حال غيرهم؟ وعن أبي ذر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (يا أبا ذر إذا أراد الله عزّ وجلّ بعبد خيراً فقهه في الدين، وزهده في الدنيا، وبصره بعيوب نفسه. يا أبا ذر ما زهد عبد في الدنيا إلا أثبت الله الحكمة في قلبه، وأنطق بها لسانه، وبصَّره عيوب الدنيا، وداءها ودواءها، وأخرجه منها سالماً إلى دار السلام. يا أبا ذر إذا رأيت أخاك قد زهد في الدنيا فاستمع منه، فإنه يلقي إليك الحكمة. فقلت: يا رسول الله من أزهد الناس؟ قال: من لم ينس المقابر والبلى، فترك فضل زينة الدنيا، وآثر ما يبقى على ما يفنى، ولم يعدّ غداً من أيامه، وعدّ نفسه في الموتى)(53). أقول: هذا لا ينافي أن يهيّئ الإنسان لغده ما يكفيه كما في الحديث عن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام): (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً)(54). فمعنى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ولم يعدّ غداً من أيامه) هو ما ذكره الإمام (عليه السلام) في الجملة الثانية من حديثه. وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (إن من أعوان الأخلاق على الدين الزهد في الدنيا)(55). وعن علي بن الحسين (عليهما السلام) في حديث: (ألا وإن الزهد في آية من كتاب الله (لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم)(56))(57).
الزهد ومعناه في الخبر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (ليس الزهد في الدنيا بإضاعة المال ولا بتحريم الحلال، بل الزهد في الدنيا أن لا تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله)(58). وعن علي (عليه السلام) قال: (إن علامة الراغب في ثواب الآخرة زهده في عاجل زهرة الدنيا، أما إن زهد الزاهد في هذه الدنيا لا ينقصه بما قسم الله له فيها، وإن حرص الحريص على عاجل زهرة الدنيا لا يزيده فيها وإن حرص، فالمغبون من حرم حظه من الآخرة)(59).
من فوائد الزهد وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من زهد في الدنيا أثبت الله الحكمة في قلبه، وأنطق بها لسانه، وبصره عيوب الدنيا داءها ودواءها، وأخرجه في الدنيا سالما إلى دار السلام)(60). وعنه (عليه السلام) قال: (إذا أراد الله تبارك وتعالى بعبد خيراً زهده في الدنيا، وفقهه في الدين، وبصره عيوبه، ومن أوتي هذا فقد أوتي خير الدنيا والآخرة)(61). وقال (عليه السلام): (لم يطلب أحد الحق بباب أفضل من الزهد في الدنيا، وهو ضد ما طلب أعداء الحق. قلت: جعلت فداك مماذا؟ قال: من الرغبة فيها وقال: ألا من صبّار كريم وإنما هي أيام قلائل، ألا إنه حرام عليكم أن تجدوا طعم الإيمان حتى تزهدوا في الدنيا)(62).
الزهد وعلامات الزاهدين وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (ليس الزهد في الدنيا لبس الخشن وأكل الجشب، ولكن الزهد في الدنيا قصر الأمل)(63). وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام): (إن الله زينك بزينة لم يزين العباد بشيءٍ أحب إلى الله منها ولا أبلغ عنده منها، الزهد في الدنيا قد أعطاك ذلك، وجعل الدنيا لا تنال منك شيئاً، وجعل لك سيماء تعرف بها)(64). وعن علي (عليه السلام) قال: (الزاهد عندنا من علم فعمل، ومن أيقن فحذر، وإن أمسى على عسر حمد الله، وإن أصبح على يسر شكر الله، فهو الزاهد)(65). وقال (عليه السلام): (الزاهد في الدنيا من وعظ فاتعظ، ومن علم فعمل، ومن أيقن فحذر، فالزاهدون في الدنيا قوم وعظوا فاتعظوا، وأيقنوا فحذروا، وعلموا فعملوا إن أصابهم يسر شكروا وإن أصابهم عسر صبروا)(66).
