فهرس الفصل الأول

فهرس الباب الأول

المؤلفات

 الاجتماع

الصفحة الرئيسية

 

المجتمع وحركة التاريخ  

هل التاريخ يصعد، أو ينزل، أو يدور؟ اختلاف بين علماء الاجتماع، فالمشهور منهم قالوا بصعود التاريخ وتقدمه، لكن لا بمعنى عدم الميل والتعرج له، بل بمعنى أن الأصل تقدمه إلى طرد، وإنما الميل والدوران والتنزل فيه أمر عارض، لا يوجد حتى يرتفع ويأخذ التاريخ مسيره التكاملي، وجماعة قالوا بأن التاريخ آخذ في النزول بالنسبة إلى الإنسان ـ الذي هو المحور ـ وإن كان في صعود بالنسبة إلى الآلة، إذ الآلة جماد ليس الكلام فيها بمهم، في هذا البحث، وإنما الكلام في الإنسان.

ومعنى نزول التاريخ بالنسبة إليه أن تزداد مشاكله حيناً بعد حين حتى تصل الحياة إلى ما لا يطاق، ويدل عليه ما يحدث التاريخ من رفاه الإباء بما لا يوجد مثله في الحال الحاضر، حتى أن كل إنسان تراه، يكون مهموماً ولو من جهة.

أما الذين ذهبوا إلى دوران التاريخ، فقالوا التاريخ يعيد نفسه، فلا صعود ولا نزول، وإنما يتقدم خطوة ليتأخر بعد ذلــك خطوة، وكلمــا صلح حال الإنسان من جــانب فسد من جانب ـ في كل زمان قديسون وأشرار، وظالمون ومظلومون، ومرفهون وفقراء، وهكذا، وهذا معنى دوران التاريخ.

الإنسان… في طريق الصعود  

والظاهر أن القول الأول أقرب لما نرى من تقدم الإنسان في كل الميادين وشتى المجالات، ولسنا الآن بصدد تفصيل الأدلة والجواب، وإنما المهم أن يعمل الإنسان في هذا الخط، لتقديــم الإنسان إلى الأمـــام، أما مشاكله، فـــاللازم أن تحلّ، وحل المشاكل إنما يكون بالإيمان والتقوى، حيث يتبع ذلك عدم استغلال الإنسان للإنسان في الحكم والعلم والاقتصاد، وإنما يكون لكل سعيه حسب كفاءته، كما ألمعنا إلى ذلك في بعض المسائل السابقة.

كيف تتوفر سعادة الإنسان؟  

والهدف من صعود الإنسان سعادته، وهي لا تتوفر إلا في ظل العدالة، وهي بمعنى إعطاء كل ذي حق حقه، وكما في الأمور المادية هناك حركة أفقية، وحركة عمودية، فالإنسان قد يسير من مكان إلى مكان، وقد يصعد إلى السطح، كذلك في الحركة المعنوية، قد يسير الإنسان إلى الأمام، وهذا ما يسمى بالتقدم الكمي، وقد يصعد في سيره التاريخي، وهذا ما يسمى بالتقدم الكيفي مثلاً، كلما سببت الآلة سرعة السير، كان ذلك في الكم، وكلما سببت رفاه المسافر كان ذلك في الكيف.

فإذا تمكن الإنسان من تعميم [الحرية] و [العدالة] و [الأخوة] كان ذلك حركة في الكم، أما إذا تمكن من تحسين كيفية المذكورات، كان حركة في الكيف.

وإذا شئت قلت: إن الثلاثة الأول بمنزلة الواجب والأخير بمنزلة المستحب.

قال سبحانه: (يأخذوا بأحسنها) (1) والحرية عبارة عن إلغاء القيود سواء كانت على روح الإنسان، أو على جسده.

قال سبحانه: (يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)(2).

