الفهرس |
المعدن الأسمى |
والآن سننتقل إلى نقطة اخرى جوهرية، تكشف عن آفاق شديدة الأهمية: إن (محبة فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها) هي (حلقة وصل) وهي رابط جوهري بين الماضي السحيق والمستقبل السعيد، وهي جزء من منظومة غيبية ـ تكوينية متكاملة. إن استقرار محبة أهل البيت (عليهم السلام) في قلب المرء يكشف حسب الروايات المتواترة وبالبرهان الإني[1]، عن طيب ولادته، وعن نقاء سريرته، وعن (سمو معدنه وجوهره) والعكس بالعكس تماماً، فقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من أحبنا أهل البيت فليحمد الله على أولى النعم، قيل: وما أولى النعم؟ قال: طيب الولادة، فلا يحبنا إلا من طابت ولادته).[2] وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (يا علي من أحبني وأحبك وأحب الأئمة من ولدك، فليحمد الله على طيب مولده فانه لا يحبنا إلا من طابت ولادته ولا يبغضنا إلا من خبثت ولادته).[3] وعن الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من أحبنا أهل البيت، فليحمد الله على أول النعم، قيل: وما أولى النعم؟ قال: طيب الولادة، ولا يحبنا إلا من طابت ولادته ولا يحبنا إلا من طابت ولادته).[4] فبغض آل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يكشف عن خبث الولادة وسوء السريرة وعن (طينة خبال) التي عجنت منها خلقة ذلك العدو المبغض. هذه هي جذور المعادلة، ومن الطبيعي أن تتماسك الحلقات وتتسلسل هكذا: خبث الولادة ← بغض آل البيت ← دخول النار. وفي المقابل: طيب الولادة ← حب آل البيت ← دخول الجنة. وهي تتطابق مع قاعدة (السنخية) في إطار (قاعدة الاختيار)[5] والأدلة على معادلة (الجوهر الحقيقي لكل فرد ومعدنة) متواترة، وفي أخبار (الطينة) أكبر دليل وشاهد.[6] وفي أمثال رواية: (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة)[7] شاهد آخر. وفي إلحاق ابن المسلم ـ ولو كان سقطاً ـ بأبيه[8] ودخوله الجنة[9]، رغم عدم قيامه بأي عمل شاهد ثالث. وفي تفاضل درجات الناس صغاراً وكباراً عند الله وفي الجنة، على الرغم من أن معادلة الأعمال قد تكون متعاكسة، شاهد آخر، فإن نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، أفضل من نوح النبي (عليه السلام)، ولو عمر ما عمر وعبد ما عبد. وإن فاطمة الزهراء (عليها السلام) حسب الروايات أفضل من النبي آدم عليه السلام ومن الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، ولا يؤثر في جوهر المعادلة أن تكون من صلب آدم (عليه السلام)، أو يكون الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) من صلبها، أو معادلة العمر الطويل، والإنجازات العملية الكبرى. ومحسن السقط (عليه السلام) أعلى منزلة في الجنة من ملايين المؤمنين، وإن عملوا ما عملوا وتجشموا من العناء في سبيل الله ما تجشموا. والعقلاء تراهم يجعلون مقياس تقييمهم الحقيقي هو الجوهر واللباب، (فالخبيث) وإن عمل ما عمل، يكرهونه ويحذرونه، ولو لم يكونوا مضطرين لاستغنوا من خدماته. وكذلك فإنهم يقدرون (التقي الورع) والطيب السريرة وإن كان يعيش في أقصى الأرض، لا تربطهم به رابطة عمل أو منفعة[10] وإن الذهب والدر في ذاته، مع قطع النظر عن أي اعتبار آخر أرقى من الفحم والتراب. |
