فهرس الفصل الأول

فهرس الباب الثاني

المؤلفات

 الاجتماع

الصفحة الرئيسية

 

الفرد والعوامل الخارجية المؤثرة

 إذا أردنا أن نعرف الاجتماع يلزم علينا أن نعرف كيف يتولد الاجتماع، وكيف يعيش، وكيف يصعد ويهبط، وكيف يضعف ويقوى كماً أو كيفاً؟

فنقول: الاجتماع مركب من أفراد، وحالات الأفراد تتجلى في الاجتماع، ولذا يلزم أن نعرف أول ما نعرف، ما هي العوامل المؤثرة في الفرد؟

إن العوامل المؤثرة في الفرد ـ على الأغلب ـ أمور عشرة:

1 ـ الجسم:   

(الأول): جسمه الظاهر، فإن التركيب الخاص ببدن الإنسان، مما يؤثر في سلوكه وأعماله واجتماعه فلو كان الإنسان مثل الفيل، أو مثل الطير، أو مثل السمك، أو مثل النمل، لكان الاجتماع الإنسان بغير هذه الصورة الحالية، وإن كان في داخل ذلك الإنسان المفروض نفس العقل والغرائز الموجودة الآن في داخل هذا الإنسان بهذا الشكل… كما أن تلك الحيوانات التي مثل بها إذا كانت في غير تلك الأشكال، لكان لها حياة بغير هذه الحياة التي تعيشها الآن، مثلاً: لو كان النمل بقدر الحمام هل كان يعيش في ثقب البيوت؟ أو هل كان يقتنع بجمع ذرات الطعام؟ ولو كان الفيل ذا أجنحة، هل كان يعيش كما يعيش الآن؟

إن نطفة كل حيوان أو نبات ـ بأية كيفية كانتا ـ لابد وأن تشتمل على أربعة أجهزة [قوى] هي التي تسير الحيوان من بدء تكونه إلى يوم وفاته، وكذلك هذه الأربعة موجودة في داخل كل نطفة ثمرة، وفي نطفة الإنسان أيضاً:

1 ـ الجهاز الذي لا يترك الجسم ليكبر عن قدره المقدر له، أو يصغر عن ذلك، فمثلاً العصفور لا يبقى بقدرة جرادة، ولا يكبر إلى أن يكون بقدر الحمام، وكذلك قل في التفاح أنه لا يبقى صغيراً بقدر لوزة، ولا يكبر بقدر دابوعة، والإنسان لا يبقى صغيراً بقدر أرنبة، ولا يكبر بقدر الخرتيت، أليس كل ذلك بسبب جهاز مخفي يترك الشيء إلى أن يصل قدره، ثم يمسكه أن يتجاوز عن ذلك القدر.

2 ـ الجهاز الذي يحفظ الجسم عن خروجه عن التوازن المقدر بين أعضائه، مثلاً: يد الإنسان لا تكبر بقدر ذراعين، ولا تبقى بقدر نصف ذراع وعينه لا تأخذ مسافة بقدر الحاجب، ولا تبقى صغيرة بقدر حمصة.

3 ـ وجهاز يلاحظ الكيفية، فلا يسود الجسم في الإنسان الأبيض، ولا يبيض في الإنسان الأسود، وإن أكل الأول طول عمره الأشياء السود، مثل التوت الأسود، والثاني الأشياء البيض كاللبن ـ لكن بشرط توفر المواد المحتاج إليها البدن في تلك الأطعمة ـ وكذلك بالنسبة إلى الجميل لا ينقلب قبيحاً، وبالعكس، وحمرة الشفه، وسواد العين، وبياض أطراف الحدقة، إلى غير ذلك لا تتغير، إلا في حالات مرضية ـ ليس الكلام فيها الآن ـ.

4 ـ وجهاز يحفظ التوازن بين الذكر والأنثى في حدود إمكانه، فلو لم تلد النساء خمسين سنة رجلاً أو امرأة لا نعدم النسل، وكذلك في الحيوان، أليس ذلك وليد جهاز خاص في داخل أبدان الآباء، أو المواليد يحفظ هذا التوازن بما يمكن للإنسان ضبطه نسبياً؟

وقد قال سبحانه: (الذي أعطى كل شيء خلقه، ثم هدى)(1).

