الفهرس

المؤلفات

 الفقه والأحكام

الصفحة الرئيسية

 

أصالة الصحّة

أدلة القاعدة من الكتاب

وهي قاعدة مشهورة، ويدلّ عليها: الكتاب والسنّة والإجماع والعقل والسيرة والمركوز.

فمن الكتاب:

1 - قوله سبحانه: (قولوا للناس حُسْناً)(1) بعد أن كان المراد من القول أعمّ من اللفظ، فإنّ القول في اللغة يستعمل فيهما، يقول: (قال كذا)، ويريد الإشارة بيده، بالإضافة إلى أنه بالملاك إن لم نقل بالأعميّة، فإذا أشار إنسان إلى إنسان بالسوء ـ أي بأنّه يعمل سوءاً ـ قيل له: ألم يقل الله: (قولوا للنّاس حُسناً)؟

و(الناس): يشمل المؤمن والكافر، والعادل والفاسق، وما خرج إنّما يكون بالدليل.

و(الحُسن): أي كلاماً حسناً، وما يقوم مقام الكلام من الإشارة ونحوها ولذا لو كتب إنسان: انّ زيداً فاسق، قيل له هذا خلاف الآية.

ولا فرق بين أن يقول السيء أو يقول ما ليس بحسن، أي المتوسط بينهما، فإن الحسن خلاف كليهما، فإذا دخل إنسان في مجلس، فاستهزأ به هذا، أو سكت ولم يعر له اهتماماً واحتراماً، كان من القول بغير الحسن فيما كان هناك واسطة، أمّا إذا لم يكن كما لو كانت المعاملة صحيحة أو باطلة، فإذا قال: معاملة فلان باطلة كان من القول بغير الحسن، وكذا إذا قال: لا أعلم أنّها باطلة أو صحيحة، لم يكن من القول بالحسن.

ومن الواضح أنّ المراد أعمّ من القول من كونه (للناس) أو (عن الناس) للإطلاق حسب فهم العرف، أو بالمناط فأيّ فرق بين أن يقول لزيد: إنّ عبادتك باطلة أو يقول عند غيابه: إنّ عبادته باطلة؟

وهل المراد الصحّة الواقعيّة ـ حيث إنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية ـ أو الأعمّ منه ومن الصحّة عنده وإن كانت باطلة عند القائل؟

لا يبعد الثاني ولو لقرينة المقام، فإذا قال له: إنّ فتواي على كفاية تسبيحة واحدة في الركعة الثالثة والرابعة وفتواك على وجوب ثلاث تسبيحات، لم يصدق أنّه قال للناس سوءاً، الذي هو مقابل القول الحسن.

2 - وقوله سبحانه: (إجتنبوا كثيراً مِنَ الظنَ إنَ بعض الظنَ إثم)(2) فإنه من العلم الإجمالي بالحرام في البين إذ لو لم يكن منجزاً لم يحرم كثيراً من الظنّ لأجل البعض الذي هو إثم.

والمراد: إجتناب آثار الظنّ، وإلاّ فإنّ الظنّ لا إختياري فإنه كالشكّ واليقين يقع في القلب.

ولا يمكن أن يقال: المراد مقدّمات الظنّ، لأنّه خلاف الظاهر.

إن قيل: إنّ الآثار أيضاً خلاف الظاهر.

قلنا: هو أقرب المجازين إلى اللفظ عرفاً.

وإن قيل: لماذا قال: (كثيراً) دون الجميع؟

قلنا: لأنّ بعض الظنّ ليس طرف العلم الإجمالي حتى يكون محرّماً من جهته.

فالظن بأنّ هذا الإنسان يصلي باطلاً ثم قوله أو إشارته بذلك، أو أنه زان، أو شارب أو ما أشبه مشمول للآية الكريمة، أما إذا ظنّ من دون إظهار فلم يقل أحد أنه من المحرّم.

إن قلت: (لا تظنّ السوء) لا يلازم الظنّ بالصحة.