ولكن لماذا هذا التمييز؟ |
ولكن ما السبب في أن يخلق الله تعالى هذا الإنسان من معدن أسمى، وذاك من معدن أدنى أو حتى من (طينة خبال)[11]؟. أليس ذلك ظلماً؟! كلا وألف كلا. فلنعد قليلاً إلى الوراء، لنلقي نظرة أكثر شمولية على المنظومة الغيبية ـ التكوينية: المتكاملة، كان ذلك في (عالم الذر) وما قبله من العوالم ايضا.. وهذه بعض اللمحات: (يا علي لولا نحن ما خلق الله آدم ولا حواء ولا الجنة ولا النار ولا السماء ولا الأرض، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سبقناهم إلى معرفة ربنا وتسبيحه وتهليله وتقديسه).[12] ولقد كان ذلك ملأ اختيار أفراد البشرية، ولقد اتخذ كل فرد قراره بملأ حريته، وجنى من جنى منهم على نفسه كذلك، وإليكم هذه الرواية وتشابهها عشرات الروايات الأخرى التي جرت في ذلك الماضي السحيق، وذلك العالم الأسبق: فعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن الله عز وجل خلق الخلق، فخلق من أحب مما أحب[13]، فكان ما أحب أن خلقه من طينة الجنة، وخلق من أبغض مما أبغض، وكان ما أبغض أن خلقه من طينة النار، ثم بعثهم في الظلال، فقلت: وأي شي الظلال؟ فقال (عليه السلام): ألم تر إلى ظلك في الشمس شيئا وليس بشيء؟ ثم بعث فيهم النبيين، فدعوهم إلى الإقرار بالله عز وجل وهو قوله تعالى ((ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله))[14] ثم دعوهم إلى الإقرار بالنبيين، فأقر بعضهم، وأنكر بعضهم، ثم دعوهم إلى ولايتنا فأقر بها والله من أحب وأنكرها من أبغض، وهو قوله: ((فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل))[15] ثم قال أبوجعفر (عليه السلام): كان التكذيب ثم).[16] وقال الصادق (عليه السلام): (.. إن الله عز وجل أخذ على العباد ميثاقهم وهم أظلة قبل الميلاد، وهو قوله عز وجل: ((وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم))[17] الآية، قال فمن أقر له يومئذ جاءت الفته ههنا، ومن أنكره يومئذ جاء خلافه ههنا).[18] وعن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (لو علم الناس كيف ابتدأ الخلق لما ما اختلف اثنان، إن الله عز وجل قبل أن يخلق الخلق قال: كن ماء عذبا اخلق منك جنتي وأهل طاعتي، وكن ملحاً أجاجا أخلق منك ناري وأهل معصيتي، ثم أمرهما فامتزجا، فمن ذلك صار يلد المؤمن الكافر والكافر المؤمن، ثم أخذ طينة من أديم الأرض فعركه عركاً شديداً فإذا بهم كالذر يدبون، فقال لأصحاب اليمين: إلى الجنة بسلام، وقال الأصحاب الشمال: إلى النار ولا أبالي، ثم أمر ناراً فاسعرت، فقال لأصحاب الشمال: ادخلوها فهابوها، وقال لأصحاب اليمين: ادخلوها فدخلوها، فقال، كوني برداً وسلاماً، فكانت برداً وسلاماً، فقال أصحاب الشمال: يا رب أقلنا، قال: قد أقلتكم فذهبوا فهابوها.