فهرس الفصل الأول

فهرس الباب الثالث

المؤلفات

 الاجتماع

الصفحة الرئيسية

 

أجواء نمو الشخصية

 كيف يمكن إنماء الشخصية الاجتماعية حتى يصل الاجتماع إلى شخصيته المطلوبة، أي القابلة؟ إن ذلك إنما يكون في ظل إنماء الشخصية الفردية، إذ الشخصية الاجتماعية عبارة أخرى عن تجمع الشخصيات الفردية، إنه لاشك في أن الاجتماع له شخصية غير شــخصيـــة كل فرد فرد، كــما أن البحر له قوة غير قوة كل قطرة قطرة، لكن بصورة عامة يتوقف الكيان الاجتماعي على الكيان الفردي، سواء في الشخصية أو في البحر والقطرة، أو في الجيش والجندي، أو في البناء والأجرة، أو في الواحد والألف ـ من الأعداد ـ.

وعليه فاللازم ملاحظة أنه كيف تنمو شخصية الفرد ـ ثم إذا كان للاجتماع بما هو اجتماع شرائط وآداب لنموه، يلزم ملاحظة ذلك في مرتبة ثانية ـ ولدى الاستقراء والسبر يرى أن الشخصية الفردية إنما تنمو في ظل كون [الحكم] و [العلم] و [المال] للجميع بأن يكون الناس يحكمون أنفسهم بأنفسهم، وكل يتمكن من العلم تمكنه من الماء والهواء، وكل له نتيجة سعيه الفكري والجسدي، بالإضافة إلى [قيمة المواد، وما له من الشرائط والعلاقات الاجتماعية].

وفي مثل هذا الجو [لكل قدر استحقاقه من الحكم والعلم والمال] تنمو الشخصيات نمواً ممكناً، وقد كان قبل الإسلام كل من الثلاثة محتكرة على طائفة الحكام، وحتى أن العلم كان محظوراً إلا للموبذ ـ في إيران ـ وللكنيسة ـ في الرومان ـ وجاء الإسلام ليعطي لكل حقه، ولكن إلى الآن لم تقدر الدنيا على ذلك، حيث أن العلم محروم منه الطبقات الفقيرة ـ كما تقدم في مسألة سابقة ـ.

والحكم في الغرب تحت سيطرة المال، وفي الشرق تحت سيطرة الديكتاتور… والمال يستغل في الغرب لمصلحة الرأسماليين، وفي الشرق لمصلحة الحكام… وليس المراد بكون الحكم للجميع إلا [الاستشارية] الصحيحة ـ مع لزوم أن يكون بالشرائط الإسلامية، كما هو عقيدة المسلم ـ.

ولا يمكن إخراج الحكم والمال والعلم عن السيطرة الفردية، والاحتكار إلى التوزيع العادل بين الجميع، إلا بتوزيع القدرة، فقد قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: (من ملك استأثر)(1) وتوزيع القدرة لا يمكن إلا بالوعي الجماهيري بأن يعرف الكل كم حق كل أحد من العلم والمال والحكم.

فإذا وعى الجميع لا يتمكن المستثمرون من استثمار علم أو مال أو حكم غيرهم، كما هو الحال في عالم اليوم وإن اختلفت البلاد في شدة الاستثمار وضعفه، نتيجة لكثرة الوعي ـ في الجملة ـ في بعض البلاد وقلته في بعض البلاد الأخر.

فإذا وعى الجميع، تبع ذلك تشكل المنظمات الحافظة للمكاسب، والمنمية لها، أما المنظمة الواحدة فهي عبارة أخرى عن الديكتاتورية، كما نشاهد ذلك في البلاد التي يحكم فيها حزب واحد، فإن الإنسان أقرب شيء إلى الديكتاتورية والفردية.

طبيعة الحكم الديكتاتوري  

ومن طبيعة الديكتاتورية:

1 ـ السرية في العمل، حيث أن الديكتاتور دائماً متآمر يريد بذلك أن يحفظ قدسه أمام الناس، فيعمل في السر ما يظهر في العلن خلافه.

2 ـ إظهار أنه العامل الوحيد في الساحة وإن كل الفضل يرجع إليه.

