فهرس الفصل الرابع

فهرس الباب الأول

المؤلفات

 الاجتماع

الصفحة الرئيسية

 

لا… للانقلابات العسكرية

 الحركات الانقلابية، على قسمين:(الأول): الانقلابات العسكرية، ولا كلام لنا فيها، حيث أنها خارجة عن البحث الاجتماعي، إلا إذا أريد التكلم حول [قطاع الطرق واللصوص] إذ كلا الأمرين من واد واحد، ولذا كلاهما يبنيان على سلب الناس أموالهم وكبت حرياتهم، وقتلهم وتعذيبهم، منتهى الأمر أن اللصوص يعملون هذه الأعمال في نطاق ضيق، والانقلابات العسكرية تعمل تلك في نطاق واسع واللصوص لا يعترف القانون الدولي بهم أما الانقلابات العسكرية، فالقوانين الدولية التي وضعها المستعمرون الشرقيون والغربيون، تعترف بهم، لأن في الاعتراف مزيداً من نهب خيرات الشعوب وتحطيمهم، وهذا ما يريده الاستعمار طبعاً، بل الانقلابات التي شاهدناها منذ ثلث قرن كلها كانت بمخطط استعماري شرقي أو غربي.

منطق الانقلابيين!!

وما يبرر الانقلابيون عملهم به، من استشراء الفساد في الحكومة السابقة وكبت الحريات و… غير مبرّر لعملهم، إذ لو كانوا صادقين، لأعطوا الأمر بعد انقلابهم بيد الأمة لتشكل حكومة حرة انتخابية، ورجعوا هم إلى ثكناتهم أما أن يسرق لص عن لص، ويبرر عمله بأن المسروق منه، كان لصاً، فذلك لا يدخل إلا في منطق القوة، بينما يجب أن يكون الأمر حسب قوة المنطق.

وهناك تبرير آخر للانقلابيين، لعدم إعطائهم السلطة بيد الأمة، بأن الأمة ليست رشيدة تتمكن من إدارة أمورها، فإذا سلمنا الحكم إليهم، استغله الاستغلاليون الاستعماريون.

وفيه: هل أن كل الأمة غير رشيدة، وأفراد انقلابيون ـ ليست لهم معلومات كافية ـ رشيدون؟ ثم من جعل الانقلابيين أوصياء على الأمة إلا السلاح، وهل السلاح من الأدلة؟ ولو كان كذلك لكان لكل لص وقاطع طريق دليل.

فقدان الوعي هو المشكلة  

والمشكلة في الانقلابات العسكرية، لا تنشأ من المغامرين ومن وراءهم من المستعمرين، وإلا فكل مغامر يريد السلطة، وكل مستعمر يريد سلب الشعوب واستعمارهم، وإنما المشكلة تنشأ من ضعف وعي الأمة، فلماذا ترضخ الأمة للانقلابيين بمجرد الثورة؟ وإلا يتساءل العالم الثالث نفسه: لماذا لا يكون انقلاب في أمريكا وفرنسا وإنكلترا؟ ولماذا لا يكون انقلاب في إسرائيل والهند؟ هل لأن تلك البلاد لا تعاني من المشاكل؟ أو لأن شعوبها تعي عدم صحة الانقلاب، حتى إذا قفز جماعة من المغامرين على الحكم، لم تعترف بهم أمتهم، وإنما تحركت القوى العسكرية لإلقاء القبض عليهم وسوقهم إلى المحاكم؟

وعلى هذا، فاللازم توعية الأمة، حتى تعرف أن كل انقلاب عسكري وقع كان باطلاً، وأن اللازم التخلص من الانقلابيين، كما يلزم أن يستعدوا لمعاملة الانقلابيين في المستقبل معاملة المجرمين، لا معاملة الأبطال المحررين.

ومثل حال الانقلابيين حال الذين يأتون إلى الحكم بإرادة الأمة، لكن ضعف الوعي في الأمة يوجب أن يتلاعبوا بمقدراتها فيزيفون الانتخابات، ويستخلفون، ويهيئون الأجواء المكذوبة بواسطة الإعلام والرتل الخامس والرشوة وما أشبه، لتنفيذ مآربهم من وراء ظهر الأمة، كما رأيناه في العراق فقد جاء فيصل إلى الحكم باختيار مجموعة من الشعب، بعد ثورة العشرين للإمام الشيرازي، ثم قلب ظهر المجن للأمة، فتلاعب بما شاءت أهواؤه، والقصة معروفة لا تحتاج إلى البيان.

وعليه فوعي الأمة يوجب:

1 ـ عدم نجاح الانقلاب العسكري.

2 ـ عدم تمكن الحكومة التي جاءت باختيار الأكثرية من التلاعب، بل الميزان وجود الأحزاب الحرة، والانتخابات الحرة، كل اربع سنوات مثلاً، وإلا فالحكومة ديكتاتورية، وإن تقنعت بالاستشارية، وسمت نفسها حكومة شعبية.

بحوث في الثورات الاجتماعية  

(الثاني): الانقلابات الاجتماعية، وهي التي تقوم بها أكثرية الناس، لإيجاد نظام جديد في الحكم، وتقوم هذه الانقلابات على أسس ثلاثة:

1 ـ عدم الرضا بالحكم القائم .

2 ـ اليأس عن إصلاح الحكم القائم بسلام.

3 ـ الرجاء في تكوين نظام جديد يعطي آمال الناس، ويخفف من آلامهم.