[19] اذن نستلخص من هذه الرواية عدة اجوبة: أ: (كن ماء عذبا اخلق منك اهل طاعتي) فالله لانه علم انهم سيكونون اهل طاعته، لذلك خلقهم من الماء العذب[20]، وسيأتي تفصيل هذا الجواب تحت عنوان (الوسام المسبق). ب: فسح الله المجال لاصحاب اليمين والشمال معاً، وهيأ لكليهما مجال الامتحان وفرص النجاح، لكن اصحاب اليمين نجحوا، واصحاب الشمال سقطوا في الامتحان، ولذلك استحقوا العقاب (فقال لاصحاب الشمال ادخلوها فهابوها، وقال لاصحاب اليمين ادخلوها فدخلوها..). ج: ومع كل ذلك ورغم سقوطهم في الامتحان، اعطاهم الرب فرصة أخرى ـ اتماما للحجة ـ ورغم انهم كانوا قد شاهدوا ان النار تحولت الى برد وسلام على من دخلها امتثالاً لأمر الرب، الا انهم مرة أخرى تراجعوا عن الاطاعة وسقطوا في الامتحان، فاستحقوا العقاب، بتقصيرهم وسوء اختيارهم (فقال اصحاب الشمال: رب اقلنا، قال: قد اقلتكم، فذهبوا فهابوها). د: وسيأتي أن (مجال الاستقالة والتوبة)، لم يكن مفسوحاً لأصحاب الشمال في ذلك العالم الأسبق فقط، بل هو مفسوح لهم في عالم الدنيا أيضا. هـ: وفيما بعده أيضا[21]. إذن فنظرة أشمل للمعادلة تكشف عن رفض إرادي لأوامر الله في عالم الذر وعوالم سابقة، ولجاج وعناد مع خالق الكون ← الخلقة من معدن رديء ← خبث الولادة ← بغض آل البيت (عليهم السلام) ← دخول النار.[22] وفي المقابل: تلبية للأمر الإلهي وامتثال لإرادة الله ← الخلقة من معدن أسمى ← طيب الولادة ← حب آل البيت (عليهم السلام) ← الجنة. وإلى إحدى تلك المراحل السابقة، يشير جل وعلا: ((انا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان))[23] فمتى كان ذلك.. أليس قبل خلقة الإنسان في هذا العالم، وذلك هو ما تنطق به الآية الشريفة وتدل عليه الروايات والتفاسير. وليست تلك الحلقات متلازمة ـ كلها ـ تلازماً تكوينياً، بل بعضها يبقى بنحو المقتضي محكوماً بارادة الانسان واختياره (خبث الولاة ← بغض آل البيت) و (طيب الولادة ← حب آل البيت) كما سبق وسيأتي توضيحه. |
وللتوضيح الأكثر |
ومما يوضح للقاري الكريم هذه المعادلة الكبرى أكثر فأكثر، ويرفع بعض الشبهات أيضاً ما يلي: |
الجواب الحلي والنقضي |
أ: لقد خلق الله الشيطان من نار وخلق الإنسان من طين، فهما مخلوقان لله، لكنهما مختلفان في المعدن، أفيصح الاعتراض بعدها بـ: كيف يخلق الله الصالحين من أفراد البشر من معدن والطالحين من معدن آخر؟. وإذا لم يكن ذاك (الشيطان والإنسان) ظلماً لم يكن هذا ظلماً أيضاً. هذا الجواب النقضي. وأما حلاً: فكما أن خلقة الشيطان من نار لم تسلبه إرادته واختياره، بل لقد عصى الله بملأ إرادته ولا يزال عاصياً معانداً بكل اختياره، كذلك فإن خلقة مبغضي أهل البيت من (طينة خبال) لا تسلبهم إرادتهم. وبعبارة أخرى أن (الطينة) و (معادلة المعدن بشكل عام) مقتضية وليست علة تامة. |
خلق الجمادات والحيوانات |
بـ: وكما خلق الله الجمادات متفاضلة، فكذلك الإنسان. فقد خلق الذهب والتراب، والسم والعسل، والورود والأشواك، وذرة الأوكسيجين وذرة الأورانيوم، وسائر العناصر البسيطة والمركبة. وكذلك خلق الكلب والثعلب، والنحل والعقرب والنمل، والأليف الوديع والوحشي الضاري، كذلك خلق الإنسان. |
خلق الملائكة |
ج: وكما خلق جل وعلا الملائكة أصنافاً متفاضلين، كذلك خلق الإنسان، إنها سنة الله العامة الجارية في كافة مخلوقات الله، فهولم يخلق خلقين متشابهين تمام التشابه، بل أبدع ونوع حتى في (البنان) فكيف بالروح والجنان. وذلك من أكبر الادلة على قدرته المطلقة وخلاقيته الشاملة. |