3 ـ تنفيذ آرائه فقط، أما غيره فرأيه غير صحيح، فهو فرد الله المختار الذي يفهم ما لا يفهمه غيره.

4 ـ استئثاره بكل الغنائم، أي أن كل السمعة، وكل الدعاية، وكل الخير له فقط، أما من عداه فله بقدر ما تفضل عليه الديكتاتور تفضلاً محضاً وإحساناً صرفاً، فقد يجعل خيرة الأموال لنفسه وجماعته ملكاً صرفاً، وقد لا يجرء على ذلك، بل يحوط الأموال لصرفها في هواه ـ وإن سمى ذلك بألف اسم آخر ـ ولا فرق في الدكتاتورية بين الصريحة، أو الملتوية تحت صورة [مجلس الأمة أو مجلس القيادة، أو مجلس الشعب] أو غير ذلك، وقد شاهد العالم أمثلة واضحة لذلك في ستالين وهتلر وموسيليني وماو، وأضرابهم من الديكتاتوريين الأصغر منهم حجماً، وإن كانوا مثلهم في كل الخصوصيات.

ومما تقدم ظهر أنه لو نظم المجتمع تنظيماً صحيحاً، بحيث يكون العلم والمال والحكم في متناول الجميع بما يستحقون، نمت الشخصية الاجتماعية نمواً صحيحاً، بالعكس من المجتمع المبني على الفوضى، حيث كل أحد يحاول أن يحفظ نفسه بالقدر المستطاع فلا مجال له للنمو، ومن المجتمع المبني على الديكتاتورية، حيث أن البناء الديكتاتوري يمنع عن النمو.

اختلاف النفسيات  

وكما أن البذور مختلفة ـ فإذا وجدت المناخ المناسب نمت كل بذرة بما فطر لها، من الأشكال والألوان والطعوم وغير ذلك، كذلك أفراد الاجتماع بصفاتهم المختلفة، وقد قسم بعض علماء الاجتماع أفراد الاجتماع إلى أربعة أقسام هي:

1 ـ الهادئ، حيث يرجح التعقل والتفكر والتأني والتروي.

2 ـ المتحمس حيث يرجح الإقدام والاقتحام والاستهانة بالمخاطر.

3 ـ المنسجم الذي يميل إلى الانسجام والمداراة.

4 ـ المتنفر الذي يميل إلى الانفصام والابتعاد.

ولا يخفى أن الصفات المذكورة تكمل بعضها البعض الآخر، ولذا يشاهد أن الجمعية المركبة من القسمين الأولين، يمنع هادؤها متحمسها من الإفراط كما يمنع متحمسها هادءها عن الركود، وتكون النتيجة الإقدام العقلائي، وكذلك في جمعية تجمع بين المنسجم والمتنفر، وهكذا بالنسبة إلى بقية أقسام ضرب الأربعة بعضها في بعض.

ومع أنا نرى في عائلة واحدة قسمين أو أقساماً من الأولاد، إلا أن التربية لها أثر فعال في تلوين المجتمع، بأحد الألوان المذكورة، أو المزيج المتوسط منها، فبعض الأمم يربون على التعقل والتأني، بينما بعض آخر يربون على الإقدام والاندفاع، وهكذا… ولذا اشتهر أن شعب العراق له صفة كذا، وشعب إيران له صفة كذا، والآسيويين ليسوا في صفاتهم كالإفريقيين وتختلف سمات الأمريكيين عن الأوروبيين، وهكذا.

ثم إنه ليست حدود خاصة بين الأقسام المذكورة، حتى تكون التمايز كلياً، ولذا يشاهد في أمة لها شخصية خاصة، أفراد لهم شخصية متوسطة أو مخالفة وإنما هم عالم الاجتماع، ملاحظة الأعم الأغلب.

الاهتمام بالتربية والتثقيف  

وحيث أن كثيراً من الشخصية الفردية والاجتماعية، يتوقف على أسلوب التربية والتثقيف، فاللازم على الذين يريدون إصلاح المجتمعات الاهتمام بهذا الجانب، فإن ظهور الشخصية ـ حسب التأديب ـ وإن كان بطيئاً، إلا أنه نواة لابد وأن يظهر ثمرها، ولو بعد حين، ولا فرق في ذلك بين تأديب الإنسان نفسه، أو أولاده، أو أقرباءه، أو من يتمكن عليه من أفراد مجتمعه.