وضع الأسس السليمة للثورة

وهذه الثورة إن جعلت لها أسس صحيحة تنتهي إلى الحكم الاستشاري، كما حدث في حركة فرنسا والهند وغيرهما ـ فإنها وإن لم تكن مطابقة للنظر الإسلامي إلا أنها صحيحة في نظر أكثرية الشعوب القاطنة في تلك البلاد ـ وإن لم تجعل لها أسس صحيحة تنتهي إلى الديكتاتورية، كما حدث في الحكم العباسي سابقاً، وحكم الروس والصين وما أشبه في الزمان الحاضر، وتكون النتيجة حينئذ، إما تبديل ديكتاتور بمثله، أو بأسوء منه.

وعلى هذا، فاللازم على الثائرين أن يضعوا نصب أعينهم أمرين:

1 ـ هدم الحكم الجائر.

2 ـ كيفية الحكومة المستقبلية مع تهيئة أسباب تلك الحكومة، وأهم تلك الأسباب:

أ ـ توضيح معالم الحكومة في السلطات التقنينية [أي التطبيقية في الإسلام] والتنفيذية والقضائية.

ب ـ توزيع القدرة في الفئات والمنظمات والأحزاب حتى لا تتمكن جماعة من استغلال الحكم وضرب الآخرين.

كما حدث في الثورة الشيوعية، حيث أن الشعب قام ضد قيصر لإيجاد حكم ديمقراطي بديل، وتشكلت أحزاب، كان من أهمها [المنشفيك، والبلشفيك] ولكن لما لم يكن التوازن بين القدرات، قفز الشيوعيون على الحكم بقيادة الديكتاتور [لينين] وبالاستعانة بالخارج [أي ألمانيا] وأبادوا كل الأحزاب الأخرى، والتي كان من جملتها المنشفيك.

وهكذا حدث في ثورة الدستور في إيران، فقد قام الشعب بقيادة العلماء لرفع ظلم الحكام، وتبديل النظام إلى حكم إسلامي استشاري لكن لما لم تكن القدرة موزعة، فإذا ببهلوي مع قلة مسلحة يقفزون على الحكم بمعاونة بريطانيا ويذيقون الأمة الأمرين… وهكذا حدث في تركيا عند قفز أتاتورك إلى الحكم بمعاونة بريطانيا أيضاً، فإن العثمانيين أساءوا في السلطة، مما اضطر الأمة إلى الانتفاضة ضدهم، ولكنهم لم يلاحظوا توزيع القدرة، وإذا بالأمر يقوده ثلاثة من اليهود، وجماعة من المسيحيين، ومن ورائهم الاستعمار حتى جاءوا بأتاتورك، وحدث ما حدث.

بداية الثورة  

ثم إن الثورة الاجتماعية، في بدء أمرها تنكون بدون لون خاص، ولا أسلوب منظم ثم تدريجياً يتبلور الأمر، والغالب أن الثورات الاجتماعية لتبديل الحكم يقودها مخلصون مجهولون، يؤلمهم الحكم القائم، فينذرون أنفسهم لإنقاذ الأمة، ويضحون بكل شيء في سبيل ذلك، كما أن الغالب أنهم يقودون الثورة بشجاعة فائقة، ولا مبالاة كبيرة، مع أنهم لا يقدرون وقت النجاح، وهل أنهم يدركون الثمر أم لا؟ ولذا يموت كثيرون منهم في السجون والمنافي، أو بالرصاص على المشانق، أو في عمليات فدائية.

كما أن القائد العام وأعوانه، يتبلورون في الأحداث، وبقدر عملهم، فليست القيادة في الحكومات الشعبية ـ بالتلفظ بالشعب الخالي من معنى، وإلا كل يدعي أن حكومته شعبية ـ بالاسم والمنصب والدعاية، بل هي حقيقة ترتفع الثورة إليها، كما ترتفع الشجرة إلى أن تعطي الثمرة.

والغالب تبعثر الثائرين في ابتداء الأمر، ففي كل بلد وما أشبه جذر للثورة ثم تتلاقى الجذور، كما تتلاقى قطرات المطر، لتكون النهر الكبير وحينذاك يكون للثورة مجرى، وجري، ومصب، وحينذاك تأخذ الثورة في النضج والارتفاع إلى أن تطيح بالحكم المنحرف.

مراحل الثورة  

وللثورة الاجتماعية مراحل خمس:

1 ـ الاضطراب والهيجان.

2 ـ تصاعد الروح الثورية الاجتماعية.

3 ـ اتساع رقعة الثورة وتقوي بعضهم ببعض.

4 ـ تبلور الفكرة الواحدة هدفاً وطريقاً.

5 ـ وأخيراً توسعة الطرق المؤثرة في إنجاز الثورة.

1 ـ ففي حالة الاضطراب والهيجان، من جراء سوء تصرفات الدولة، يعمل كل عملاً ملائماً بنظره من الشكاية ونشر بعض المناشير السرية، بعض التعريضات فوق المنابر، وكتابة بعض الشعارات على الحيطان وما أشبه، والدولة تقابل بعضهم بشيء خفيف من العنف، إلا إذا عنف الشخص، فالدولة تقابله بعنف مثله أو اشد ليكون رادعاً، وتظن الدولة أنه حاسم.

2 ـ وحيث يتماسك بعض المنتقدين ببعض، وحيث يوجب فعل الدولة رد الفعل عند الناس تأخذ روح الثورة في الإنقاذ، ويأخذ اليأس يعم القلوب فيرون أنه لا إصلاح للوضع بما يلزم أن يعملوا شيئاً للإنقاذ، فالدولة راكبة رأسها لا تلوي على شكاية، وتقتنع بالوعود الفارغة وبالتهديدات بدل الإصلاح.

3 ـ وبذلك تتسع رقعة الثورة، وتستشري فكرة لزوم أن يعمل الشعب شيئاً، وليس ذلك الشيء بإصلاح جهة أو تبديل وزير، أو إنصاف مظلوم، لأن الأمر أوسع من هذا، والدولة تأخذ في غرور أكثر، وصلف أكبر، فترى أنها سيدة الموقف، وأن الذي يعملون ضدها شرذمة قليلون إذا شاءت الدولة تخترقهم وتكتسحهم بعصى غليظة، وبذلك يقف الطرفان في صفين متقابلين.

