الفهرس

المؤلفات

 العلوم الاخرى

الصفحة الرئيسية

 

بين الإسراف والتلوّث

مسألة: مما يستنـزف موارد البيئة ويزيد فـي تلوّثها الإسراف في كل شيء، والإسراف عبارة عن الزيادة غير اللازمة في الشيء الذي أصله صحيح مثل إضاءة مصباحين في الغرفة بينما لا تحتاج الغرفة إلـى أكثر من مصباح واحد، فالمصباح الثاني يكون إسرافاً، وهكذا بقية أنواع الإسراف كما قال سبحانه في وصف فرعون: (إنه كان عالياً من المسرفين)(1)، فـإن فرعون كان مسرفاً في مختلف شؤون الحياة، في الأموال والدماء والنساء وغير ذلك.

أما التبذير فهو ما كان أصله على غير ما ينبغي مثل أن يشعل المصباح نهاراً، وإن كـان كل واحد منهما يطلق على الآخر أيضاً إذا كان وحده. وقد قال سبحانـه: (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين)(2)، وإن الشيطان يضع الأشياء في غـير مواضعها، ولم يقل ذلك بالنسبة إلى المسرفين، فالمبذر هو أخو الشيطان مـن هذه الجهة. فإن الموضوع والحكم هو أن كل واحد منهما يتصرَّف في الآخر، بالقرينة، كما ذكرناه مفصلاً في الأصول(3).

الإسراف في الماء

وهناك صـور مختلفة للإسراف في مختلف المجالات وكلها مما تسيء إلى البيئة فتستنـزف مواردهـا، وهي محرّمة، مثل:

1 ـ الإفراط في استهلاك المياه، فإن الله سبحانه وتعالى خلق الماء وجعله سبيلاً للحياة وكان أول مخلوق لله سبحانه وتعالى الماء فوضع عرشه عليه كما قال سبحانه: (وكان عرشه على الماء...)(4)، وقـال سبحانه: (وجعلنا من الماء كل شيء حي)(5)، فالنبات والإنسان والحيوان كلها أحياء بسبب المياه، أما بالنسبة إلى عالم الجن وعالم الملك وعالم الآخرة فـلا نعرف أن الماء أيضاً داخل في أسباب حياتها أم لا؟

والشياطـين قسم من الجن كما قال سبحانه: (كان من الجن ففسق عن أمر ربه)(6).

والإسلام وإن أوجب الغسل والوضوء لكن جعل الإسراف في استعمال الماء فيهما محرماً أيضـاً، فقـد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث مروي عنه: (الوضوء مـد والغسل صـاع، وسيأتي أقوام بعدي يستقلون ذلك فأولئك علـى خلاف سنـتي والثابت على سنّتي معي في حظيرة القدس)(7)، وحتى أن الشـرب يلـزم أن يكون بدون إسراف، فإن الإسراف فـي مياه الشرب يسبب أمراضاً وأعراضاً، وقد ورد في الحديث: (ولو أن الناس أقلوا من شرب الماء لاستقامت أبدانهم)(8).

وهكذا من الإسراف صـبّ فضل الماء الأمر الذي صار متعارفاً عند جماعة من المسلمين، وذلك محرم فـي الشريعة الإسلامية، وحتى بالنسبة إلى تطهير محل البول، والبول من أقذر الأشياء كمـا ورد في الشريعة الإسلامية ومع ذلك فإن التطهير من البول ورد انه يكون بمثلي ما على المخرج(9)، فإن الرطوبة الباقية على مخرج البول إنما تطهر بمثليه من الماء مما يكون ذلك مقدار قطرتين مثلاً. وقد قال سبحانه: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين)(10)، فالإسراف في الأكل والشرب وما أشبه كلها منهيّ عنها.

وقد ورد في الطب إنّ الجسم البشري لا يستفيد من كل ما يلقى فيه من مياه الشرب وإنما يأخذ ما يلزم لكفايتـه ثـم تبذل الكلية مجهوداً كبيراً للتخلص ممّا زاد عن حده، وربما كان دخول الماء إلى غير موضعه الطبيعي في جسم الإنسان سبباً للموت شرقاً أو ما أشبه ذلك كما هي الحال في وصوله إلى الرئتين، ففي حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه، يحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لابد فعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه)(11).