قال علي عليه السلام: (سوء الأدب سبب كل شر)(2).

وقال عليه السلام: (أفضل الأعمال ما أكرهت نفسك عليه)(3).

وقال عليه السلام: (لا ميراث كالأدب)(4).

وقال عليه السلام: أيها الناس تولوا من أنفسكم تأديبها، واعدلوا بها عن ضراوة عاداتها)(5).

وقال عليه السلام: (غاية الأدب أن يستحي الإنسان عن نفسه)(6).

وقال عليه السلام: (لا تقروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم)(7).

أقول: فإن ذلك من بعد المدى، حيث يجب أن يؤدب الإنسان ولده اجتماعياً، بحيث يقدر على أن يساير الاجتماع، في نطاق الأحكام الإسلامية.

وقال عليه السلام: (المرآة التي ينظر الإنسان فيها إلى أخلاقه هي الناس، لأنه يرى محاسنه من أوليائه منهم، ومساوءه من أعدائه فيهم).(8)… إلى غيرها.

ولا يخفى، أن المجتمع كلما كان أكبر، كان أقرب إلى القوام والاعتدال لأن العناصر المختلفة التي تصب فيه بثقافاتها المختلفة توجب تلون الاجتماع باللون الأنصع، فإن من طبيعة الإنسان أن ينظر إلى الأعلى فيتخذه أسوة، وأن يسعى بمثل سعي الأكثر سعياً لئلا يفوته الركب.

ولذا كان من صفات المجتمعات الكبيرة:

1 ـ وجود المحاسن فيها.

2 ـ اقترابها بمجموعها إلى الاعتدال.

3 ـ سرعتها في السير والتقدم إلى الأمام.

فإنه وإن كانت المشاكل في مثل هذه التجمعات أكثر، إلا أن محاسنها أكثر من مساوئها، ولذا أمر علي عليه السلام: بسكنى المدن الكبار، وكان المجتمع الكبير من أحسن أسباب إعطاء [الشخصية] المعتدلة للإنسان، فرداً أو جماعة أو مجتمعاً.

عوامل صياغة الشخصية الفردية  

ثم إن الشخصية الفردية ـ والتي تؤثر بالآخرة في شخصية الاجتماع ـ إنما تصاغ بسبب العوامل التالية:

1 ـ الصفات النفسية:

1 ـ الصفات النفسية الفطرية المودعة في نفس الفرد منذ الولادة، ولذا نشاهد طفلين شرائطهما متحدة من جميع الحيثياتـ، ومع ذلك أحدهما أجرء من الآخر، أو أكرم، أو أذكى، أو ما أشبه ذلك.

وقد ثبت علمياً، أن صفات الأبوين، بل الأقرباء كالعم والخال، وحالتهما عند انعقاد النطفة، وخصوصيات غذاء الأم حال الحمل، بل وبعض جهاتها الأخر، لها مدخلية في نفسية الطفل، وفي الفقه: [باب النكاح] فصل الأولاد، روايات بهذا الشأن.

2 ـ الخصوصيات الجسدية:

2 ـ خصوصياته الجسمية، من طول وقصر، وجمال وقبح، وكمال ونقص، وصحة ومرض، وما أشبه فإنها سهيم في تكون الشخصية، مثلاً القصر غير المتعارف أو الطول غير المتعارف، يسببان تحقير الناس له [وإن كان التحقير غير صحيح] والتحقير يسبب عقدة نفسية في الإنسان، مما يسبب له شخصية معقدة يظهر أثرها في أعماله.

بالعكس المجيل يحظى باحترام الناس، مــما يسبب له عـــدم الانطوائية، وحفظ احترام نفسه، لئلا يخيب ظن الناس فيه، وقد ورد: (إن الله جميل يحب الجمال) (9)، وورد: اتخاذ الظئر الجميل للرضاع لأن اللبن يعدي وورد: (خير نساء أمتي أصبحهن وجهاً وأقلهن مهراً)(10).وحال القبيح، والناقص، والمريض، حال القصير والطويل… بالإضافة إلى أن المريض أو الناقص لا يقدران على ما يقدر عليه الصحيح والكامل، وكل ذلك يعطي للإنسان شخصية مناسبة لتلك الظواهر.

