الفهرس

المؤلفات

 العقائد الإسلامية

الصفحة الرئيسية

 

سريّة أُسامة خطوات بعد الغدير

ثم عقد رسول الله (صلى الله عليه وآله) اللواء والإمرة لاُسامة بن زيد، وندبه أن يخرج بجمهور الاُمّة إلى حيث اُصيب أبوه من بلاد الروم، وكانت هذه هي آخر سريّة عقدها رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حياته، وكان قد اجتمع رأيه على إخراج جماعة من الذين تآمروا عليه في العقبة وتعاهدوا بينهم على نكث البيعة في معسكره، حتى لا يبقى في المدينة عند ارتحاله (صلى الله عليه وآله) من يختلف في الرياسة، ويطمع في التقدّم على الناس بالإمارة، ويستتب الأمر لمن استخلفه من بعده ولا ينازعه في حقّه منازع.

فعقد (صلى الله عليه وآله) لاُسامة الإمرة على كبار الصحابة وذوي أسنانهم وهو حدث السنّ، حتى لا يطعن أحد في تعيين الله ونصب رسوله علياً خليفة من بعده وأميراً للمؤمنين بحداثة السنّ، ثم جدّ في إخراجهم، وأمر اُسامة أن يعسكر بالجرف على أميال من المدينة، وأمر الناس بالخروج إليه والمسير معه، وحذّرهم من التلوّم والإبطاء عنه. وقال (صلى الله عليه وآله): «نفّذوا جيش اُسامة، نفّذوا جيش اُسامة، لعن الله من تخلّف عن جيش اُسامة»، يكرّرها ثلاثاً[1].

وبينا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يحرص أشدّ الحرص على تسيير جيش اُسامة، ومغادرة رؤوس أصحابه المدينة، وتخليتها لعلي (عليه السلام) من المعارضين، إذ عرضت له الشكاة التي ارتحل فيها من الدنيا، وكانت شكاته على أثر اكلة خيبر المسمومة، فإنه مازال ينتقض به سمّها حتى قال (صلى الله عليه وآله) عند ارتحاله: «اليوم قطعت مطاياي الأكلة التي أكلتُ بخيبر، وما من نبيّ ولا وصيّ إلاّ شهيد»[2]. وهناك روايات اُخرى في سبب شهادته (صلى الله عليه وآله) مذكورة في المفصّلات[3].

فلما أحسّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بذلك أخذ بيد علي بن أبي طالب (عليه السلام)، واتبعه جماعة من الناس، وتوجّه إلى البقيع، فقال لمن اتبعه: «إنني قد اُمرت بالإستغفار لأهل البقيع»، فانطلقوا معه حتى وقف بين أظهرهم وقال: «السلام عليكم يا أهل القبور، ليهنئكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس، أقبلت الفتن كقطع اللّيل المظلم يتبع أولها آخرها».

ثم استغفر (صلى الله عليه وآله) لأهل البقيع طويلاً.

ثم أقبل إلى علي أميرالمؤمنين (عليه السلام) وقال له: «يا أخي، إنّ جبرئيل كان يعرض عليّ القرآن كل سنة مرة، وقد عرضه عليّ في العام مرتين، ولا أراه إلاّ لحضور أجلي»، ثم قال: «يا علي إني خيّرت بين خزائن الدنيا والخلود فيها، وبين لقاء ربّي والجنّة، فاخترتُ لقاء ربّي والجنّة خالداً فيها، فإذا أنا متّ فتغسلني» وأوصاه أن يكون (عليه السلام) هو الذي يلي أمره.

ثم عاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) من البقيع إلى منزله، فمكث ثلاثة أيام موعوكاً، ثم خرج إلى المسجد معصوب الرأس معتمداً إلى علي أمير المؤمنين (عليه السلام) بيمنى يديه، وعلى الفضل بن العباس باليد الاُخرى حتى صعد المنبر فجلس عليه، ثم حمد الله وأثنى عليه وقال: «معاشر الناس، قد حان منّي خفوق من بين أظهركم، فمن كان له عندي عدة فليأتني أعطه إياها، ومن كان له عليَّ دَيْن فليخبرني به»[4].