قلت: يلازمه غالباً، فإذا كانت هناك معاملة لم يعلم أنّها ربويّة أم لا، أو وطي لا يعلم أنّه زنا أم نكاح، أو شرب خمر لا يعلم أنّه لمرض أم معصية، إلى نحوها، كان معنى النهي عن الفساد القول بالصحة، وهذا معناه العرفي لا الدقّي حتى يقال: بأن الأمر بالشيء لا ينهي عن الضدّ.

نعم، إذا كان ظاهر الشيء منكراً كشرب الخمر والجماع بمن يعلم أنّها ليست زوجته، والوضوء منكوساً للصلاة والإفطار في شهر رمضان، لزم الفحص حتى يعلم أنّه يرتكبه لقاعدة ثانوية، أو محرّماً حتى يلزم الإنكار عليه.

ولذا سأل علي (ع) عن الذين كانوا يفطرون في شهر رمضان هل أنّهم مسافرون؟ وجرت السيرة بالسؤال والفحص في أمثال تلك الموارد، كمن يبيع الوقف حيث لم يعلم أنّه بمجوز أو حرام إلى غير ذلك.

أدلة القاعدة من السُنّة

ومن السنة: قول علي (ع): (ضع أمر أخيك على أحسنه)(3) فإن الأمر أعمّ من القول والفعل.

والمراد بالأحسن: الحسن مثل (إلاّ بالتي هي أحسن)(4) وما أشبه من صيغ التفضيل الذي قالوا إنّه مجرّد عن الفضل وإنّما يراد به الأصل مثل (أولى لك فأولى)(5) و (أفمن يلقى في النار خير)(6) والأحوط، والأقوى، وما أشبه.

والمراد بالأخ: إما المسلم حيث قال علي (ع): (إمّا أخٌ لك في دين أو نظيرٌ لك في الخلق)(7)، أو الأعمّ من قبيل: (وإلى عادٍ أخاهم هُوداً)(8)، (وإلى ثمودَ أخاهم صالِحاً)(9)، (وإخوان لوطٍ)(10)، إلى غير ذلك، وهذا أقرب إلى الذوق الإسلامي، وإن كان الأشهر الأول.

ومعنى الوضع: ترتيب الأثر، فإذا شكّ في أنّه هل اشتراه صحيحاً أو فاسداً صحّ الشراء منه، وما أشبه الشراء.

وإذا شكّ في أنّه هل يزني بها أو بنكاح لم يصحّ له خطبتها والزواج بها.

وإذا شكّ في أنّه هل استولى عليه غصباً أو مباحاً بالحيازة، صحّ له ترتيب آثار الملك، إلى غير ذلك.

والروايات المتواترة التي هي بمضمون الآيتين السابقتين.

من الإجماع: متواتر دعاويهم الإجماع، والإجماع العملي.

كما أنّ السيرة القطعيّة والمركوز في أذهان المتشرّعة وبناء العقلاء على ذلك.

ويؤيده: (لما قام للمسلمين سوق)(11) وما أشبه ذلك.

من غير فرق في كلّ ذلك بين أن يرجع الشك إلى السبب أو المسبب أو كليهما.

وإذا شكّ الإنسان بأنّ هذا الذي مرّ من عنده هل سلّم عليه أم سبّه؟ وجب عليه ردّ السلام لأنّه الحسن، فتأمّل.

أما لو شكّ بأنّه هل فعل أحدهما أو قرأ القرآن أو الذكر لم يكن من الأحسن أنه سلّم ولذا لا يجب ردّ السلام لعدم تحقق الموضوع، فتأمّل.

وحيث أنّ الأدلة ـ من الآية والرواية وغيرهما ـ تشمل الاعتقاد تجري أصالة الصحّة فيه أيضاً، فإذا شكّ في أنه صحيح الاعتقاد أو فاسده ـ حتى لا يتمكن من زواج بنته له أو تزوجها به ـ جاز العمل على أصالة الصحّة.