4- وعند ذلك تتبلور الفكرة الثورية وتصمم الأمة على الإطاحة بالدولة مهما كلفها ذلك من الثمن وتأخذ القيادات الصغيرة في الظهور والبلورة ، مما تستجلب انتباه الناس  ويرون فيهم بدائل صالحة عن قيادة الدولة

5ـ ثم يأتي دور المؤسسة الثورية، فتتوسع الطرق المؤدية إلى إنجاز الثورة وتقع الفوضى في البلاد، وتصطف مؤسسات الدولة والثورة إحداهما أمام الأخرى، وتسترخي قبضة الدولة، وتأخذ قبضة الثوار تشتد وتشتد… وتحاول الدولة أن تجعل الحلول الوسطى، لكن الثوار يأبون، وتتفادى الدولة سقوطها ببعض الحلول، مثل تغيير بعض الموظفين، وإلغاء بعض الضرائب، وإطلاق سراح بعض السجناء، وإشراك بعض الثوار في الحكم.

لكن الأوان قد فات، ولسان الثوار [الآن وقد عصيت من قبل، وكنت من المفسدين] وفي مثل هذه الحالة يستولي الثوار على مؤسسة مؤسسة من مؤسسات الدولة… ولا يمنعهم عن القيام بأعمالهم بعض العنف الذي تريه الدولة، مثل جعل الحكومة العسكرية وقانون منع التجول، وضرب المتظاهرين بالرصاص، ونهب دكاكين المضربين وما أشبه ذلك.

ويلجأ أقطاب الدولة إلى الفرار والاختفاء، ويقع بعضهم في قبضة الثوار فقد يتعاملون معهم بقسوة، وقد يتعاملون معهم بلين وذلك يتبع أمرين:

1 ـ عنف معاملة الدولة مع الثائرين، فإن العنف لا يولد إلا العنف.

2 ـ أخلاقيات الثورة، فقد يربّى الثائرون على رفيع الصفات، ومن ناحية أخرى يريدون جعل أنفسهم أسوة مما يضطرهم إلى التنازل عن حقهم المشروع.

ولذا نجد شدة انتقام الثورة البلشفيكية من قيصر وأتباعه، بينما كانت شدة الانتقام في الثورة الفرنسية أقل، أما الثورة الإسلامية فقد كانت مظهراً من مظاهر الله الرحمن الرحيم، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله لأشد الخصوم بعد أن وقعوا في كف عدالته: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)(1) وكذلك عفى علي عليه السلام ـ وهو تلميذ الرسول صلى الله عليه وآله ـ عن أقطاب التمرد في الجمل، بل وأحسن مثوى عائشة وغيرها، وعن أقطاب المفسدين في النهروان، وكان إذا ألقى القبض على محاربي صفين، أطلقه بشرط أن لا يعين الأعداء بعد ذلك.

وبهذا الصدد قال الشاعر

(ملكنا فكان العفو منا سجية           ولما ملكتم سال بالدم أبطح)

(وحللتم قتل الأسارى وطالما          ظللنا عن الأسرى نعف ونصفح)

(فحسبكم هذا التفاوت بيننا            وكل إناء بالذي فيه ينضح)

وقد قال علي عليه السلام: (إذا ملكت فاسجح)(2).

وقال عليه السلام: (العفو زكاة الظفر)(3).

وقبل ذلك قال القرآن الحكيم: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به * ولئن صبرتم لهو خير للصابرين)(4).

عناصر هامة… في نجاح الثورة  

ثم المهم في نجاح الثورة:

1 ـ توسعة التنظيم، فإن النظم يوجب صرف كل الطاقات في أحسن المصرف، إذ قد لا يصرف بعض الطاقات، وقد يصرف لكن لا في الأحسن، فمن يمكن أن يكون عالماً كبيراًن قد يعطل عن العلم والعمل، وقد يجعل من نفسه عاملاً عادياً.

2 ـ الوعي الجماهيري وجماهيرية الحركة، بأن يبين الثوار للناس، كيف حال الأمة الآن؟ وكيف حال الدولة؟ وكيف يجب أن تكون الدولة الصحيحة؟ وكيف يجب أن نعمل حتى نصل؟ إلى غير ذلك.

3 ـ أخلاقيات الثائرين، كيف يعامل بعضهم بعضاً؟ وكيف يعاملون الناس؟ فإن المداراة، والعفو، والمعاملة بالتي هي أحسن، والنشاط، والتعاون، والمشورة، والاستقامة، والخدمة، والإصلاح بين الثوار، والناس، وبين الناس، وما أشبه، أخلاقيات توجب التفاف الناس حول الثورة، وتسبب اطمينان الناس بقادتها مما يقرب الثورة إلى النجاح.

ثم في المقام أمور ثلاثة بشأن الحركات الثورية الجماهيرية لابد من الإلماع إليها.

الثورة… تستغرق زمناً طويلاً  

أ ـ الحركة الثورية الجذرية في الدنيا الحاضرة، لابد لها من أمرين:

1 ـ الزمن الطويل، حيث أن الثورة ليست كانقلاب عسكري سطحي، يتحقق بين عشية وضحاها، فإن الثورة الجماهيرية تحتاج إلى الجماهير، والجماهير لا يتحركون، إلا بعد الوعي الثوري، والوعي المستوعب لابد له من ربع قرن على أقل تقدير مع ملاحظة الشروط السابقة من الأخلاقيات ونحوها، ولذا نشاهد في التاريخ أن كلا من ثورة الهند ضد بريطانيان والصين ضد الأجانب، وروسيا ضد القيصرية احتاجت إلى زهاء نصف قرن.