2 ـ الغرائز:  

(الثاني): الغرائز، فإن كل إنسان فطر على غرائز خاصة، هي حقائق في داخله، تبعث على صفات خاصة، وقد سماها القرآن الحكيم فطرة فقال: (فطرة الله التي فطر الناس عليها)(2) أليس الكرم والشجاعة والرأفة وما أشبه صفات نابعة من داخل الإنسان؟ فكما أن الجسم يتلوّن بمختلف الألوان ـ والتي عدت إلى خمسة وعشرين مليون لون ـ كذلك النفس لها ألوان، وفي الأحاديث: (إن الله خلق العقل والجهل، وأعطى كل واحد منهما جنوداً)(3) أليس ذلك حقيقة؟ وإلا فمن أين هذه الصفات؟

كما أنا نشاهد أن في الحيوان أيضاً غرائز مختلفة، أما قابلية الإنسان تغيير غرائزه دون الحيوان، فلعل ذلك لأن غرائز الإنسان خلقت هكذا دون غرائز الحيوان، أو لعل الحيوان قابل أيضاً لكنه بحاجة إلى وسائل صعبة ومدد طويلة، مما ليس الإنسان كذلك، أو غيرهما؟

3 ـ العقل:  

(الثالث): العقل، وهو ما يحسه الإنسان في باطنه حيث يجد التنازع في كثير من الأمر بين نزعة الخير ونزعة الشر، ومن الواضح أن الذات الواحدة لا اثنينة فيها حتى تكون آمرة رادعة، وقد ورد في الأحاديث أن أول ما خلق الله العقل، ثم قال له: (بك أثيب وبك أعاقب)(4) فالسارق مثلاً في داخله شيء يأمره بالسرقة، وآخر ينهاه عنها، ومن يريد بناء مسجد يقع بين ذلك الآمر والزاجر.

وقد أشار الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى ما تقدم من الأمور الثلاثة في جملة من كلماته.

فقال عليه السلام: (أنشأ الخلق إنشاءاً، وابتدئه ابتداءاً، بلا روية أجالها ولا تجربة استفادها، ولا حركة أحدثها، ولا هـــمامة نفس اضطرب فيـــها، أحال الأشياء لأوقاتها، ولام بين مختلفاتها، وغرز غرائزها، وألزمها أشباحها، عالماً بها قبل ابتدائها)(5).

وقال عليه السلام: (فجعل منها صورة ذات أحناء ووصول وأعضاء وفصول… فمثلت إنساناً ذا أذهان يجيلها، وفكر يتصرف بها، وجوارح يختدمها، وأدوات يقلبها، ومعرفة يفرق بها بين الحق والباطل، والأذواق والمشام، والألوان والأجناس، معجوناً بطينة الألوان المختلفة، والأشباه المؤتلفة والأضداد المتعادية، والأخلاط المتباينة، من الحر والبرد والسبلة والجمود)(6).

4 ـ الوراثة:  

(الرابع): الوراثة فإن الإنسان كسائر الحيوانات يرث من أبويه كثيراً من الصفات والمزايا والخصوصيات مما يؤثر في حياته وطريقة أعماله، وقد ورد في الحديث: (الولد سرّ أبيه) وفي حديث آخر: (العرق دساس)(7).

وفي كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لولده محمد: (أدركك عرق من أمك)(8) إلى غير ذلك.

وقد أكد ذلك جمع من العلماء، بل إن بعضهم ذهب إلى أبعد من ذلك من أن الإنسان يرث معظم الصفات، إلا أنها لا تظهر إلى الفعلية، بل تبقى كامنة لضغط العوامل الأُخر على هذا العامل.

5 ـ القوم:  

(الخامس): القومية الخاصة، فإنها إطار أعم من إطار الوراثة، مثلاً: الولد يشبه أبويه، وفي نفس الوقت يشبه قومه، وهذا شيء حفل به التاريخ الغابر والمعاصر، فبنو هاشم كانوا كرماء حلماء شجعان، بينما بنو أمية كانوا بخلاء لئماء أصحاب حيل ومكر وخداع، وليس المراد بالقومية الرسوم والآداب والعادات غير المرتبطة بالعرق، بل بالتربية، فإن ذلك من عامل خارجي، وإنما الكلام الآن في العامل الداخلي، حتى إذا ربي إنسان أجنبي مع قوم، كانت له تلك الآداب والرسوم، ولكن لا تكون له تلك الصفات القومية.