خلق الإنسان |
د: وفي الإنسان نلاحظ الذكي والغبي، والقوي والضعيف، والطويل والقصير، والأبيض والأسود، والطيب والخبيث، وغالب ذلك لأسباب لا تعود إلى المرء نفسه بل إلى مراحل سابقة خارجة عن إرادته، الجينات الوراثية، ظروف انعقاد النطفة، حالات ألام أثناء الحمل، وأثناء فترة الرضاعة... وغيرها. ومع ذلك فإنه لا يسلبه إرادته وحريته في اتخاذ القرار. |
الوسام المسبق |
هـ: إن الخلقة من (معدن أسمى) و (طيب الولادة) هو (امتياز) يمنحه الله تعالى للذين نجحوا في امتحانات العوالم السابقة[24] وإنه (امتياز) يفسح لصاحبه مجالاً أكبر للسمو، وليس (حصاراً حديدياً قاسراً) أبداً، وذلك[25] كالمعلم الذي يشاهد من أحد تلامذته جدية أكثر، فإنه سيعتني به أكثر، ولربما أعطاه من وقته على انفراد الشيء الكثير مما سيرفع من قدرة التلميذ على التسامي الأكثر. فلا قسر هنا ولا جبر هناك، ولا ظلم لأولئك، بل إنه (الحق الطبيعي) الذي ينبغي أن يناله المتفوق بإرادته وجديته وعزيمته. بل نضيف: لان الله تعالى علم ـ في الازل ـ بان محمدا صلى الله عليه وآله وسلم عندما يخلق سيكون او المبادرين الى طاعته وأحرصهم على عبادته و التزام أوامره، لذلك خلقه من معدن أسمى واعتبره منذ اللحظة الأولى افضل رسله، وكان ذلك منه تعالى لطفاً في محله ونابعا من حكمته، بل واجباً بالنظر الى حكمته، وذلك كمن يعلم مسبقاً ـ باخبار غيبي مثلاً _ بان زيداً سينقذه من موت محتم في مستقبل الايام، فانه من الان، ودون ان يكون زيد قد قدم له اية خدمة حاليا، سيمنحه من عطفه ومودته الكثير وسيجله ويكرمه ويحترمه اكثر من الآخرين. وهل يحق لاحد ممن ماثل زيدا في صفاته ودرجة احترامه ان يقول: لماذا تفضله علي؟ مع انه لم ينقذك في سالف الايام، حتى تثيبه على عمله الآن؟ ان العقل كما يحكم[26] بحسن الثواب على العمل الصالح الصادر في ماضي الايام، كذلك يحكم بحسن اللطف والعطاء المسبق لمن سيقدم انجازاً كبيراً في مستقبل الايام، خاصة اذا كان ذلك العطاء مما سيفوت وقته لو أجل حتى يصدر من ذلك الطرف ذاك الانجاز وتلك الخدمة وذلك الانقاذ[27]، والخلقة من معدن اسمى من مصاديق ذلك كما لا يخفى. وللتوضيح الاكثر، نقدم لكم المثال التالي: فمن علم بإخبار غيبي او بعلم النجوم مثلا او غير ذلك بأن ابنه ـ الذي ستنعقد نطفته ليلة الجمعة القادمة مثلا ـ سيكون من كبار العلماء المتقين، افلا يبعثه ذلك على ان يحرص هو بدوره على ان يوفر لابنه ـ قبل ان يولد ـ شتى العوامل الذاتية والخارجية التي تساعد ولده على ان يسمو اكثر فأكثر في مستقبل ايامه. افلا يحرص هو ـ توفيراً للعوامل الذاتية ـ ان لا تنعقد نطفته الا وهو على وضوء؟ وهي أيضا كذلك؟ وان لا يطعما الا الطعام المحلل غير المشوب بشبهة؟ وان.. وان..؟ أفلا يحرص ـ توفيراً للعوامل الخارجية ـ ان يجمع له شتى الكتب النادرة التي ستسهل عليه مهمته، خاصة تلك الكتب التي سيعجز عن شرائها مثلا، حين حاجة ابنه اليها في مسقبل الايام؟ ان منح الامتيازات المسبقة للعظماء، ولكل من سيؤدي دوراً في خدمة البشرية، او ينجح في الامتحان الالهي، خاصة تلك الامتيازات التي ستعينهم على أداء رسالتهم بشكل افضل، هي من اجلى مصاديق (الحكمة) والله تعالى سيد الحكماء، وامتياز الخلقة من معدن أسمى لمن علم الله انهم سينجحون في امتحانه من هذا القبيل، بل من أجلى مصاديقه. وعكسه هو الذي يتنافى مع (الحكمة) و (اللطف) تماماً. |