ولعلّ من هذا القبيل تزوج الإمام (ع) بمن ظهرت بعد ذلك أنّها خارجيّة مع وضوح أنّ الخارجي كافر، ومن المعلوم أن الأئمّة (ع) ما كانوا يعملون بعلمهم الغيبي بل قال (ص): (إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والإيمان)(12) كما أنّهم (ع) ما كانوا يعملون بقدرتهم الغيبيّة وإلاّ لما ذهب علي (ع) إلى المسجد وحده وكان بإمكانه أن لا يذهب ذلك اليوم ويستخلف الحسن (ع) أو غيره، أو يذهب مع مسلّحين يحفظونه عن الشرّ، وقد ذكرنا ذلك في بحث آخر.

وعليه ففي البلاد الإسلامية أو المحلة المسلمة ولو في بلد كافر لا يحتاج من يريد الزواج إلى السؤال، كما لا يحتاج من يريد ذبح الذبيحة وشراء اللحم إلى السؤال عن عقيدة الذابح.

ولذا جرت العادة عند الحُجّاج على كفاية رؤية الذابح هناك مما ظاهره الإسلام وإن كان يحتمل فساد عقيدته بما يوجب له الكفر.

وهذا ليس خاصّاً بالمسلم بل كذلك من ظاهره أنّه من أهل الكتاب مع احتمال كونه ملحداً، كما قد كثرت الشيوعيّة فيهم حيث يجوز للإنسان التزويج بهنّ من غير فحص عن أنّها شيوعيّة اعتقاداً أم لا، أمّا الشيوعية اقتصاداً فلا مانع من الزواج بها، كما ذكرناه في بعض المباحث.

جريان أصل الصحة في الكافر

بل ذكرنا في بعض المباحث أنّ أصل الصحّة جار في الكفّار، إلاّ فيما خرج بالدليل، ولذا لا يزال المسلمون يشترون من الكفّار مع احتمال أن يكون المبيع سرقة أو ما أشبه.

وممّا تقدّم ظهر جريانها في الاعتقادات كالأقوال والأفعال.

نعم، ليس موردها الأعيان، فإن أصالة الصحّة فيها ـ فيما إذا شكّ في أنّها صحيح أو معيب ـ من الأصول العقلائية لا من القواعد الفقهية.

كما أنّه يخرج عن محلّ الكلام استصحاب العدالة أو الوثاقة ـ مثلاً ـ فيما إذا شكّ في أنّ العادل الفلاني ارتكب معصية حتى يسقط عن العدالة أم لا؟ وكذلك في الثقة.

وكذلك يخرج عن محلّ الكلام احتمال الخطأ والغفلة والسهو وتعمّد الكذب في المخبر، فإذا احتمل الخطأ والصواب تمسّك بالأصل العقلائي في كلّ ذلك، وليس من أصل الصحّة الذي هو محلّ الكلام.

من غير فرق في جريان أصل الصحّة والقاعدة بين الأحكام الوضعيّة والتكليفيّة لإطلاق أدلّته فالعقود والإيقاعات ونحوها من هذا الباب موضوعاً.

وقد عرفت أنّ المراد بالصحّة الفاعليّة الأعمّ من الواقعية حكماً إذا أريد حصر الأمر في الفاعل، وأمّا إذا كان محلّ الإبتلاء فالأصل الصحّة الواقعيّة كما في طرفي العقد حيث لا يعلم المشتري مثلاً هل أنّه عقد صحيح واقعاً أم لا.

ثمّ إنّ البحث هنا فيما كان قابلاً للصحة والفساد لا أن يكون أمره دائراً بين الوجود والعدم، من غير فرق في الشكّ بين الشرط أو الجزء أو المانع أو القاطع خلافاً لبعض ما يظهر من المحقق الثاني (قدس سره) ممّا ذكره الشيخ (رحمه الله) في المكاسب ممّا لا داعي إلى تكراره.