ومن قبيل القومية، إن الإنسان من أي فصيل من فصائل البشر، الفصيل الأبيض، أو الأسود أو الأصفر، فقد قسم جمع من علماء الاجتماع كل البشر إلى هذه الفصائل الثلاث، وبعضهم قال بأنه أكثر، والمهم في البحث أن هذا الإطار العام أيضاً يؤثر في كيفية الإنسان الباطنية، كما يؤثر في كيفيته الظاهرية… بل ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك، وقال بأن الذكاء يختلف في هذه الأجناس، لكن هذا ما لم يقم عليه دليل قطعي.

أما جمال الظاهر فمن الطبيعي أن ترى كل جماعة نفسها أجمل من غيرها، فالأسود يرى الجمال في السواد، بينما يرى الأبيض عدم الجمال في ذلك وهل هو حقيقي كالجمال أم اعتباري ـ في الجملة ـ أو واقعي؟ وإنما العادة سببت تحريف الذوق احتمالان.

أما قوله سبحانه: (وصوركم فأحسن صوركم)(9) و (تبارك الله أحسن الخالقين)(10) فلا يستفيد منها الإطلاق، وإنما على نحو القضية الطبيعية، أو بالقياس إلى غير الإنسان، بل قد ذهب بعض الحكماء، أن كل المخلوقات في غاية الجمال، وللمجموع من حيث المجموع جمال المجموع، فحتى العقرب والرتيلاء جميلتان، وإنما حيث ينظر الإنسان إليهما نظر الاشمئزاز والتنفر يراهما قبيحتين (ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت) (11).

6 ـ الدين:  

(السادس): الدين، فإن له أهمية كبرى في التأثير في الفرد، ثم التأثير في الاجتماع، ولذا نشاهد الفرق الشاسع بين المجتمع المتدين بدين والمتدين بدين آخر، وبينهما وبين المجتمع اللاديني، ومن جراء ذلك نشاهد أن الخطط التي توضع لمجتمع ما، لا تصلح لمجتمع آخر، إذا كان الثاني بلون غير لون الأول، مثلاً: وضع الدكتور شاخت خطة للتنمية الاقتصادية في ألمانيا فنجحت نجاحاً باهراً، بينما وضع نفس الدكتور خطة مشابهة للتنمية في أندونيسيا، ففشلت فشلاً ذريعاً ولم يكن السبب إلاّ أن المجتمع الإندونيسي مجتمع إسلامي ديني، بينما المجتمع الألماني مجتمع مسيحي علماني.

ولا يخفى الفرق بين الدين المرتبط بالحياة كالإسلام، حيث له مناهج في كل الشؤون، وبين الدين غير المرتبط كالمسيحية، ففي مثل الأول يلزم أحد الأمرين: إما انسلاخ المجتمع عن الدين حتى يتمكن منهاج موضوع ـ على خلاف الدين ـ من النفوذ، وإما أن يفشل المنهاج، قريباً أو بعيداً، حيث أن الأصول تصادم التطبيق. والأصول ـ لكونها عقدة في جذور الإنسان وتحملها المليارات من الكتب ـ ليست قابلة للسقوط وإنما يسقط المنهاج الموضوع.

وهذا هو سر ما نشاهده من تصادم الشعوب الإسلامية مع حكوماتها، مما يسبب أن تعيش الحكومة في عزلة من الشعب إلى أن تسقط، وعند سقوطها تكون للشعب فرحة كبرى بزوال الطاغوت.

قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: (إن الله تعالى خصكم بالإسلام واستخلصكم له، وذلك لأنه اسم سلامة وجماع كرامة، اصطفى الله تعالى منهجه، وبيّن حججه، من ظاهر علم وباطن حكم، لا تفنى غرائبه، ولا تنقضي عجائبه، فيه مرابيع النعم، ومصابيح الظلم، لا تفتح الخيرات إلاّ بمفاتيحه، ولا تكشف الظلمات إلاّ بمصابيحه، قد أحمى حماه، وأرعى رعاه، فيه شفاء المشتفى وكفاية المكتفى)(12).

وقال عليه السلام: (فمن يبتغ غير الإسلام ديناً تتحقق شقوته وتنفصم عروته، وتعظم كبوته، ويكون مآبه إلى الحزن الطويل، والعذاب الوبيل)(13)… وقال عليه السلام: (لا يترك الناس شيئاً من أمر دينهم لاستصلاح دنياهم إلاّ فتح الله عليهم ما هو أضر منه)(14).

7 ـ الثقافة:  

(السابع): الثقافة، فإنها حيث تبين للناس رسم الحياة، التي يمكن أن يتجنب فيها الأخطار بل الحياة السعيدة، إلى أن يصل إلى الحياة التقدمية، توجب توجيه الإنسان، والمراد بالثقافة أعم عن التي تعلمها من بيته أو مدرسته أو محيطه، أو اكتسبها هو بفكره وتجربته.