3 ـ المحيط الطبيعي:

3 ـ كون الفرد ريفياً أو مدنياً، يعيش في ساحل البحر، أو الغابة، أو الجبل أو غيرها، وذلك لأن المناخ يعطي للإنسان شخصية خاصة ـ كما تقدم في بعض المسائل السابقة الإلماع إلى مثل ذلك، مثلاً: الريفي أصرح من المدني، والذي يعيش في الغابة أشجع من غيره… ومن هذا المنطق كانت عادة قريش ـ قبل الإسلام ـ إيداع أولادهم الرضع إلى المراضع البدوية لينشأوا شجعاناً فصحاء صرحاء أصحاء الجسم، وكما قال علي عليه السلام: (فإن الشجرة البرية أصلب عوداً، وأكثر وقوداً وأبطؤ خموداً)(11).

4 ـ الوضع المعيشي:

4 ـ إنه عاش في طبقة فقيرة أو غنية أو متوسطة:

أ ـ فالفقيرة، ترضع الأمهات أولادها طويلاً، ويتعلم الولد على حياة الخشونة، وحيث أن للفقير روابط قليلة، يخرج الولد بشخصية جسورة صريحة بسيطة… بينما العكس من كل ذلك أولاد الطبقة الغنية… أما المتوسطة فالأولاد يكونون بين الأمرين.

ب ـ حيث أن الطبقة الفقيرة تعمل دائماً لأجل المعاش، لا يتسرب إلى أولادها مسائل المعاشقة والأمور غير المشروعة، مما يكون سببها [الفراغ والجدة] بالعكس من أولاد الأغنياء المنحرفين، حيث يتوفر لهم [ذان الأمران] بتوابعهما.

ج ـ سهولة الحياة عند الطبقة الفقيرة، بخلاف الطبقة الغنية، حيث أن قلة المادة والاشتغال بالمعاش يمنع الفقير، من أن يركم على نفسه أغلال الحياة، من رسوم الزواج والولادة والموت، وغير ذلك مما تلازم حياة الغنى والدعة في الغالب، وكذلك الحال في المسكن والملبس والمركب والسفر والمرض، وغير ذلك.

د ـ يغلب في الطبقة الفقيرة الإقدام والإفراط، فيما الغالب في الطبقة الغنية العكس، وذلك لأن الروابط التي تحيط الفقير أقل، ولا مال ولا جاه له حتى يلاحظهما في سلوكه، بينما كل ذلك بالعكس في الطبقة الغنية.

وعليه فالطبقة الغنية لهم شخصية خاصة، ليست كشخصية الطبقة الفقيرة، والطبقة المتوسطة تعيش بين الطبقتين في الشخصية.

5 ـ العمل الاجتماعي:

5 ـ بعد ذلك يأتي دور الشغل، فإن الأشغال المختلفة تعطي للإنسان شخصيات متفاوتة، فالمرجع الديني، والخطيب، والقاضي، والمعلم، لهم شخصية خاصة، لا تماثل شخصية الجندي، والتاجر، والموظف، وما إلى ذلك والسبب أن العمل في نفسه، والمرتبطين بأي عامل عامل، يتطلبان نوعية خاصة، فاللازم أن يصب العامل ـ من أي لون عمل ـ نفسه في قالب ذلك الكيفية من الطلب، وإلا لم يتمكن من إنجاح عمله.

ومنه يعلم، اختــلاف الشخصيات، ولو كـــانوا في إطار عام واحد، كالمرجع والخطيب، بل ومدرس الابتدائية والثانوية والجامعة.

6 ـ التعليم:

6 ـ وأخيراً يأتي دور التعليم بشعبه:

أ ـ البيتي.

ب ـ والمدرسي.

ج ـ والاجتماعي الصغير.