بل لربّما يجري الأصل المذكور في الأوسع من ذلك، كما إذا وجدنا جزءاً من ميّت في مقبرة المسلمين حيث لا نعلم أنّه غُسل أم لا؟ فإن الأصل أنه غُسل.

تفصيل الشيخ الطوسي وما يرد عليه

وحيث قد عرفت إطلاق الأدلة فلا فرق في الشكّ بين الأجزاء والشرائط وما أشبه وبين احتمال عدم قابلية مجري العقد ـ لطفولة أو جنون أو سفه ـ أو عدم قابلية المال ـ لوقف أو حجر على المالك ـ كما إذا باع الدار من عمرو بشرط أن لا يبيعها وقلنا: ان الشرط يقتضي الوضع، فما ذكره الشيخ (قدس سره) ـ من الفرق بين الأول بجريانه فيه والأخيرين بعدم الجريان ـ خلاف ما نستظهره من الأدلة والسيرة.

وممّا تقدّم ظهر أنّه لو استناب أحداً للصلاة أو الصوم أو الحجّ عن ميّته، أو استنابه للحجّ عن نفسه أو دفع إليه كفّارة أو ما أشبه، ثمّ شكّ في أنه هل فعله أم لا؟ أو علم بأنه فعله لكن شكّ في أنه هل أتى به صحيحاً أم لا؟ جرت أصالة الصحّة، لبناء المتشرّعة وسائر الأدلّة المتقدّمة.

ولذا لا يسأل أحد من الفقهاء ـ الذين تُدفع إليهم أموال النيابة عن الميّت وشبهها ـ عن الأجير هل فعل؟ أو هل فعل صحيحاً؟

وكذلك الحكم إذا رأينا من ظاهره يدلّ على أنّه يصلي على الميّت ولكنّنا لا نعلم أنه صلى أم لا؟ أو صلّى صحيحاً أم لا؟ فتجري الأصالة المذكورة.

والمستفاد من الأدلة أنّ هذا الأصل أمارة، فمثبتاتها حجّة كسائر الأمارات لا أصل، فتفرّع عليه المثبتات العقليّة أيضاً، فإذا اشترى شيئاً لم يعلم أنه اشتراه بالخمر أو بما يملكه؟ جرت أصالة الصحّة، فيكون للمشتري ويرثه الوارث.

ومقتضى الأمارية تقدّمها على الاستصحاب الموضوعي، كما هي القاعدة.

وكما تجري أصالة الصحّة في عمل الغير كذلك تجري في فعل النفس كما إذا عقد عقداً ثــمّ شكّ بعد مدّة هل كان جامعاً للشرائط فاعلاً وقابلاً وشرطاً ـ بالمعنى الأعمّ ـ كان الأصل الجريان، كما هي السيرة وكذلك في عباداته السابقة، وسائر أموره.

وهذا إمّا من باب السيرة وبناء العقلاء والإجماع، وإمّا من باب الملاك كما ذكروا ـ في التعاون على الإثم ـ انّه يشمل فعل الإنسان نفسه إذا فعل مقدّمات الإثم الواصلة إليه.

ولا يخفى أنّ الكلام في هذه المباحث طويل، وقد ذكرنا بعضه في (الفقه) وبعضه في (الأصول) ولذا لا نطيل البحث هنا وإنّما أردنا الإلماع فقط، والله سبحانه العالم.

 

1 ـ البقرة: 83.

2 ـ الحجرات: 12.

3 ـ المستدرك: ج 9، ص 144، ح 10502، ب 141.

4 ـ العنكبوت: 46.

5 ـ القيامة: 34.

6 ـ فصلت: 40.

7 ـ نهج البلاغة: الكتاب 53.

8 ـ الأعراف: 65.

9 ـ ق: 13.

10 ـ الأعراف: 73.

11 ـ وسائل الشيعة: ج 18، ص 215، ح 2.

12 ـ وسائل الشيعة: ج 18، ص 169، ح1.