وذلك لأن اللازم تبدل الثقافة السابقة إلى ثقافة جديدة ثورية، وتبدل الثقافة ليس بالشيء الهيّن.

لابد للثورة من تكوين الجذور

2 ـ الجذور، فإن العالم صار شبه وحدتين، وحدة غربية بما في فلكها، ووحدة شرقية بما في فلكها، ولكل منهما جذور في بلاد الثورة، مدعومة بالمال والرجال والإعلام من الإذاعات الخارجية وغيرها، مما يوجب صعوبة تهيئة الناس للثورة على أوضاعهم الفاسدة، فاللازم على القائمين بالثورة، أن يمدّوا جذور الثورة إلى آفاق بعيدة حتى تتمكن الثورة من المقاومة والنهوض.

ولعدم وجود الجذور للثورة الفلسطينية ضد إسرائيل الغاصبة، ترى كيف أن إسرائيل تتوسع بصورة مستمرة، والثورة الفلسطينية تتضاءل؟ إن إسرائيل مدت جذورها التنظيمية، والثقافية، والمالية إلى كثير من بلاد العالم، ولذا حفظت نفسها وأخذت تنمو، بينما الثورة الفلسطينية بالعكس قطعت [وبضربة واحدة] أكبر جذورها، وهو الإسلام، فقطعت صلتها بالمسلمين، حيث صبغت نفسها بالعربية فقط، إلى غير ذلك مما لسنا الآن بصدد تفصيله.

وليس فهم كيفية الجذور وتكوينها شيئاً هيناً، وما أكثر إرادة الثورة في العالم، كما ما أقل الثورة، وذلك إما لعدم وجود الجذور، وإما لعدم تأهل الاجتماع للثورة، فإن الثورة الحقيقية لا تقع إلا إذا تأهل الاجتماع لذلك، والتأهل يقوم على أمرين أساسيين هما:

1 ـ النقص في ماديات الإنسان، أي مأكله ومشربه ودوائه وسكناه وما أشبه، فإن ذلك يبعث على الثورة.

2 ـ النقص في معنويات الإنسان، أي آرائه وأفكاره، فإن الإنسان لا يريد الماديات فحسب، بل يريد أن يؤخذ برأيه أيضاً.

ولذا تشتبه الحكومات الديكتاتورية، حيث تهتم لماديات الناس وكأنها فعلت كل شيء، بل اللازم أن يكون الاهتمام السياسي بقدر الاهتمام الاقتصادي فإن الكرامة الإنسانية تبعث على احترام آرائه، فإذا رأى أن أراءه لا تحترم ثار من أجل ذلك.

ضرورة توزيع القدرة بين القوى  

ب ـ الثوار الذين يصلون إلى الحكم، يزعم كل فريق منهم أنه يقدر على الاستبداد بالحكم فإن كانت القدرة موزعة بين الثائرين، كان بينهم التراشق بالكلمات والتهم، وإذا رجحت كفة القدرة في بعض الأطراف يأخذه الغرور فيستبد بالحكم ويزعم لنفسه أنه الثائر الحقيقي، وأن من عداه لم يكن لهم نصيب في الثورة وأنهم  لا يستحقون شيئاً.

وهذا الزعم الإفراطي، والعمل المساند له يعطي رد الفعل المعاكس حيث يزعم الذين ينحون عن الحكم، أن الثورة ثورتهم، وأن المستبد لم يكن له نصيب، وأنه سارق الثورة، وأنه يجب أن ينحى بالقوة، ليقودوا هم الثورة، وهنا يحدث أحد ثلاثة أشياء:

1 ـ الثورة المضادة.

أسباب

2 ـ الحرب الأهلية.

3 ـ منظمات الاغتيال لأجهزة الحكم.

1 ـ فالثورة المضادة هي ثورة الذين نحوا عن الحكم، وإنما يثورون لأن لهم جماعة كجماعة الباقي في الحكم، وهم ثوريون أيضاً، ولا فرق بين الحاكم وهم، إلا أن بيد الحاكم القوة والدعاية، وما أسهل ما يحصل عليه المنحون، وقد حدث هذا في زمان قاسم، حيث نحى زملائه كسلام، ولم تمض سنوات إلا وقام المنحون بالثورة المضادة، فأزالوا حكمه وقتلوه.

ولا يخفى أن الثورة المضادة بهذا المعنى غير الثورة المضادة بمعنى قيام أنصار الحكم البائد بالثورة ضد الثوار الجدد، فإن لهم أيضاً قياماً، سواءاً كانت الثورة شعبية جماهيرية، أو انقلابية عسكرية، وإن كان قيام العهد البائد بالثورة الجماهيرية أصعب ولا يحالفه النجاح غالباً، لأن العهد البائد لا شعبية له حتى ينتظر تصفيق الناس لثورته، والثورة إذا لم تكن جماهيرية، ولم يكن لها مصفقون [في العسكرية] لا تجد مناخاً ملائماً للظهور.

2 ـ والحرب الأهلية حيث يكون أنصار الطرفين الثورة والثورة المضادة بقدر يتمكن كل منهما من المقاومة وحرب الشارع، خصوصاً إذا وجدت الثورة المضادة محلاً جغرافياً ملائماً، مثل الجبال والغابات، وقد حدث هذا في زمان قاسم في العراق بسبب الأكراد، وفي اليمن، مما سبب القلاقل إلى الآن ـ بعد ربع قرن ـ في شمال العراق وقسم اليمن إلى شطرين.

وبالمناسبة فلا يختفي دور الغرب والشرق في أمثال هذه القلاقل والانقسامات لقاعدة: [فرق تسد] ولأنه كلما كانت المشاكل في بلاد العالم الثالث أكثر، كان سادة لندن وباريس ونيويورك والكرملين في راحة أكثر، ولذا نجد كل طرف من هؤلاء الاستعماريين يتفق سراً مع طرف من الأطراف المتنازعة في كل من [1 و 2 و 3].

