فهرس الباب الأول | المؤلفات |
التأثير المتقابل بين المحيط
الاجتماعي والمحيط الطبيعي |
بين المحيط الاجتماعي والمحيط
الطبيعي تأثير متقابل، فكل واحد منهما يؤثر
على الآخر، تأثيراً كثيراً أحياناً، وقليلاً
أحياناً، ويتراوح الأمر بين الجانبين، فربما
كان تأثير أحدهم على الآخر أكثر من العكس، إذ
كلما كان الاجتماع أكثر قدرة من حيث الفكر
والآلة والصنعة، كان تأثيره على الطبيعة
أكثر، وكلما كان بالعكس كان تأثير الطبيعة
على الاجتماع أكثر. فمن
ناحية قوة الاجتماع يقلع الإنسان أشجار
الغابة الزائدة ويجفف المستنقع ويغير مجرى
الأنهر، ويقلع الجبال، ويشق في ظاهرها الطرق،
وينقب في باطنها لمرور السيارات والقطارات،
وينقب تحت الأرض ليصنع المدن ونحوها، أو
ليستخرج المعادن ويغير الهواء [ـ على الأقل ـ
في داخل الغرف] من الحر إلى البرد وبالعكس،
وينشأ المطر، ويقرب البعيد بالوسائل السمعية
والبصرية، وبالمواصلات، وينير ظلام الليل،
وظلام القطب، ويستخدم قوى المياه والأرياح
لأجل إدارة المعامل ويشق في الأراضي النائية
الوعرة الطرق، ويثقب الأرض حتى يصل إلى
المواد المذابة في داخلها لأجل الاستفادة من
حرها في النور والحركة، والحاصل: أنه يهيئ
لنفسه وسائل الراحة والتقدم من الطبيعة. ومن
ناحية الطبيعة، تؤثر الطبيعة في الإنسان في
تغيير بشرته، وتجعيد شعره، وانكماش جلده،
وتصغير ثقب أنفه ـ كما في الذين يعيشون في
البرد القارص حيث أن الإنسان يصغر ثقب أنفه
حتى يصعب وصول الهواء البارد بسرعة إلى رئته،
بحيث يوجب له الأمراض ـ وتشحيذ ذكائه في
المناطق الحارة في الجملة، أو تكثير بلادته
في المناطق الباردة في الجملة، وتحريف مزاجه
أو استقامته، وسرعة بلوغه، لأن النضج يكون
أسرع، أو تأخيره ـ في مجال الممكن بين الأمرين
ـ وسرعة أو بطوء شيبه، فالأول في المناطق
الحارة، والثاني في المناطق الباردة، كما أن
الأغذية المختلفة والمياه كذلك تسبب صحة
الإنسان تارة، ومرضه أخرى. وقد
تسهل الطبيعة فيتمكن الإنسان فيها من بناء
الحضارة، سواء بناها أم لا وقد تصعب فيصعب
للإنسان بناء الحضارة فيها… ولا تلازم بين
الأقوام المختلفة في الاستفادة وعدمها كما لا
تلازم بين وحدة الطبيعة ووحدة خصوصيات
الأقوام فمثلاً: في النرويج قومان، أحدهما
أرفع طولاً من الآخر وأحدهما أنصع لوناً من
الآخر، وفي مكة المكرمة كانت تعيش قريش
وأمية، وأخلاق الأولى العدل والكرم والصراحة
والصفاء والخدمة، بينما أخلاق الثانية
بالعكس تماماً من الأولى. وفي
الجنوب الغربي من أمريكا يعيش قومان من
الهنود الحمر [هوبي] و [ناواهو] فمع اتحاد
المناخ بالنسبة لهما، واتحاد المزاج فيهما،
فهوبي يمتهنون الزراعة، ويبنون البنايات
الكثيرة الطبقات، بينما ناواهو يمتهنون
الرعي، ويسكنون عمارات ذات طبقة واحدة. نعم
الغالب أن المناخ الواحد يشبه ساكنوه بعضهم
البعض في أكثر الأمور، كما أن الساكنين [في
مناخ واحد يستفيدون من خيرات الطبيعة استفادة
واحدة]. |
قد
تختلف معيشة الأبناء مع معيشة الآباء |
ولا
تلازم بين كيفية معيشة الآباء ومعيشة
الأبناء، وإن كان المناخ واحداً والكيفية
العامة واحدة، إذ كثيراً ما تنقلب أحوال
الأمم من حالة إلى حالة، حتى في جيل واحد وذلك
حسب اختلاف الثقافة والأسوة، فقد أرى التاريخ
أن عرب الجاهلية، كانوا في شظف من العيش [يشربون
الطرق، ويقتاتون القد والورق] وكانوا أذلة
خاسئين، الجهل صبغتهم العامة، ووأد البنات من
المكرمات عندهم، والقتال ونهب الأموال وهتك
الأعراض ديدنهم والعبادة للخشب والحجارة
مفخرتهم، والمعاقرة والزنا والشذوذ الجنسي
رائجة بينهم. وفجأة
تحولت تلك الأمة ـ ببركة الإسلام ـ إلى كل ما
كان يخالف حالتهم السابقة حتى صاروا (خير أمة
أخرجت للناس) و (شهداء على الناس) و (أمة وسطاً)
بلا إفراط وتفريط وقد حملوا مشاعل العلم
والهداية والفضيلة والتقوى إلى مشارق الأرض
ومغاربها. وقد
أشار الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى
حالهم قبل الإسلام وبعده، بقوله: (إن الله بعث
محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نذيراً
للعالمين، وأميناً على التنزيل، وأنتم معشر
العرب على شر دين، وفي شر دار، منيخون بين
حجارة خشن، وحياة صنم، تشربون الكدر، وتأكلون
الــجشب وتسفكون دماءكــم، وتـــقطعون أرحامكم،
الأصنام فيكم منصوبة، والآثام بكم معصوبة)(1). وقال
عليه السلام: (إن الله بعث محمداً صلى الله
عليه وآله وسلم، ليس أحد من العرب يقرأ
كتاباً، ولا يدعي نبوة، فساق الناس حتى بوأهم
محلتهم، وبلغهم منجاتهم فاستقامت قناتهم،
واطمأنت صفاتهم)(2). وقال
عليه السلام: (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله
ابتعثه والناس يضربون في غمرة، ويموجون في
حيرة، قد قادتهم أزمة الحين [الهلاك] واستغلقت
على أفئدتهم أقفال الرين)(3). وقال
عليه السلام: (فالأحوال مضطربة، والأيدي
مختلفة، والكثرة متفرقة، في بلاء أزل [شدة]
وإطباق جهل، من بنات موؤدة، واصنام معبودة
وأرحام مقطوعة، وغارات مشنونة)(4). وقال
عليه السلام: (أضاءت به البلاد بعد الضلالة
المظلمة، والجهال الغالبة، والجفوة الجافية،
والناس يستحلون الحريم، ويستذلون الحكيم،
يحيون على فترة، ويموتون على كفرة)(5). وقال
عليه السلام: (فانظروا إلى مواقع نعم الله
عليهم، حين بعث إليهم رسولاً، فعقد بملته
طاعتهم، وجمع على دعوته ألفتهم، كيف نشرت
النعمة عليهم جناح كرامتها، وأسالت لهم جداول
نعيمها، والتفت الملة بهم في عوائد بركتها،
فأصبحوا في نعمتها غرقين، وفي خضرة عيشها
فكهين، قد تربعت الأمور بهم في ظل سلطان قاهر،
وآوتهم الحال إلى كنف عز غالب، وتعطفت الأمور
عليه في ذوى ملك ثابت، فهم حكام على العالمين
وملوك في أطراف الأرضين، يملكون الأمور على
من كان يملكها عليهم، ويمضون الأحكام فيمن
كان يمضيها فيهم، لا تغمز لهم قناة ولا تقرع
لهم صفات(6)[الحجر الصلد]. |
قوة
الاجتماع تبعد الإنسان عن أضرار الطبيعة |
ثم
إنه كلما قوي الاجتماع، كان الإنسان أبعد عن
أضرار الطبيعة، كالحر والبرد، والشمس
المحرقة والظلمة المركدة، والعوائق
الطبيعية، والحيوانات الضارة والمؤذية،
بينما كلما ضعف الاجتماع كان الأمر بالعكس بل
الإنسان يكون في ظل الحضارة الاجتماعية أكثر
عمراً وأصح جسداً، وأكثر أولاداً، بل وأجمل
جسماً وأهنأ نفساً، وأبعد عن المنازعات
والمقاتلات، والفوضى والاضطراب، والعكس
بالعكس. وقد
ورد في الآية الكريمة: (سلام هي حتى مطلع الفجر)(7)
إن كل مقدرات الإنسان التي ينزلها الله
سبحانه في ليلة القدر لعامه، سلام وإنما
تتحول عن السلام بسوء فعل الإنسان، وحتى مثل
طغيان البحر، والقحط الناشئ عن قلة المطر،
والمرض والموت الباكر، وتشوه الأطفال والتلف
بالزلازل والصواعق، إنما تكون من سوء فعل
الإنسان. فلماذا
لا يتعاون الإنسان لأجل جعل السد أمام ماء
البحر؟ ولماذا لا يحفر الإنسان الآبار
الارتوازية لئلا يرتبط رزقه بالمطر؟ ولماذا
لا يحافظ على صحته الشخصية، وصحة البيئة عن
التلوث حتى يبتلى بالمرض؟ وكذلك الموت أكثر
من سوء فعل الإنسان، ولذا ورد في الحديث: (أكثر
أهل المقابر من التخمة) ولماذا لا يحافظ على
الجنين حتى يتشوه؟ ولماذا لا يجعل أنفاقاً في
الأرض حتى يجر الزلزال إلى خارج المدن، أو
يجعل للزلزال آلات تخبر عنها قبل تكونها،
ليتجنبها الناس؟ ولماذا لا يدفع شر الصواعق
بالآلات المخمدة لها؟ فالإنسان
يتمكن أن يقوي جسمه ونفسه حتى لا تؤثر فيهما
العوامل الطبيعية كما يتمكن أن يزم الطبيعة
بزمام العلم حتى لا تطغى عليه، وقد جعل سبحانه
الكون مسخراً للإنسان، لا أنه جعل الإنسان
مسخراً للكون. قال تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا)(8)… هذا بالإضافة إلى الأسباب الغيبية التي هي وراء الماديات.
|
1
ـ نهج
البلاغة/ صالح/ ص68. 2
ـ نهج
البلاغة/ صالح/ ص77. 3
ـ نهج
البلاغة/ صالح/ ص283. 4
ـ نهج
البلاغة/ صالح/ ص298. 5
ـ نهج
البلاغة/ صالح/ ص210. 6
ـ نهج
البلاغة/ صالح/ ص298. 7
ـ سورة
القدر آية 5. 8
ـ سورة
الأعراف آية 96. |