وما يقال: من أن ولد العالم نصف العالم، يراد به، أنه رأى أباه كيف يعمل فتعلمه، والمراد أن العلم نظري وعملي، والعملي يستوعبه الإنسان من أبيه العالم، كما أن ما يقال: لا أدري نصف العلم، يراد به أن العلم نصفان، نصفه أن تعلم أنك تعلم ونصفه أن تعلم أنك لا تعلم [في قبال الجهل المركب].

وقد ورد في الحديث: (إن لقمان عليه السلام كان كثير التفكر) كما ورد في أبي ذر (رضوان الله عليه) [كان أكثر عبادته التفكر] (15) فالفكر يعطي الإنسان معرفة الأسباب والمسببات، وارتباط الأشياء بعضها ببعض، وطرق النجاح والفشل والفكر مثله مثل القائد الآمر، بينما العمل الجوارحي مثله مثل التابع المأمور ولذا ورد: (فكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة)(16) وورد: (إنما الأعمال بالنيات)(17)إلى غير ذلك.

والسعداء لم يسعدوا إلاّ بالفكر الصالح الذي تعقبه عمل صالح والأشقياء لم يشقوا إلاّ بالفكر الفاسد الذي تعقبه عمل فاسد، وقد تكرر في القرآن الحكيم: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات)(18) فالإيمان فكر ونية وعزم، والعمل الصالح ما يتبع ذلك.

8 ـ الأسوة:  

(الثامن): الأسوة، فإن الإنسان يأتسي في أعماله بمثال أو أمثلة، ويجعل تلك منهجاً لعمله، ولذا نجد الصالحين يتبعهم رعيل من الصالحين وبالعكس من ذلك الفاسدين، وفي القرآن الحكيم: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه)(19).

وقال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً)(20).

وفي كلام للإمام أمير المؤمنين عليه السلام: (فليتأسّ متأس بنبيه وإلاّ فلا يأممن الهلكة)(21).

ولعله لذا ورد: (من سنّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها، ومن سنّ سنّة سيّئة كان له وزرها ووزر من عمل بها)(22).

9 ـ المحيط الطبيعي:  

(التاسع): المحيط الطبيعي فإنه يؤثر في الإنسان تأثيراً كبيراً، فكل إنسان كثيراً ما يكفي حياته على الطبيعة إما تكييفاً طبيعياً، وإما اصطناعياً فالأول مثل تأثير المناطق الاستوائية في لون بشرة الإنسان، بينما ليس كذلك تأثير المناطق غير الاستوائية، وإذا سكن إنسان من الاستواء في المناطق غير الحارة لم تمر أجيال منه إلا ويعتدل ولنه، والعكس بالعكس.

وكذلك من التأثير الطبيعي كون الأمزجة حارة في الاستوائية، بلغمية في القطبية، وبينهما في غير المناخين المذكورين وأمراض المناطق المختلفة تختلف حسب المحيط الطبيعي، كما أن الحضارات ازدهرت في الأماكن الملائمة، لا القطبية والاستوائية لأن المناخ المناسب يعطي للإنسان فرصة تكوين الحضارة وتكميلها، بينما المناخ غير المناسب لا يلائم ذلك.

وقد أرسل الأنبياء بكثرة في الشرق الأوسط، وقال سبحانه: (باركنا حوله)(23) حيث قال بعض المفسرين البركة بالأنبياء، وورد في الحديث أن موسى عليه السلام كان معه سبعون نبياً(24).

ومن الواضح، وجود النشاط في الربيع والخريف، بما ليس مثله في الشتاء والصيف، وقد ورد: (توقوا البرد في أوله وتلقوه في آخره، فإن أوله يورق، وأخره يحرق، وإنه يفعل بأبدانكم كما يفعل بأشجاركم)(25).

والذين يسكنون القطب يصنعون البيوت من الجليد، بينما سكان الغابات يصنعونها من الخشب، وسكان البادية يصنعونها خباءا؟ً من الجلد تارة ومن الوبر والصوف أخرى، أما سكان الجبال والغابات ـ من المتوحشين ـ فيسكنون الكهوف ورؤوس الأشجار، ومن على الضفاف يصنعون بيوت الطوب والآجر والطين.