3 ـ وإذا لم يتمكن المنحون من الأولين، شكلوا عصابات الاغتيال لأجل ضعضعة الحكم، وسلب ثقة الناس من الحكام الجدد، حيث أن الحكم الذي لا يتمكن من حفظ الناس ليس جديراً بالبقاء، وقد تخصص عصابات الاغتيال أمرها بالنسبة إلى أركان الحكم، وقد تعممه إلى كل أحد، لسلب الثقة، والغالب أن تسلك الطريق الثاني إذا لم ينفع الطريق الأول في وصولها إلى هدفها.

والحاصل: أنه كلما حصلت الديكتاتورية، كان معناه عدم تحكيم الكلمة وكلما لم تحكم الكلمة كان الحكم السيف… وذلك بخلاف الاستشارية، فإن المحكم فيها الكلمة، والحوار المفتوح يمنع من تزايد الكره، كماً وكيفاً، فالذين يكرهون الحكم لا يجدون الأنصار حتى يزداد عددهم، كما أن الذين يكرهون الحكم لا يزدادون كرهاً، بل يبقى كرههم عند الحد القليل فلا يتطور كيف الكره إلى الغليان وإلى أحد الأمور الثلاثة الآنفة الذكر.

ولذا فالواجب على الحكم الجديد أن يعطي الحريات ويجمع شمل الناس:

1 ـ بتكوين الأحزاب الحرة.

2 ـ وجعل وزارة الشباب حتى لا يلتف الشباب حول الناقمين، فإن الشباب لكثرة حاجاتهم، وسرعة انفعالهم يلتفون حول كل ناقم، فإذا كانت وزارة لهم التفوا حولها، وبذلك يسحب البساط من تحت الناقمين.

3 ـ الاهتمام بإرضاء الطبقة المتوسطة، لأنهم هم الذين ينشرون النقمة، فيلتقط النقمة الشباب ومن إليهم، ويخلقون المشكلة للحكومة الجديدة، وتواضع الحكومة أمام الأحزاب والشباب والطبقة المتوسطة، خير من تحطم سمعتها وإشرافها على السقوط، بل كثيراً ما تسقط، كما لا يعز مثاله في السابق وفي العصر الحاضر.

الجذور بعد تكون الدولة  

ثم اللازم في الحكومة الجديدة الجماهيرية (إذ ليس الكلام في الانقلابات العسكرية) ملاحظة ثلاثة أمور:

1 ـ الجذور، فالجذور ليست ضرورية لأجل إسقاط الحكم السابق فقط، بل ضرورية لأجل بقاء الحكم الجديد ، والجذور عبارة عن الارتباطات لا في داخل البلاد فحسب، بل في خارجها أيضاً، بمساندة الشخصيات والإذاعات وسائر الإعلام والمراكز للحكم الجديد، فإن الحكم كالشجرة كلما كانت جذورها أكثر، كان احتمال سقوطها في العواصف أقل…

أما المساندة من الأشخاص في الداخل، فذلك أمر حيوي للحكومة، فاللازم تقليل عدد الناقمين مهما أمكن، وتقليل نقمة الناقم مهما أمكن أيضاً.

يجب أن تكون الحكومة عصرية  

2 ـ وأن تكون الحكومة عصرية، فكما أن العصر لا يمكن فيه استعمال المراوح الخوصية، والدواب للسفر، والشموع الزيتية وهكذا، كذلك لا يمكن للشعوب في العصر الحاضر الاعتماد على حكومات من الطراز القديم، فإن أصر الحاكم على ذلك الطراز أسقطه الشعب بعدم الانتخاب في الاستشارية وبالقوة في الاستبدادية.

والمراد بالعصرية:

أ ـ تهيئة وسائل العصر البشرية: كالأطباء والمهندسين والعلماء وأصحاب الخبرات والعقول المخططة والمفكرة والفنيين وما إليهم، فإن كل عالم وخبير ركن من أركان الدولة، وبقلة هؤلاء في دولة تضعف الدولة وتصير مجبورة على استيراد الخبراء من الخارج، وذلك نقص في سيادة الدولة مع أنه محل إثارة الناس ضد الدولة، ومنفذ الاستعمار إلى البلاد.

ب ـ والمادية من المعامل والصنائع والتراكتورات والأجهزة وما إلى ذلك.

ج ـ والأنظمة، فإن للنظام الحديث الذي وصلت إليه أحدث الأفكار البشرية أهمية كبيرة في استقرار الدولة وتقدمها.

ولا يمكن ذلك إلا إذا أسندت القيادات ـ كالوزارات وما أشبه ـ إلى كفاءات من غير نظر إلى الولاء، فإن الإدارة تسيرها ـ السير الحسن ـ الكفاءة لا الولاء والقيادة الكفؤة هي التي تجمع شروطاً مثل:

1 ـ الإيمان.

2 ـ والأخلاق.

3 ـ والشعور المرهف بالمسؤولية.

4 ـ والاستمرار في العمل.

5 ـ والذكاء.

6 ـ والقدرة على اتخاذ القرارات.

7 ـ والحماس.

8 ـ وجذابية القيادة لتتمكن من التأثير في المرؤوسين.

9 ـ والحزم.

10 ـ والخبرة الكافية.

وهذه الشروط وإن كانت صعبة الاجتماع، إلا أن الحكومة إذا كانت جماهيرية بأن التف الناس حولها، تمكنت من أن تجد مثل هذه القيادات، بعدد لا بأس به، فإن الحكومة إنما ينفض الناس من حولها إذا اتصفت بالكبر والأنانية والغرور والاستبداد، وإلا التف الناس حولها، ووجدت القيادات الكفؤة لتضع الإنسان المناسب في المكان المناسب.