د ـ والاجتماعي الكبير، حيث أن العائلة مدرسة للأطفال، يتعلمون فيها كثيراً من الآداب والرسوم، ثم المدرسة تعطي التوجيهات، وإذا كان الإنسان منضماً إلى جماعة: كقومية، أو دين، أو منظمة، أو حزب، أو ما أشبه، تعلم منهم أموراً، ليست كسائر التعاليم السابقة، وأخيراً يأتي دور ما يتعلمه الإنسان من الاجتماع العام.

وهذه الأمور كلها تعطي الشخص كيفية خاصة من [الشخصية].

ولا يخفى، أن بعض الأمور المذكورة التي لها مدخلية في إضفاء الشخصية على الفرد، أكثر نفوذاً في الشخص من البعض الآخر، مما تكون [شخصية] الشخص مستندة إليه بنسبة أعلى من استنادها إلى أمر آخر، مثلاً: النفوذ البيتي والمدرسي، أثرهما أكثر من النفوذ الاجتماعي والحزبي.

والسر أن الطفل صفحة بيضاء، فكلما نقش فيها تلونت تلك الصفحة بذلك اللون، فإذا جاء لون آخر يريد إزالة ذلك اللون السابق، لم ينفذ كنفوذ اللون السابق، فيبقى اللون الجديد باهتاً، بينما اللون القديم يبقى قاتماً، هذا بالإضافة إلى أن تقبل الطفل أكثر وأسرع من تقبل غيره، وإن لم يكن اللون الجديد مضاداً للون القديم، ولذا يبقى لون العائلة والمدرسة في نفس الإنسان وفي أسلوب حياته إلى زمان موته، بينما ليس كذلك لون حزبه واجتماعه الكبير.

اختلاف الاستجابة للمؤثرات  

ثم لا يخفى أن استجابة الناس ـ أطفالاً، أو كباراً ـ للألوان التي يراد إضفائها على النفس والسلوك، مما بالآخرة تعطي [الشخصية] مختلفة، وذلك لأن الأنفس فطرت متفاوتة، كما أن الشخصيات تتفاوت في قدر تقبل اللون الجديد والمدة التي يحتاج إليها الشخص حتى يتهيأ للتقبل.

مثله، مثل الماء الواحد، الذي يلمسه ثلاثة أفراد، فيحس كل واحد منهم بحس مخالف للحس الآخر، فإذا كان [ماء فاتر] و [كان ثلاثة أشخاص] أحدهم خرج من الماء البارد، والآخر من الماء الحار، والثالث من الماء الفاتر، فإذا دخل الثلاثة في هذا [الماء الفاتر] وجده الأول حاراً، والثاني بارداً، والثالث فاتراً، وليس ذلك لاختلاف الماء، وإنما لاختلاف الاستجابة.

وقد فحص جماعة من علماء الاجـــتماع كـــيفيـــة تكون [الشخـــصية] فوجدوا أن في مأة عائلة يتقولب الأطفال بأخلاق أبويهم [55] وبأخلاق أصدقائهم [33] وبأخلاق المرشدين [9] وبأخلاق المعلمين [3] وهذه النسب وإن كانت مشكوكة، إلا أن المسلم أكثرية تأثير العائلة، ثم الأصدقاء، وقد ورد (المرء على دين خليله).

كما أن مثل هذا الإحصاء لا يصدق إلا ما في الظروف العادية، فإذا كانت العائلة في فوضى واضطراب، وكان الأصدقاء في تضامن وبناء، صار العكس بأن تقولبت شخصية الأولاد بقوالب الأصدقاء لا بقوالب العائلة. 

التخطيط لإنماء الشخصية  

والاجتماع بشلاله الهادر قادر على الاستفادة من [مادة الشخصية] أكبر قدر من الاستفادة، كما أنه بالعكس قادر على إلزام [الشخصية القابلة] زاوية العزلة والانزواء، ولذا كان على المخططين الاجتماعيين تنظيم الاجتماع، بحيث تكون الشخصيات الرفيعة، وبحيث يستفيد من [المواد] ومن الشخصيات إلى آخر قطرة من الاستفادة الممكنة… ولا يمكن ذلك إلا بحرية [العلم والمال والحكم] كما ذكرناه في أول المسألة، والله المستعان.