مفتاح باب الآخرة في خبر عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (الزهد مفتاح باب الآخرة، والبراءة من النار، وهو تركك كل شيء يشغلك عن الله تعالى من غير تأسف على فوتها، ولا إعجاب في تركها، ولا انتظار فرج منها، ولا طلب محمدة عليها، ولا عوض لها، بل ترى فوتها راحة، وكونها آفة، وتكون أبداً هارباً من الآفة، معتصماً بالراحة، والزاهد الذي يختار الآخرة على الدنيا، والذل على العز، والجهد على الراحة، والجوع على الشبع، وعافية الآجل على محنة العاجل، والذكر على الغفلة، وتكون نفسه في الدنيا وقلبه في الآخرة، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): حب الدنيا رأس كل خطيئة، ألا ترى كيف أحب ما أبغضه الله وأي خطيئة أشد جرماً من هذا؟ قال بعض أهل البيت (عليهم السلام): لو كانت الدنيا بأجمعها لقمة في فم طفل لرحمناه كيف حال من نبذ حدود الله وراء ظهره في طلبها والحرص عليها والدنيا دار لو حسنت سكناها لما رحمتك ولما أحبتك وأحسنت وداعك، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لما خلق الله تعالى الدنيا أمرها بطاعته فأطاعت ربها، فقال لها: خالفي من طلبك، ووافقي من خالفك، وهي على ما عهد الله إليها وطبعها بها)(67). انتهى حديث الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام). أقول: المراد بقوله (عليه السلام): (الذل على العز) أي الذل في تحصيل الآخرة على العز في الدنيا بلا آخرة.
أفضل الزهد في الخبر عن الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قال: (الزهد ثروة، والورع جنة، وأفضل الزهد إخفاء الزهد، الدهر يخلق الأبدان، ويحدد الآمال، ويقرب المنية، ويباعد الأمنية، من ظفر به نصب، ومن فاته تعب، ولا كرم كالتقوى، ولا تجارة كالعمل الصالح، ولا ورع كالوقوف عند الشبهة، ولا زهد كالزهد في الحرام، الزهد كله بين كلمتين قال الله تعالى: (لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم)(68)، فمن لم يأس على الماضي، ومن لم يفرح بالآتي، فقد أخذ الزهد بطرفيه، أيها الناس الزهادة: قصر الأمل، والشكر عند النعم، والورع عند المحارم، فإن عرف ذلك عنكم فلا يغلب الحرام صبركم ولا تنسوا عند النعم شكركم، فقد أعذر الله إليكم بحجج مسفرة ظاهرة، وكتب بارزة العذر واضحة)(69). ومن الواضح أن الزهد عبارة عن ملكة في القلب تبعث الجوارح على العمل على طبقها، فاللازم أن يغسل الإنسان حب الدنيا من قلبه وفي ذلك نظافته وطهارته، وإذا طهر القلب طهرت الأعضاء ونظفت الجوارح، فقد بيّنه علي (عليه السلام) بقوله: (طوبى للراغبين في الآخرة، الزاهدين في الدنيا، أولئك قوم اتخذوا مساجد الله بساطاً، وترابها فراشاً، وماءها طهوراً، والقرآن شعاراً، والدعاء دثاراً، ثم قبضوا الدنيا على منهاج عيسى (عليه السلام))(70). أقول: قوله (قبضوا الدنيا) أي قبضهم بالدنيا على نحو قبض المسيح لها لا الانكباب عليها. إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة فإن (حب الدنيا رأس كل خطيئة)(71). |