وحتى الولاء ليس بمهم في الحكومات الشعبية، ولذا قال السياسيون بأن الحكومات الحزبية عند وصولها إلى الحكم، يلزم عليها ملاحظة الكفؤ في إسناد المناصب، ولو كان من الحزب الآخر، لا ملاحظة أن يكون المسند إليه من الحزب الحاكم، وإن لم يكن بكفاية زميله في الحزب الآخر.

إسلامية الدولة… وتفوقها على النظم الأخرى  

3 ـ وأن تكون الحكومة ذات مستوى مساو للحكومات الديمقراطية، بل الأمر في الحكومات الدينية أصعب، حيث يلزم عليها أمران:

أ ـ إثبات أن الحكومة الدينية أفضل من الحكومة الدنيوية.

ب ـ أن تكون امتداداً لحكومة الرسول صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام إذ الناس ينظرون إلى الحكومة الدينية بذلك المنظار [هذا مع الغض عن أن معنى الحكومة الدينية هو أن تكون امتداداً لهما عليهما السلام].

من سمات الحكومة الإسلامية  

وكيفية حكومة الرسول صلى الله عليه وآله، وعلي عليه السلام، موجود في ألوف الكتب ماثلة في أذهان الناس، تتلى في الإذاعات وتصور في التلفزيونات، وتكتب في الصحف، وحتى أطفال المدارس يقرأون كيفيتها في كتبهم الابتدائية.

1 ـ فقد كانت الحريات متوفرة للعقيدة [لا إكراه في الدين](5) وللرأي، ولذا قال بعض الصحابة في الحديبية وغيرها ما قال، ولم يعاقبه الرسول صلى الله عليه وآله وكذلك توفرت الحرية في الزراعة، والصناعة، والتجارة، والسفر، والإقامة والعمارة، وحيازة المباحات، والزواج حتى بأربع وغيرها وغيرها.

2 ـ والضرائب كانت خمساً وزكاتاً، وجزية وخراجاً، فقط.

3 ـ وحصلت كل عائلة في زمان علي عليه السلام ـ وهو يحكم على خمسين دولة في الجغرافيا الحديثة، وله أكبر دولة في عالم ذلك اليوم ـ على دار ورزق.

4 ـ ولم يكن حتى فقير واحد فـــي بلد، ولذا تــعجــب عليه السلام، من النصراني المتكفف وقال: (أنفقوا عليه من بيت المال راتباً)(6).

5 ـ وكانت تقسم الضرائب في نفس البلد، فإن زاد شيء أرسل إلى بيت المال كما أمر الرسول صلى الله عليه وآله بذلك(7).

6 ـ ومن مات وله مال فماله لوارثه(8)، ومن مات وعليه دين فدينه على بيت المال(9) كما قاله الرسول صلى الله عليه وآله.

7 ـ والناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم(10).

8 ـ وكل المسلمين أخوة لا فرق بين قديم الإسلام وجديده، وبين العربي والفارسي والرومي والحبشي وغيرهم، فلا تمايز إطلاقاً إلا بالتقوى ولا امتيازات.

9 ـ ولا حدود لبلاد الإسلام ولا جنسية وإقامة وورقة مهنة وغيرها وغيرها من الحدود والقيود.

10 ـ ولا كمارك.

11 ـ والنبي والإمام في متناول الجميع، فلا حجاب، ولا أبواب، ولا قصور.

12 ـ وكيفية أخذ الضريبة إنسانية إلى أبعد حد، كما كان يأمر علي عليه السلام عامله إذا أرسله لجمع الصدقات.

13 ـ والأقليات محترمة إلى أبعد حد حتى أن الله يدافع عنهم (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً)(11) وإنما المجال للحوار فقط، وذلك جدالاً بالتي هي أحسن.

14 ـ وإذا تآمروا على قتل الإمام وقتله أحدهم قال: (لا يقتلن بي غير قاتلي)(12).

15 ـ ولم يسجن الرسول إلا نادراً جداً، وكان سجن الإمام ـ وفي الكوفة أربعة ملايين ـ سجناً صغيراً ولم يسجن إلا أفراداً معدودين.

16 ـ والعفو عن المجرم سيرتهما عليهما السلام، كما في فتح مكة، وحروب البصرة وصفين والنهروان، وحتى أن الرسول صلى الله عليه وآله عفى عن قاتل عمه حمزة، وبنته زينب وعمن أراد قتله في عقبة.

17 ـ ويتقاضى الرسول صلى الله عليه وآله وهو رئيس الدولة مع أعرابي إلى أحد أصحابه، ويتقاضى علي عليه السلام وهو رئيس أكبر دولة مع يهودي إلى قاضيه.

18 ـ والحكم بسيط إلى أبعد حد فأسيد يحكم مكة، وسلمان يحكم المدائن وهكذا، فالحكم في نظر الإسلام ضرورة، والضرورات تقدر بقدرها.

19 ـ ويعزل القاضي إذا علا صوته صوت الخصمين، كما عزل علي عليه السلام أبا الأسود لذلك(13).

20 ـ كما يعزل الوالي إذا اشتكت عليه ولو امرأة، كما عزل علي عليه السلام واليه لذلك(14).

21 ـ ويعيش الحاكم الأعلى كعيش أحد الأفراد، بل أنزل، فكان الرسول صلى الله عليه وآله يشد حجر المجاعة، ويطعم الناس الأحمرين، وهو يطعم الأسودين، وعلي عليه السلام لا يترك خادمته تخلط خبزه بالدهن، ويأكل اللحم كل سنة مرة في الأضحى لأنه يعلم أن المسلمين يأكلون في ذلك اليوم اللحم(15).