أما أكل سكان سيوف البحار فالسمك، بينما سكان الواحات والمعاشب يأكلون لحم الأغنام، أما سكان الغابات فيأكلون مختلف أنواع الصيد… وكل يعمل أدواته مما عنده، فسكان الغابة يعملونها من الأخشاب، بينما سكان الجبال ونحوها يصنعونها من الأحجار، وأهل الحضارات من المعادن.

وفي مراكبهم يستفيد كل مما لديه من أو عال وأحمرة، وجمال، وأفراس، ونحوها… وملبس كل حسب ما يجده عنده، من جلد حيوان، أو قطن أو صوف أو أوراق أشجار متينة، وهكذا الاستفادة من الأدوية تختلف حسب اختلاف المناطق فلكل منطقة أدوية خاصة لا يلائم أهل تلك المنطقة إلاّ تلك الأدوية.

10 ـ المحيط الاجتماعي:  

(العاشر): المحيط الاجتماعي، حيث يؤثر الاجتماع في الإنسان تأثيراً كبيراً، وكلما كان الاجتماع أكبر، كان تأثيره في الإنسان أكثر، ويكون من كبر الاجتماع اتصاله بالوسائل الحديثة باجتماعات أُخر، بالحركة أو الاستماع أو المشاهدة، بل وحتى بالتجارة والزراعة فإنه إذا نقلت بضائع ومصنوعات وحبوب من بلد آخر إلى بلد الإنسان تعلم منها التقدم والتطور.

فإن الإنسان، للغريزة المودعة فيه من حب البقاء وحب التطور، يقتضي دائماً ما يبقيه وما يقدمه، فإذا رأى شيئاً يصادم أحدهما تجنبه، وإذا رأى شيئاً يمده في أحدهما اتخذه، والاجتماع حيث يمتلأ بالمصادمات وبأسباب التقدم يسبب انسحاب الإنسان عن ميادين المصادمة، وسيره إلى ميادين التقدم، فهو بين انفعال وفعل، حاله حال من في الغابة يهرب من الأسد، ويتقدم لقطف الثمر، وكما لو أنه لم يكن أسد ولا ثمر، لم يهرب ولم يتقدم، كذلك إذا لم يكن اجتماع لم يكن هرب عن مصادمات الاجتماع، ولا تقدم إلى مواضع الفائدة.

لا… للأنانية والعصبيات  

بقي أمران:

أ ـ في الأفراد غير الناضجين تؤثر الأنانية والتعصب القومي، والتعصب الجغرافي، وكل ذلك يؤخر الإنسان، فالأنانية الفردية والقومية والجغرافية، ستر يحجب بين الإنسان وبين مصالحه، فلنفرض أن الإنسان طبيب وابتلي بمرض لا يفهمه، فهل خير له أن يراجع طبيباً يفهم مرضه ولو من غير قومه ومن غير محل سكناه، أو يتعصب فيعمل بمداواة نفسه، أو إلى طبيب قومه، أو طبيب محل سكناه؟ والحال هكذا في كل الأمور العلمية والصناعية وغيرها.

[أما ما نشاهده من تقديم العقلاء بضائع أنفسهم على بضائع غيرهم، فليس ذلك إلاّ لأجل موازنة أهم، فهم في الحقيقة أيضاً يرجعون إلى الأصلح لا إلى الفاسد لأجل الأنانية].

والحال كذلك بالنسبة إلى القضاء للقريب والقوم ومن محل السكن، قبل تبيّن الحق، أو بعد تبيّن أن الحق ليس لهم.

وكذلك بالنسبة إلى غلق أبواب البلاد، أمام العلم، أو أمام الغير ممن يسمونه بالأجنبي في غير المصطلح الإسلامي، مع أن ضرر كل ذلك يعد إلى الإنسان نفسه.

ومن هذا القبيل صنمية الأحزاب والمنظمات والجمعيات، حيث أنها تطرد الغير وإن كان صالحاًن وتمدح الذات وإن كانت طالحة.

وقد ذكر الإسلام نصوصاً كثيرة في مضادة هذه الأمور، والتي لا تنتهي إلاّ بضرر الفرد والجماعة، ففي القرآن الحكيم: (لا تبخسوا الناس أشياءهم)(26) وقال سبحانه [عن لسان شعيب]: (ويا قوم لا يجرمنّكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد)(27).

وقال تعالى: (ولا يجرمنّكم شنآن قوم إن صدّوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا، وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)(28).

وقال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط له ولا يجرمنّكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون)(29).