وحتى في الآخرة |
و: وكما في الماضي السحيق وفي الحاضر كذلك، قد يكون في المستقبل البعيد. فمن المحتمل أن مجال (التوبة) يبقى مفتوحاً للإنسان حتى وهو في يوم القيمة، بل وهو في نار جهنم..، مع فارق بين التوبة في الدنيا والتوبة في الآخرة. ففي الدنيا فـ (باب التوبة) مفتوح لمبغضي أهل البيت (عليهم السلام) ولمنكري الرسالة، وللمشركين، والكفار بل حتى للشياطين أنفسهم، فمجرد الندم والاستغفار كاف لغسل اوراق الماضي. ولكن في الآخرة فإن مجرد الندم والاستغفار لا ينفع هنالك، فإن الذي ينفع هو الندم الحقيقي، زائداً الضمان الحقيقي لعدم تكرار التجربة المرة، ولعدم العودة لنفس دائرة المعصية فيما لو أعيد مرة أخرى إلى دائرة الامتحان.[28] قال تعالى: ((ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون))[29]. ويقول الإمام الباقر (عليه السلام) بعد حديث طويل ذكر فيه: إن فاطمة (عليها السلام)، لتلتقط شيعتها ومحبيها كما يلتقط الطير الحب الجيد من الحب الرديء...: (والله لا يبقى في الناس إلا شاك أو كافر أو منافق، فإذا صاروا بين الطبقات نادوا كما قال الله تعالى: ((فما لنا من شافعين ولا صديق حميم))[30] فيقولون: ((فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين)) قال أبو جعفر (عليه السلام): هيهات هيهات منعوا ما طلبوا ((ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون)).[31] إنهم سيرجعون لما نهوا عنه بمجرد أن يرتفع عنهم البلاء، كما حدث معهم في دار الدنيا مراراً عديدة. وفي ذلك يقول تعالى: ((قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون)).[32] إذن لا مجال (للجبر والإكراه) حتى في دار الجزاء، بل الإنسان بنفسه هو الذي يصر على مواصلة مسيرته بكامل إرادته[33]، وكمثال يقرب للأذهان هذه الحقيقة: ما نجده من الطغاة والقتلة والسفاكين والمرتشين والمرابين وأشباههم، فهم رغم كل العقوبات ورغم السجن مرة بعد أخرى يعودون إلى نفس برنامجهم السابق بمجرد أن تتوفر لهم الأرضية والقدرة من جديد. وإذا كان بعضهم ـ في الحياة الدنيا ـ يعود إلى دائرة المعصية مرة بعد أخرى، ثم وبعد تكرر العقوبة أو لغير ذلك يرتدع نهائياً ويتوب إلى الله توبة حقيقية، فإن الله قد فسح له ولأمثاله المجال، وأمهله حتى يتحقق ذلك ولا يخرج الإنسان من الدنيا إلا وقد استقر الأمر في حقيقته ونتيجته النهائية على أحد الطرفين، ولا يبقى للمثقل بالمعاصي المستوجب للجنة ـ لرجحان كفة أعماله الصالحة والشفاعة و... ـ إلا التطهير ومراتب من العقاب في ذلك العالم. |
وماذا عن حقوق الناس؟ |