22 ـ وإذا أخطأ المنفذ تحمل الرسول صلى الله عليه وآله دية من قتلوا حتى يعطي دية خوف النساء وضجة الأطفال، وضرب علي عليه السلام قنبراً سوطاً لأنه زاد في الضرب سوطاً(16).

23 ـ ويستعد الرسول صلى الله عليه وآله لضرب سوادة إياه، لأنه ادعى أن الرسول صلى الله عليه وآله ضربه بعصاه ـ والرسول صلى الله عليه وآله مريض مشرف على الرحيل(17) ـ قائلاً صلى الله عليه وآله: إنه لا يتحمل القصاص في الآخرة(18).

24 ـ وليست الدولة دولة شعارات وكلام، وإنما دولة أعمال وحقائق.

25 ـ والمظاهرات ضد الإمام عليه السلام لا تقابل بالشدة.

26 ـ وحتى المنافق الذي يسب الإمام يقابل بالعفو(19)، كما فعله ابن كوا والأشعث وغيرهما.

27 ـ ويقتنع في ردع أشد الأعداء المنافقين ـ الذين هم العدو وفي الدرك الأسفل ـ بالكلام فقط، أما المعاملة فإنها إنسانية إلى أبعد حد، ولذا صلى الرسول صلى الله عليه وآله على ابن أبي، والحال أنه هو الذي أنزلت فيه سورة المنافقين(20).

28 ـ وحتى قاذف زوجة الرسول صلى الله عليه وآله لا ينال من الرسول صلى الله عليه وآله إلا التهديد لا العقاب.

29 ـ ويعطي الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الخوارج أعطياتهم من بيت المال.

30 ـ وفي منطق الإمام: (الناس إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق)(21).

31 ـ ويشمل العطاء الأعداء، كما أعطى الرسول صلى الله عليه وآله كفار مكة من غنائم خيبر ـ كما في التاريخ ـ وكذلك أعطى علي عليه السلام الماء لأهل صفين وسار على ذلك الحسين عليه السلام في إعطاء الماء لمن جاؤوا لقتله.

32 ـ كما يوصي بالأعداء، كما أوصى علي عليه السلام بالخوارج فقال: (لا تقتلوا الخوارج من بعدي) (22).

33 ـ ولا استبداد، بل استشارة في الأمور (شاورهم)(23) و (أمرهم شورى)(24).

34 ـ ويحمل الإمام قربة الماء للعجوز، ويسجر لها التنور ويلعب أطفالها(25).

35 ـ والاختيار في تعيين الحاكم بيد الأمة، كما في آية الشورى، وقاله علي عليه السلام والرضا عليه السلام ـ بالنسبة إلى غير من عينه الله، فلا حكومة وراثية، ولا انقلابات عسكرية، ولا انتصابات حكومية… إلى غيرها وغيرها، مما يجدها الباحث في الروايات والتفاسير والتواريخ.

ملامح النظام الديكتاتوري  

بقي شيء، وهو أن الفارق بين الديكتاتورية والاستشارية واضح لكل من له أقل إلمام بالأمر، ويعرف الديكتاتور من كل مواقفه ـ وإن كانت بعض مواقفه تظهر استبداده أكثر ـ مثل:

1 ـ إن الديكتاتور يمدح نفسه وذويه بإسهاب تعريضاً وتصريحاً وتلويحاً بينما يتوقف عن مدح من سواه، وإن كان ذلك الغير أجل منه قدراً، وأحسن منه كفاءة، وقد كان عبد الكريم قاسم يقول عن ثورته: إنها ما لم يتفق مثلها منذ خمسة آلاف سنة في العراق.

2 ـ الديكتاتور يخفي على أعماله السرية، حيث يريد أن لا تنكشف عوراته لكن بالعكس من إرادته تظهر سوآته للناس، وقد قال الشاعر:

ومهما تكن عند امرء من خليقة

وإن خالها تخفى على الناس تعلم

3 ـ والديكتاتور يتآمر على أعدائه ويمكر بهم لإلقائهم في التهلكة ويلصق بهم التهم والأكاذيب، لكن سرعان ما يظهر تآمره وتنكشف عوراته، وقد ورد في الحديث الشريف: (ومن كشف عورات الناس انكشفت عورات بيته)(26). وسئل عليه السلام عن الحيلة؟ فقال: (في ترك الحيلة).

4 ـ ومن عادة الديكتاتور الكذب والرياء والنفاق والخدعة، وحيث أنه يعتاد تلك يظن أن الناس كذلك؟ ولذا يرميهم بها غافلاً عن أن لسان الإنسان مرآة قلبه، وقد قال المسيح عليه السلام: (كل ينفق مما عنده).

5 ـ عدم اشتراك الناس في أمور الدولة، وإنما يستبد بها هو وجماعته والمتزلفون حوله.

6 ـ عدم وجود الصحف الحرة.

7 ـ كثرة الضرائب، لتكفي نفقات مخططاته الوهمية، وقد يكون الديكتاتور سارقاً كبيراً يجمع المال لنفسه ولذويه.

8 ـ خنق الحريات حتى الرأي والكلام.

9 ـ شدة العقاب، كأن الديكتاتور يرى نفسه فوق الجميع، ولذا يعاقب بشدة وقسوة كل من خالف أمره، أو لم يطع رأيه.

10 ـ عدم كشفه عن المال كيف يصرف؟ لأنه يريد أن يصرفه لنفسه وذويه أو أهوائه، مما إذا اطلع الناس عليه منعوه عن ذلك، وحتى إذا أظهر شيئاً أظهره مجملاً مبهماً، لتكون هناك فجوة يتمكن بسببها من استلاب المال لصرفه حسب هواه.

11 ـ عدم الانتخابات إطلاقا، أو انتخابات مزيفة حسب ما يمهد الجو لمرشحه، حيث ليس هناك أحزاب حرة وصحف حرة، لتكشف زيف الانتخابات.