فسوء الأخلاق وما أشبه يوجب الإصر، أما تحديد سفر الإنسان وإقامته وزراعته وتجارته، فهو أغلال على الإنسان… والعدالة أن يعطى كل إنسان حسب حقه، وهي الحق، لا المساواة، إذ إعطاء المهندس بقدر العامل ظلم للمهندس، أما العكس أي إعطاء العامل بقدر المهندس، فهو اعتباط، وقد يعبر عنه بأنه ظلم للمال، ولذا ورد: (لا تمنعوا الحكمة عن أهلها فتظلموهم، ولا تبذلوها لغير أهلها فتظلموها)(3) فإن إسكان الغزلان في البستان ليفسدوا فيه ظلم للبستان.

أما الأخوة فهي أمر معنوي، فإن رؤية الناس متساويين أمر عاطفي، بينما العدالة أمر عقلي، أما التساوي في القانون وما أشبه فهو من العدالة، حيث لا مزية لأحد على الآخر… ولذا نرى تارة يعبر بالعدالة وأخرى بالمساواة.

قال تعالى: (ومن يأمر بالعدل)(4).

وقال عليه السلام: (الناس من جهة التمثال أكفاء)(5) وقد يراد بالأخوة الأعم من العدالة والمساواة، أما لو جعلت الثلاثة في قبال الأخر، فيراد بالحرية ما ذكرناه وبالعدالة ما تقدم، وبالأخوة الأمر العاطفي، إذ لا أمر مادي بعد العدالة حتى يكون مشمولاً للأخوة، بل ربما يكتفي بالعدالة فقط حيث أن الحرية أيضاً داخلة فيها، فإنه بدون إعطاء الحرية لا تكون عدالة.

مناقشة… مع منكري التكامل الاجتماعي  

وكيف كان، فقد استدل منكرو التكامل الاجتماعي بأن الناس يختلفون في الحسن والقبح، فلا هدف واحد للجميع، مثلاً: الغربيون يعتبرون المذهب الرأسمالي حسناً، بينما يعده الشرقيون سيئاً، وفرعون وقومه كانوا يعدون السحر حسناً، بينما كان المؤمنون يعدونه قبيحاً، وفي بعض المجتمعات الحاضرة قتل المجرم حسن، بينما في بعض المجتمعات الأخر قتله قبيح، وإنما يبدلونه بالسجن، إلى غير ذلك من الأمثلة.

هذا بالإضافة إلى أنه لو فرض وحدة الهدف، فمن أين يمكن إثبات أن الوصول إلى لك الهدف الواحد تكامل؟ وفي كلا الوجهين نظر، إذ لا شك أن الواقع واحد، وإنما يصل إليه من وصل ولم يصل إليه من لم يصل، فليس الحسن والقبح مطلقاً نسبياً وإلا لكان قتل الأبرياء بلا سبب، وحكم القاضي على خلاف القانون وخلاف ضميره بإعطاء الحق للمبطل وما أشبه ذلك حسناً، أو لا حسن له ولا قبح، وكلاهما باطل وجداناً.

وإذا كان الهدف حسناً لم يكن معنى لعدم كونه تكاملاً، فإنه لا يراد بالتكامل إلا الوصول إلى الهدف الحسن.

سبب اختلاف المجتمعات  

وبذلك تبين أنه إذا رأينا اختلاف المجتمعات البشرية في بعض الأمور لابد وأن يعلل ذلك بأحد أمرين:

1 ـ انحراف أحدهما عن الحقيقة إذا كان بين الأمرين تناقض، وإلا أمكن انحراف كليهما، مثلاً: لو رأينا بعض المجتمعات كالرأسماليين والشيوعيين يحسّنون الحرب والاستعمار، ورأينا العالم الثالث يقبّحهما، فإنه لابد وأن يكون أحد الطرفين باطلاً، إذ لا يعقل أن يكون شيء واحد حسناً وغير حسن [كما ثبت في المنطق].

ومثال انحراف كلا الطرفين، مثل كون المال بيد الدولة كما يقوله الشيوعيون، أو بيد زمرة خاصة من الأثرياء كما يقوله الرأسماليون، فإن كليهما باطل، حيث أن اللازم كون المال بيد من يحصل المال بدون الإجحاف كما ذكرنا تفصيله في [الفقه ـ الاقتصاد].