1ـ سورة المائدة: الآية 28. 2ـ سورة النازعات: الآية 40-41. 3ـ سورة الأنعام: الآية 15. 4ـ مستدرك الوسائل: ج11 ص228 ب14 ح12817. 5ـ مستدرك الوسائل: ج11 ص228 ب14 ح12818. 6ـ مستدرك الوسائل: ج11 ص229 ب14 ح12823. 7ـ مستدرك الوسائل: ج11 ص228 ب14 ح12819. 8ـ مستدرك الوسائل: ج11 ص229 ب14 ح12822. 9ـ مستدرك الوسائل: ج11 ص229 ب14 ح12821. 10ـ سورة المنافقون: الآية 4. 11ـ مستدرك الوسائل: ج11 ص229 ب14 ح12825. 12ـ مستدرك الوسائل: ج11 ص231 ب14 ح12830. 13ـ سورة الأنبياء: الآية 90. 14ـ مستدرك الوسائل: ج11 ص226 ب14 ح12812. 15ـ مستدرك الوسائل: ج11 ص226 ب14 ح12813. 16ـ مستدرك الوسائل: ج11 ص226 ب14 ح12813. 17ـ مستدرك الوسائل: ج11 ص227 ب14 ح12814. 18ـ سورة الشمس: الآية 7-10. 19ـ وسائل الشيعة: ج11 ص269 ب49 ح2. 20ـ وسائل الشيعة: ج11 ص269 ب49 ح2. 21ـ وسائل الشيعة: ج11 ص269 ب49 ح3. 22ـ سورة الأنفال: الآية 58. 23ـ سورة النور: الآية 7. 24ـ سورة مريم: الآية 54. 25ـ وسائل الشيعة: ج11 ص269 ب49 ح4. 26ـ الكافي: ج2 ص292 ح13. 27ـ الكافي: ج2 ص290 ح5. 28ـ وسائل الشيعة: ج11 ص270 ب49 ح7. 29ـ الكافي: ج2 ص291 ح9. 30ـ الكافي: ج2 ص293 ح14. 31ـ وسائل الشيعة: ج11 ص271 ب49 ح10. 32ـ نهج البلاغة قصار الحكم: 408. 33ـ سورة التوبة: الآية 33، سورة الفتح: 28، سورة الصف: 9. 34ـ سورة الروم: الآية 4. 35ـ سورة مريم: الآية 59. 36ـ بحار الأنوار: ج74 ص94 ب5 ح1. 37ـ وسائل الشيعة: ج11 ص272 ب49 ح14. 38ـ سورة الفتح: الآية 6. 39ـ سورة الفتح: الآية 12. 40ـ سورة فصلت: الآية 23. 41ـ مستدرك الوسائل: ج11 ص248 ب16 ح12898. 42ـ مستدرك الوسائل: ج11 ص249 ب16 ح12899. 43ـ مستدرك الوسائل: ج11 ص248 ب16 ح12896. 44ـ مستدرك الوسائل: ج11 ص249 ب16 ح12901. 45ـ سورة الانفطار: الآية 6. 46ـ سورة الملك: الآية 20. 47ـ سورة لقمان: الآية 33. 48ـ مستدرك الوسائل: ج2 ص73 ح3. 49ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج19 ص276 ب365. 50ـ وسائل الشيعة: ج11 ص183 ب17 ح3. 51ـ سورة الحديد: الآية 23. 52ـ راجع الإقبال: ص295 دعاء يدعى به بعد صلاة العيد وراجع مفاتيح الجنان: دعاء الندبة. 53ـ مستدرك الوسائل: ج12 ص42 ب62 ح13464. 54ـ مستدرك الوسائل: ج1 ص146 ب25 ح220. 55ـ مستدرك الوسائل: ج12 ص42 ب62 ح13465. 56ـ سورة الحديد: الآية 23. 57ـ وسائل الشيعة: ج11 ص312 ب62 ح6، سورة الحديد: 23. 58ـ مستدرك الوسائل: ح12 ص43 ب62 ح13467. 59ـ مستدرك الوسائل: ج12 ص43 ب62 ح13468. 60ـ مستدرك الوسائل: ج12 ص43 ب62 ح13469. 61ـ مستدرك الوسائل: ج12 ص43 ب62 ح13470. 62ـ مستدرك الوسائل: ج12 ص43 ب62 ح13470. 63ـ مستدرك الوسائل: ج12 ص44 ب62 ح13471. 64ـ مستدرك الوسائل: ج12 ص44 ب62 ح13472. 65ـ مستدرك الوسائل: ج12 ص44 ب62 ح13473. 66ـ مستدرك الوسائل: ج12 ص44 ب62 ح13474. 67ـ مستدرك الوسائل: ج12 ص45 ب62 ح13477. 68ـ سورة الحديد: الآية 23. 69ـ مستدرك الوسائل: ج12 ص46 ب62 ح13480. 70ـ مستدرك الوسائل: ج12 ص50 ب62 ح13488. 71ـ مستدرك الوسائل: ج12 ص44 ب62 ح13454. |