الكتاب والعترة خليفتا رسول الله (صلى الله عليه وآله)

فلمّا كان من الغد أقبل الأنصار وأحدقوا بالباب، وعلموا بشدّة نقاهة رسول الله (صلى الله عليه وآله) والضعف الذي هو فيه فجعلوا يبكون، فسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) البكاء فقال: «من هؤلاء الباكون؟ ».

قالوا: هم الأنصار يا رسول الله.

فقال (صلى الله عليه وآله): «مَن هنا مِن أهل بيتي؟ ».

قالوا: علي (عليه السلام) والعبّاس.

فدعا بهما وخرج متكئاً عليهما واستند إلى جذع من جذوع مسجده، واجتمع الناس حوله، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «معاشر الناس! إنه لم يمت نبيّ قطّ إلا خلّف تركة، وقد خلّفتُ فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، فتمسّكوا بهما، فمن ضيّعهما ضيّعه الله، ألا وإن الأنصار كرشي وعيبتي التي آوي إليها، وإني اُوصيكم بتقوى الله والإحسان إلى محسنهم، والتجاوز عن مسيئهم»[5].

مع أسامة بن زيد

ثم انّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) دعا اُسامة بن زيد الذي أمره أن يعسكر بالجرف وقال له: «سِر على بركة الله حيث أمرتك بمن أمّرتك عليه».

فقال اُسامة: بأبي أنت واُمّي يا رسول الله، أتأذن لي في المقام عندك حتى يشفيك الله، فإني متى خرجت وأنت على هذه الحالة خرجت وفي قلبي منك قرحة.

فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): «انفذ يا اُسامة إلى ما أمرتك».

فخرج اُسامة من يومه ذلك، ونادى منادي رسول الله (صلى الله عليه وآله): ألا لا يتخلّف عن جيش اُسامة أحد ممن أمَّرته عليه.

ثم أمر (صلى الله عليه وآله) قيس بن عبادة والحباب بن المنذر بإخراج جماعة من الأنصار كانوا قد تثاقلوا، وأمرهم بترحيل القوم إلى عسكرهم، ففعلا ذلك حتى ألحقوهم بالعسكر، وقالا لاُسامة: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يرخّص لك في التأخير، فسر من قبل أن يعلم بتأخيرك، فارتحل بهم اُسامة، وانصرف قيس والحبّاب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخبراه بمسير القوم، ومع ذلك فقد تخلّف عن جيش اُسامة بعض كما ورجع منهم آخرون إلى المدينة[6].

النبي (صلى الله عليه وآله) يصلّي بالمسلمين جالساً

وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لشدّة شكاته في تلك الليلة لا يفارقه علي (عليه السلام) والفضل بن العباس، وكان بلال عندما يؤذّن لكل فريضة يأتي إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فيقول: الصلاة يا رسول الله، فإن قدر رسول الله (صلى الله عليه وآله) على الخروج إلى الصلاة خرج وصلّى بالناس، وإن لم يقدر أمر علي بن أبي طالب (عليه السلام) أن يصلّي بهم[7].

وفي صباح تلك الليلة أتاه بلال على عادته يؤذنه بالصلاة، فوجده قد ثقل عن الخروج، فنادى: الصلاة رحمكم الله، فأذّن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بندائه ورأسه في حجر علي (عليه السلام). ولم يتمكّن (صلى الله عليه وآله) من الخروج إلى المسجد.. هذا والمسلمون جالسون للصلاة فتقدّم أحد الصحابة إلى المحراب، فلمّا كبّر سمعه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال لمن حوله: سنّدوني وأخرجوني إلى المسجد.

فخرج (صلى الله عليه وآله) وهو معصّب الرأس معتمداً بين علي (عليه السلام) والفضل بن العبّاس ورجلاه يخطّان في الأرض من الضعف، فتقدّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونحّى الصحابي عن المحراب، وابتدأ الصلاة وكبّر لها مستأنفاً وهو جالس، وبلال يسمع الناس التكبير.

فلما أكمل (صلى الله عليه وآله) صلاته قال لمن حوله: «عرّجوا بي إلى المنبر»، فأجلسوه على أدنى مرقاة منها واجتمع له جميع أهل المدينة من المهاجرين والأنصار حتى برزت العواتق من خدورهنّ فبين باك وصارخ والنبي (صلى الله عليه وآله) يخطب ساعة ويسكت ساعة.