2 ـ أو اختلاف الظروف في المجتمعين مما لا يكون اختلاف في الحقيقة فإن أي واحد من المجتمعين لو كان في ظروف المجتمع الآخر كان يعمل كما عمله المجتمع الواجد للظروف، وبالعكس مثل: [عمل الأطفال] فإنه يحسّنه المجتمع الفقير، ويقبّحه المجتمع الغني، ذلك لأن الأول محتاج إلى عملهم ـ بما يجعل العمل أحسن من باب الأهم والمهم، بينما المجمع الثاني لا يحتاج، فالأمر يبقى على أصله من قبح استعمالهم لأنه يذوي شخصيتهم ويعقّد أنفسهم ـ فيما لم يكن عملاً ترفيهياً، مثل إعطاء الماء للحدائق والطعام للحيوانات وما أشبه ـ.

تعاليم الأنبياء… هي العلاج  

ثم إن ما نشاهده الآن في المجتمع الإنساني من الاضطراب والقلق والتحير والتهديد، ليس لأن الإنسان وصل إلى طريق مسدود، وإنما لأن الإنسان بقدر ما تقدم في ميدان العلم والصناعة لم يتقدم في ميدان الإيمان والتقوى، وكما أنه إذا بدل السيف في يد اللص بالبندقية صار خطره أكثر، صار العلم هكذا، حيث أن التقدم العلمي والفني سبب أن تشتد عضلات الذين لا يؤمنون بالآخرة ولا يتصفون بالفضيلة والتقوى.

فإذا تمكن عقلاء العالم من تأمين كيان الناس، وإرجاع تعاليم الأنبياء إلى البشر زال هذا الخطر، وذلك لا يمكن إلا بإزالة نظام الرأسمالية والشيوعية حيث أن رؤساء هذين النظامين ذوو أطماع، ومن المعلوم أن الطامع إذا صارت له قدرة مادية فسد وأفسد، وإزالة هذين النظامين، لا إنه ينجي العالم الثالث فحسب، بل ينجي نفس العالمين الشرقي والغربي من مآسي هذين النظامين.

وإلا فلا ينبغي الإشكال في أن البشرية تقدمت تقدماً كبيراً، فالولادة كثرت والأمراض تعالج بسرعة، والأمراض التي كانت تحصد الإنسان حصداً كالوباء والطاعون أزيلت كلية أو قلت إلى حد كبير، والسفر صار سهلاً، وساعات العمل تقلصت، والعلم أخذ في التعميم، وصعوبات العمال والفلاحين قلّت ـ بسبب المعامل والتراكتورات ـ والأعمار طالت نوعاً ما بسبب الوسائل الصحية الحديثة، ووسائل راحة الإنسان كالكهرباء وأنابيب الماء ونحوهما كثرت، وأسباب التنزه ازدادت، والاجتماعات تقاربت، إلى غيرها مما ألمعنا إلى بعضه في طي المسائل السابقة.

وقد أخذ الاجتماع يتحول إلى التجديد بسرعة كبيرة، إذ من الواضح أنه كلما تقدم العلم أخذ يسرع في التقدم أكثر لتراكم المعلومات السابقة.

وقد أحصى بعض علماء الاجتماع الاختراعات لشبه قارة واحدة من المدن الصناعية فكانت بين سنة [1860] إلى [1869م] سبعة آلاف وبين [1870] إلى [1879م] ثلاثة عشر ألف، وهكذا ازداد العدد في كل فترة إلى أن وصل عدد الاختراع بين سنة [1950] إلى [1955م] أربعين ألف اختراع.

لاشك أن جملة من هذه الاختراعات تدميرية إلا أن أكثرها بنائية والتدميرية يجب أن تزال بزوال أسبابها، وهي النفوس الشريرة، فإذا طهرت النفوس تبدلت حتى التدميرية إلى البنائية، وما ذلك على الله بعزيز.

اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة…(6).

 

1 ـ سورة الأعراف آية 145.

2 ـ سورة الأعراف آية 157.

3 ـ أصول الكافي ج/1 ص42.

4 ـ سورة النحل آية 76.

5 ـ ديوان الإمام علي عليه السلام ص5.

6 ـ مفاتيح الجنان ص182.