12 ـ كون محاكم القضاء ألعوبة بيده، ينصب من يشاء ويعزل من يشاء، ويخفف كما يريد ويشدد كما يرغب.

13 ـ إظهار المؤامرات المزيفة لتصفية من يشاء من خصومه، جسدياً أو اجتماعياً بإلصاق التهم بهم لإسقاطهم من أعين الناس.

14 ـ مصادرة أموال الناس كيف يشار، كما رأينا كيف صادر ناصر أموال التجار باسم الاشتراكية.

15 ـ العدوان على الجيران بألف اسم واسم، كما فعله ناصر وقاسم والبعث ومن إليهم.

16 ـ يرفع كل مرتبط به إلى ما يشاء من القمم ولو كانوا بدون كفاية. ويخفض كل من ليس بمرتبط به إلى ما يشاء، ولو كان له الكفاية.

17 ـ تحكيم الانتسابات على الكفاءات في موظفيه، فالمعيار في الوظيفة الولاء لا غير ذلك.

18 ـ يختفي هو وراء أعماله، فإن ظهر عند الاجتماع حسناً أظهر أنه لنفسه، وإن ظهر عند الاجتماع سيئاً جعل تبعة ذلك على غيره، وأظهر نفسه بريئاً حتى كأنه لا اطلاع له إطلاقاً، وإذا ظهر في الأمر خطأ كبير عزل إنساناً كبيراً أو قتله بتهمة أنه أخطأ ذلك، وقد قتل ناصر عامراً ليلقي بتبعة النكسة عليه.

19 ـ التكثير من البوليس السري بمختلف الأسماء والعناوين، ليضبط وحده الأمر ولا يدع مجالاً لأحد غيره.

20 ـ ما يمدحه اليوم يذمه غداً وبالعكس، لأنه يريد شخصه، وإن نادى بالهدف جعله ستاراً لديكتاتوريته، قال سبحانه: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً)(27).

21 ـ يجمع حوله الإمّعات، لأنه لا يتحمل ذوي العقول والآراء الحرة، فإنه يتلهف على المدح، ولا يطيق القدح، والأحرار يقدحون ويمدحون، بالعكس من الامّعات، حيث ليس في كيسهم إلا المدح، وفي المثل: (صديقك من صدقك، لا من صدّقك).

22 ـ يكثر من موظفي الدولة، بمختلف العناوين ليكثر حوله المصفقون وليتلافى بالكم ما فقده من الكيف ـ بزعمه ـ.

23 ـ وتبعاً لتحكيم المحسوبيات والانتسابات على الكفاءات تتحطم الزراعة والصناعة والثقافة والتجارة والتربية في عهده، حيث لا كفاءات لإدارتها.

24 ـ يحول دون الخدمات الاجتماعية فلا مدارس أهلية، ولا مؤسسات بيد الجمعيات، وهكذا، وذلك لأنه يريد انتساب كل شيء لنفسه، فلا يرضى بأن يعمل غيره عملاً خيرياً في أي من أبعاد الحياة.

25 ـ يطبع كل المؤسسات والشوارع والمشاريع باسمه وأسماء أصدقائه.

26 ـ المبالغة في ذم أعدائه بكل الوسائل وشتى الأنواع.

27 ـ جعل الحلول العسكرية الاعتباطية للقضايا بدون مراعاة الموازين الإنسانية.

28 ـ ولو تجرأ رفع نفسه على الأنبياء والمرسلين، كما قال أحد الولاة: (خليفة الرجل أفضل من رسوله، وفلان خليفة الله، أما محمد صلى الله عليه وآله فهو رسول الله، فالأموي الفلاني أفضل من رسول الله صلى الله عليه وآله).

29 ـ ويبقى دائماً في الحكم بمختلف الأسماء.

1 ـ الوسائل: ج11 ص119 الباب 72 من أبواب جهاد العدو ح1.

2 ـ أنساب الأشراف ج/2 ص249-250.

3 ـ نهج البلاغة/ صالح/ ص506.

4 ـ سورة النحل أية 126.

5 ـ سورة البقرة آية 256.

6 ـ وسائل الشيعة ج/6 ص49.

7 ـ سنن ابن داود ج/403ص247السنن الكبرى ج/7ص44.

8 ـ وسائل الشيعة ج/13 ص151.

9 ـ بحار ج/2 ص272.

10 ـ مسند الإمام أحمد بن حنبل ص411 ج/5.

11 ـ سورة البقرة اية 251.

12 ـ نهج البلاغة/ صالح/ ص422.

13 ـ مستدرك الوسائل ج/3 ص197.

14 ـ البحار ج/41 ص119.

15 ـ البحار ج/41 ص116 فوالله ما أنا وأجيري هذا إلا…

16 ـ أنظر: الوسائل: ج18 ص312 الباب 2 من أبواب مقدمات الحدود ح3.

       والمستدرك: ج3 ص 216 الباب 3 من أبواب مقدمات الحدود ح2(وفيها ثلاثة اسواط).

17 ـ أنظر الأمثال النبوية ج/1 ص164.

18 ـ أنظر الأمثال النبوية ج/1 ص164.

19 ـ نهج البلاغة: الحكمة رقم 420 (صبحي الصالح).

20 ـ أنظر تفسير القمي: ج2 ص368.

21 ـ نهج البلاغة/ صالح/ ص427.

22 ـ نهج البلاغة/ صالح/ ص94.

23 ـ سورة آل عمران آية 159.

24 ـ سورة الشورى آية 38.

25 ـ بحار الأنوار ج/41 ص52.

26 ـ أنظر الكافي ج2 ص354 باب من طلب عثرات المؤمنين ح2.

27 ـ سورة الكهف آية 28.