ومما تقدم ظهر أن الاجتماع يربي الأفراد تربية عامة، حسب اتجاه الاجتماع، محارباً أو مسالماً، عاملاً أو عاطلاً، كريماً أو بخيلاً، جباناً أو شجاعاً.

التوجيه السليم لصفات الأمة  

وحيث أن بعض الصفات يمكن استخدامها في الصحيح، أو في الباطل فالمصلح القدير هو الذي يتمكن من توجيه الصفة التي تستخدم في الباطل في الأمر الصحيح، مثلاً: إذا كانت الأمة مسرفة في الصرف على الولادة، والزواج والأموات، أمكن صرف صفتها الإنفاقية ـ والتي تصرف بإسراف في الأمور المذكورة ـ في المشاريع الخيرية، كالمدارس، والمساجد والمستوصفات وما أشبه.

والنبي صلى الله عليه وآله استفاد من هذه القاعدة الإلهية، فقد كانت القبائل العربية تصرف طاقة شجاعية هائلة في محاربة بعضها لبعض، فصرفها الرسول صلى الله عليه وآله في محاربة الخارج، لأجل إعلاء كلمة الله وإنقاذ المستضعفين، كما صرف صلى الله عليه وآله إسرافهم في إنفاقات كانوا يسمونها كرماً في إعطاء الحقوق الشرعية، والصرف في سبيل الجهاد، وصرف قريحتهم البليغة وفصاحتهم الشعرية والنثرية في الإرشاد والبلاغة.

فبينما كانت تصرف القريحة الشعرية في:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل       بسقط اللوى بين الدخول فحومل

صرفها الرسول صلى الله عليه وآله في:

يناديهم يوم الغدير نبيهم             بخم وأسمع بالرسول منادياً

إلى غير ذلك، وبينما كان العربي يقتل العربي في سبيل ناقة، في حرب البسوس، أخذ المسلم يجالد الفرس والروم في سبيل [الحقيقة] عوض الخرافة، وفي سبيل نشر العلم بعد أن كان محتكراً عند الأشراف، وهكذا.

وإذا كانت بعض الأمم تفقد الصفة الخيرة، فاللازم على المصلح، إرشادهم إلى فطرتهم المطوية على تلك الصفة… كما أن اللازم على المصلح صرف الصفة المنحرفة، من أوليات رغبات الإنسان في الجهة المستقيمة، مثل أمة تصرف شهواتها في الشذوذ والانحراف الجنسي، حيث أن اللازم توجيههم نحو صرفها (في ما خلق لكم ربكم)(12) ـ كما قاله لوط عليه السلام لقومه.

فإن الفرد كالمجتمع أرض قابلة لمختلف الزرع، فاللازم زرع الطيب فيها إن كانت قفراء، وإن كانت مزروعة بالزرع السيء، لزم اقتلاع ذاك الزرع وزرع الطيب مكانه، ولذا قدم القرآن الحكيم التزكية.

قال سبحانه: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة)(13).

فالإنسان هو الإنسان، وإنما الاختلاف بظهور الصفات والكوامن، مثلاً المرأة في كل عصر ومصر هي المرأة، وإن كانت عاراً في أمة، وسيدة في أمة، ومربية في أمة، وأداة شهوة في أمة، وهكذا.  

1 ـ تحف العقول ص15.

2 ـ شرح نهج البلاغة ج/20 رقم 22 ص258.

3 ـ نهج البلاغة/ صالح/ ص511.

4 ـ نهج البلاغة/ صالح/ ص478.

5 ـ نهج البلاغة/ صالح/ ص538.

6 ـ شرح نهج البلاغة ج/20 رقم 90 ص265.

7 ـ شرح نهج البلاغة ج/20 كلمة رقم 102 ص267.

8 ـ شرح نهج البلاغة ج/20 رقم 128 ص271.

9 ـ أصول الكافي ج/2 ص164.

10 ـ مكارم الأخلاق ص198.

11 ـ نهج البلاغة/ صالح/ ص418.

12 ـ سورة الشعراء آية 166.

13 ـ سورة الجمعة آية 2.