وقال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً)(30).

وقال علي عليه السلام: (إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)(31).

وفي الحديث: (أنصاف الناس من نفسك)(32) وفي حديث آخر: (من تعزى بعزاء الجاهلية فاعضوه بهن أبيه ولا تكنّوا) وفي شعر منسوب إلى الإمام عليه السلام (فإن لكن لهم في أصل نسب) (يفاخرون به فالطين والماء)(33) وفي الآية الكريمة: (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)(34).

وفي الآية الكريمة: (لا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا)(35) إلى غيرها من الآيات والروايات الواردة بصدد ما ذكرناه.

الزهد في الدنيا  

ب ـ حيث ذكرنا المؤثرات العشر في الإنسان، وذكرنا في البند السابق مسألة الأنانية، ينبغي ذكر أن اللازم على الإنسان أن يتزهد في الدنيا، لا زهد التاركين الرهبان، بل زهد من يعرف عدم قيمة الدنيا في نفسها فكيف بقيمتها في قبال الآخرة، فلا يفسد آخرته لتعمير دنياه، بل يجعل الدنيا كالقنطرة، ويعمل بما قاله الإمام الحسن عليه السلام: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً)(36).

وفي القرآن الحكيم آيات بهذا الصدد، قال سبحانه: (وابتغ في ما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك)(37).

وقال تعالى: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، أولئك لهم نصيب مما كسبوا)(38).

وفي كلمات الرسول والأئمة عليهم السلام أحاديث كثيرة بهذا الصدد:

قال علي عليه السلام: (لبئس المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمناً ومما لك عند الله عوضاً)(39).

وقال عليه السلام: (إقبالها خديعة وإدبارها فجيعة)(40).

وقال عليه السلام: (فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظ(41) [هو شيء يدبغ به] وقراظة الجلم [هو المقص الذي يجز به الصوف].

وقال عليه السلام: (إن دنيــاكــم هذه أزهد عندي من عــفطة عــنــز)(42)، وفــي كــــلام آخر له: (من عراق خنزير في يد مجذوم)(43).

 

1 ـ سورة طه آية 50.

2 ـ سورة الروم آية 30.

3 ـ أصول الكافي ج/ 1 ص21.

4 ـ بحار الأنوار ج/ 1 ص97.

5 ـ نهج البلاغة/ صالح/ ص40.

6 ـ نهج البلاغة/ صالح/ ص42.

7 ـ مكارم الأخلاق ص197.

8 ـ بحار الأنوار ج/ 42 ص98.

9 ـ سورة غافر آية 64.

10 ـ سورة المؤمنون آية 14.

11 ـ سورة الملك آية 3.

12 ـ نهج البلاغة/ صالح/ ص212.

13 ـ نهج البلاغة/ صالح/ ص230.

14 ـ نهج البلاغة/ صالح/ ص487.

15 ـ البحار ج/ 68 ص326.

16 ـ البحار: ج68 ص326، أنظر: أسرار الصلاة ص286.

17 ـ الوسائل: ج1 ص34 الباب 5 من أبواب مقدمة العبادات ح7.

18 ـ سورة البقرة آية 25.

19 ـ سورة الممتحنة آية 4.

20 ـ سورة الأحزاب آية 21.

21 ـ مكارم الأخلاق ص9.

22 ـ مشكاة الأنوار ص247.

23 ـ سورة الإسراء آية 1.

24 ـ بحار الأنوار ج/ 4 ص47.

25 ـ نهج البلاغة/ صالح/ ص491.

26 ـ سورة الأعراف آية 85.

27 ـ سورة هود آية 89.

28 ـ سورة المائدة آية 2.

29 ـ سورة المائدة آية 8.

30 ـ سورة النساء آية 135.

31 ـ نهج البلاغة/ صالح/ ص427.

32 ـ بحار الأنوار ج/ 72 ص29.

33 ـ ديوان الإمام علي عليه السلام ص5.

34 ـ سورة الحجرات آية 13.

35 ـ سورة الإسراء آية 36.

36 ـ وسائل الشيعة ج/ 12 ص49.

37 ـ سورة القصص آية 77.

38 ـ سورة البقرة آية 201.

39 ـ نهج البلاغة/ صالح/ ص75.

40 ـ غرر الحكم: ص197 ح3753.

41 ـ نهج البلاغة/ صالح/ ص76.

42 ـ نهج البلاغة/ صالح/ ص50.

43 ـ نهج البلاغة/ صالح/ ص510.