وربما تساءل البعض: صحيح أن الله سبحانه سيغفر ذنوب العبد فيما بينه وبين ربه، لمحب فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها عليهم صلوات المصلين، بـ (محبته) تلك، كما يغفر تلك الذنوب بالاستغفار، ولكن كيف ستكون المعادلة مع الذنوب التي تتعلق بحقوق الناس. تجيب على ذلك الروايات الشريفة، ومنها الرواية التالية: قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (فيأتي النداء من قبل الله تعالى: يا أخا رسول الله! هؤلاء إخوانه المؤمنون قد بذلوا له، فأنت ماذا تبذل له؟ فإني أنا الحكم ما بيني وبينه من الذنوب قد غفرتها له بموالاته إياك، وما بينه وبين عبادي من الظلامات فلابد من فصلي بينه وبينهـم، فيقول علي (عليه السلام): يا رب أفعل ما تأمرني، فيقول الله تعالى: يا علي، أضمن لخصمائه تعويضهم عن ظلاماتهم قبله، فيضمن لهم علي (عليه السلام) ذلك ويقول لهم: اقترحوا على ما شئتم أعطكم عوضاً من ظلاماتكم قبله).[34] الحديث. |
[1] البرهان الاني هو: الانتقال من العلول الى العلة والاستدلال به عليها، على عكس البرهان اللمي، وهناك برهان يسمى بالشبيه باللم، راجع كتب الفلسفة والمنطق. [2] ينابيع المودة ج2 ص 70 وص 129. [3] بحار الأنوار ج 27 ص 146 ب 5 ح5. [4] بحار الأنوار ج27 ص 145 ب 5 ح3. [5] إشارة دقيقة إلى ما سيأتي من أن (معادلة: الجوهر والمعدن والطينة) لا تنسف قاعدة (الإرادة والاختيار) ولاتناقضها، فدقق. [6] ومن تلك الإخبار، كنموذج من عشرات الروايات: قال الله تعالى لرسوله: (أنت شجرة وعلي غصنها وفاطمة ورقها، والحسن والحسين ثمارها، خلقتهما من طينة عليين، وخلقت شيعتكم منكم، إنهم لو ضربوا على أعناقهم بالسيوف ما ازدادوا لكم إلا حباً، قلت: يا رب ومن الصديق الأكبر؟ قال أخوك علي ابن أبي طالب) أخرجه القريشي في شمس الإخبار ص 33 راجع الغدير ج2 ص 305 –316. ومنها: عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (انا وشيعتنا خلقنا من طينة من عليين وخلق عدونا من طينة من خبال من حمأ مسنون). بحار الأنوار ج 5 ص 225 ب 10 ح 5. وعن علي بن الحسين (عليه السلام): (إن الله عز وجل خلق النبيين من طينة عليين قلوبهم وأبدانهم وخلق قلوب المؤمنين من تلك الطينة وخلق أبدانهم من دون ذلك وخلق الكافرين من طينة سجيل قلوبهم وأبدانهم) البحار ج 5 ص 239 ب 10 ح18. وعن محمد بن حمران قال سألت الصادق (عليه السلام): (من أي شيء خلق الله طينة المؤمن؟ قال: من طينة عليين) البحار ج 64 ص 78 ب 3 ح 6. [7] بحار الأنوار ج58 ص 65 ب 42 ح 51 عنه (ص). والبحار ج 58 ص 106 ب 42. والبحار ج 64 ص 121 ب 3 ح 24. [8] في الحكم عليه بالطهارة، وفي عدد من الاحكام الاخرى، كالارث والدفن و... راجع (موسوعة الفقه) و (المسائل الإسلامية) بحث المطهرات. [9] راجع بحار الأنوار ج 79 ص 117 ب 17 ح 9 عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): (تزوجوا فان مكاثر بكم الأمم حتى ان السقط ليظل مخبنطئاً على باب الجنة يقال له ادخل، يقول حتى يدخل أبواي). [10] بملاحظة النقاط الأخرى التي طرحت أو ستطرح فيما بعد، ستتكامل الصورة ويمكن دفع الإشكالات إنشاء الله. [11] راجع بحار الأنوار ج 5 ص 225 ب 10 ح 3 عن الباقر (عليه السلام): (انا وشيعتنا خلقنا من طينة من عليين وخلق عدونا من طينة من خبال من حمأ مسنون). وراجع أيضا البحار ج 5 ص 247 ب 10 ح 36. [12] سفينة البحار مادة (فضل) نقلاً عن الشيخ الصدوق، وبحار الأنوار ج 18 ص345 ب3 ح 56. والبحار ج 26 ص 335 ب 8 ح 1. هذا وقد قال تعالى: ((السابقون السابقون أولئك المقربون)). [13] ولكن لماذا احب هذا (كالرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم) دون ذاك (كأبي سفيان)؟ الاجابة واضحة: لان هذا اطاع بل تمحض في الاطاعة وذاك عصى، بل وغالى في المعصية، لكن يبقى كيف خلق روح هذا ثم جسده من معدن أسمى وروح ذاك من معدن أردأ، ولماذا قرر الله قبل الخلقة ان يجعل هذا نبيا دون ذاك؟ جوابان تجدهما في هذا المبحث، وهناك اجابة اخرى ستأتي تحت عنوان (الوسام المسبق) ان شاء الله تعالى. [14] الزخرف: 87 [15] يونس: 74. [16] الكافي ج 2 ح 10. وشبهه في بحار الأنوار ج 5 ص 244 ب 10 ح 34. [17] الأعراف: 172. [18] بحار الأنوار ج65 ص 206 ب 22 ح 10. والبحار ج 5 ص 241 ب 10 ح 26. والبحار ج 58 ص 139 ب 43 ح19. [19] الكافي ج2 ص6. بحار الأنوار ج64 ص 93 ب3 ح 14. [20] فلانهم كانوا سيكونون من اهل طاعته، علم بذلك، على النحو الذي ذكره الطوسي في التجريد: (والعلم تابع بمعنى اصالة موازنه في التطابق) لا لأنه علم كانوا كذلك، ولانهم كانوا سيكونون كذلك خلقهم من الماء العذب، لا لأنه خلقهم من الماء العذب كانوا كذلك، فليدقق، وقد تعرض السيد المؤلف لتفصيل الحديث عن ذلك في تدريسه لـ (شرح التجريد) في حوزة قم المقدسة، فراجع الاشرطة. [21] قد ذكر حتى الان خمس اجوبة، الجواب الاول منها على تساؤل: لماذا خلق البعض من معدن اسمى؟ والاجوبة الاربعة الاخرى توضح: (ان ما جرى كان بملأ اختيار البشرية، وان حرية اتخاذ القرار قد وفرها الله في العوالم السابقة، وهي لاتزال سارية في عالم الدنيا، وستستمر حتى في عالم الآخرة. [22] مع ملاحظة النقطة (13) السابقة، وهي التلازم بين الحب والايمان، تكون المعادلة من ست حلقات: الرفض← المعدن ← خبث الولادة ← النفاق ← البغض ← النار. وفي المقابل: التلبية← المعدن ← طيب الولادة ← الإيمان ← الحب ← الجنة. [23] الأحزاب: 72. [24] وكلما كانت درجات النجاح أعلى كلما كان الجوهر المخلوق منه ذلك الفائز أسمى وأرقى. [25] المثال لتقريب الأذهان لتلك الحقيقة. [26] أو يدرك. [27] وان الوجوب كما يترشح من (ذي المقدمة) الموجود حالياً الى المقدمة، كذلك يترشح من ذي المقدمة الذي سيوجد في مستقبل الايام الى المقدمة في الحال الحاضر، اذا كان الوجوب مطلقاً، وكما يحكم العقل بوجوب إعداد العدة للتصدي للعدو الذي هاجمنا بالفعل، يحكم ـ وبنفس القوة ـ بوجوب إعداد العدة للتصدي للعدو الذي سيواجهنا بعد سنة مثلا، اذا كان الإعداد يتقضي سنة من الجهد المتواصل. [28] ولاضمان، بل العكس ((لو ردوا لعادوا)). [29] الأنعام: 28-27. [30] الشعراء: 102. [31] بحار الأنوار ج8 ص 51-52 ب 21 ح 59. والبحار ج 43 ص 65 ب 3 ح 57. [32] الأنعام: 63-64. [33] فمن الممكن القول بأنه تاب في نار جهنم حقيقة، بحيث علم الله منه انه لو اعيد الى دار الدنيا لما عصى الله تعالى، لتاب الله عليه وغفر له وأخرجه الى حيث جنانه الواسعة. فتأمل. [34] بحار الأنوار ج65 ص 107-109 ب 18 ح 20 والبحار ج 8 ص 60 ب21 ح 82. |