وكان مما ذكر (صلى الله عليه وآله): أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال (صلى الله عليه وآله): «ألا أيُّها الناس اني مخلّف فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فتمسّكوا بهما، فلا تتقدّموا أهل بيتي فتمرقوا، ولا تتأخّروا عنهم فتزهقوا، وأوفوا بعهدي، ولا تنكثوا بيعتي التي بايعتموني عليها، اللهمّ إني قد بلّغت ما أمرتني، ونصحت لهم ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه اُنيب».

وفي رواية انه (صلى الله عليه وآله) قال: «ألا قد خلّفت فيكم كتاب الله فيه النور والهدى والبيان، ما فرّط الله فيه من شيء، حجّة الله عليكم وحجّتي وحجّة وليّي، وخلّفت فيكم العلم الأكبر، عَلَم الدين، ونور الهدى: وصيّي علي بن أبي طالب، ألا هو حبل الله فاعتصموا به جميعاً ولا تفرَّقوا عنه.

أيّها الناس، لا تأتوني غداً بالدنيا تزفّونها زفّاً، ويأتي أهل بيتي شعثاً غبراً، مقهورين مظلومين، تسيل دماؤهم.

أيّها الناس، الله الله في أهل بيتي، فإنهم أركان الدين، ومصابيح الظلم، ومعدن العلم، علي أخي ووزيري، وأميني والقائم من بعدي بأمر الله، والموفي بذمّتي، ومحيي سنّتي، أول الناس بي ايماناً، وآخرهم عهداً عند الموت، وأولهم لي لقاءاً يوم القيامة، فليبلّغ شاهدكم غائبكم.

أيّها الناس، ومن كانت له قبلي تبعة فها أنا ومن كانت له عدة أو دَيْن فليأت فيها علي بن أبي طالب فإنّه ضامن لذلك كله حتى لا يبقى لأحد عليّ تبعة»[8].

ثم قام (صلى الله عليه وآله) معتمداً بين علي (عليه السلام) والفضل بن العبّاس ودخل منزله.

مع المتخلّفين عن جيش اُسامة

ثم انّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعث من استدعى له المتخلّفين عن جيش اُسامة، فلما حضروا قال لهم (صلى الله عليه وآله): «ألم آمركم أن تنفّذوا جيش اُسامة؟! ».

فقالوا: بلى يا رسول الله.

فقال (صلى الله عليه وآله): «فلم تأخّرتم عن أمري؟ ».

فقال بعضهم: إني كنت قد خرجت ثم رجعت لاُجدِّد بك عهداً.

وقال بعض آخر: إني لم أخرج لأني لم اُحب أن أسأل عنك الركبان.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «نفّذوا جيش اُسامة، نفّذوا جيش اُسامة ـ يكرّرها ثلاثاً ـ لعن الله من تأخّر عنه»[9]، ثم اشتدّ ضعفه (صلى الله عليه وآله) وانقطع عن الكلام لعظم ما لحقه من التعب والضعف، فبكى المسلمون وارتفع النحيب من أزواجه وولده ونساء المسلمين وجميع من حضره (صلى الله عليه وآله).

[1] راجع شرح النهج لابن أبي الحديد: ج6 ص52، دار إحياء التراث العربي، وفيه: «انفذوا جيش اُسامة، لعن الله من تخلّف عنه، وكرّر ذلك»، راجع إعلام الورى: ص133 ب4.

[2] أنظر بحار الأنوار: ج22 ص516 ب2 ح21.

[3] أنظر المناقب: ج1 ص234 فصل في وفاته (صلى الله عليه وآله).

[4] أنظر بحار الأنوار: ج22 ص466 ب1 ح19، وقصص الأنبياء للراوندي: ص357 ب2 ح433.

[5] راجع الاحتجاج: ج1 ص70.

[6] راجع بحار الأنوار: ج28 ص175 ب4 ح1.

[7] بحار الأنوار: ج27 ص324 ب1 ح4.

[8] خصائص الأئمة: ص75 خطبته (صلى الله عليه وآله) بعد الصلاة وفيها الوصية لعلي (عليه السلام)، وانظر بحار الأنوار: ج22 ص487 ب1 ح31.

[9] وفي شرح النهج لابن أبي الحديد: انفذوا جيش اُسامة لعن الله من تخلّف عنه وكرر ذلك: ج6 ص52 ذكر أمر فاطمة (عليها السلام) مع أبي بكر/ دار إحياء التراث العربي.