والماء الذي يسبب سهولـة الهضـم أيضاً يسبب مشاكل في الهضم إذا تناوله الإنسان أثناء الطعام أو على الفاكهـة حتى اشتهر عند الأطباء القدماء أنهم قالوا: الماء بعد الفاكهة سم وبعد العنب أسم ؛ وحال الزراعة حال بدن الإنسان فإن الإسراف في الريّ بالماء يؤدي إلى إحلال المياه محل الهواء الموجود في داخلها، ممّا ينتج عنه عجز الجذور النباتية عـن التنفس فضلاً عن تعفنها وتحللها بسبب تأثير المياه التي تشبعت بها حبيبات التربة، ويستطيع كل واحد أن يجرِّب ذلك فإذا سقى الحديقة ماءً كثيراً تكـون الفاكهة فاسدة بينما إذا سقاها بقدر تكون الفاكهة جيدة.

كما يؤدي سوء استخدام الري إلى إصابة مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية بخطر التملح والتغدّق بما يقلل مـن قدرتهـا الإنتاجيـة في مرحلة، وإصابتها بالعقم الإنتاجي في مرحلة أخرى، وقد قدّر بعض العلماء أن العالم يفقد سنوياً بين نصف مليون وبين مليون فدّان نتيجة لتملح التربة أو تغدّقها، فإن الماء الزائد يدخل إلى أعماق الأرض فلذلك تترشـح الأملاح إلى ظاهرها مما يسبب سقوط الأرض عن الانتفاع. كما إن الإفراط في تصريف المياه في مجال الصناعة في التبريد أو الغسيل أو المخلّفات السائلة على المسطحات المائية يؤدي إلى تلوثها واستنـزاف الأوكسجين الذائب فيها، وهو أمر يؤدي إلى هلاك الكائنات البحرية بمختلف أقسامها.

2 ـ وكمـا لا يصح الإسراف في استهلاك المياه بمختلف صوره التي ذكرناها، كذلك لا يصح الإسراف والتبذير والإفراط في استهلاك الكهرباء حيث أنه يؤدي إلى زيادة عبء محطات التوليد الكهربائي.ومعنى ذلك زيادة في استهلاك الوقود المستخـدم لإغراض الإنتاج وزيادة تلوّث الهواء بسبب حرق كميات كبيرة من الوقود وزيادة استهلاك مياه التبريد لمعدات التوليد ومن ثم التلوث الحراري للمسطحـات المائيـة التي تصب فيها مياه التبريد، بالإضافة إلى أنه يسبب حرمان الأجيال الآتية من هذه النعمة التي إذا وزعت بقدر تصبح نعمة للجيل الحاضر، ولأجيـال المستقبل، وقد قدّرت بنفسي الكهرباء الذي يصرف في بلد بأنه إنما يكفـي لجيـل واحد في الحال الحاضر حيث الإسراف، بينما إذا كان يستهلك بقدر كان يكفي لألف سنة.

3 ـ ولا يصح الإسراف في الطعام، فإن الإنسان إذا أسرف في الطعام لم يستطع أن يهضمه بشكـل صحيح حيث يصاب بالتخمة وعسر الهضم، والمعدة بيت الداء كما إن الحمية رأس الدواء(12)، وقـد ورد في حديث (إن أكثر أهل المقابر من التخمة)(13)، أي إن التخمة سببَّت لهم أمراضاً وأعراضاً انتهت بهم إلى القبر. وورد أيضاً عن الإمـام الصادق (عليه السلام): (كلّ داء من التخمة، إلاّ الحمى فإنّها ترد وروداً)(14). وقـد يحدث للمعدة أن تصاب بالتوسع والتمدد نتيجة الإفراط في تناول الطعام فيفقد المرء شهيته للأكل إنْ تناول طعاماً لـم تستطع له هضماً، وقد يصاب نتيجة لذلك بالإسهال أو الإمساك، كما وإن الإسـراف في الطعام يؤدي إلى الجسامة ومن ثم يعرِّض الإنسان لأمراض القلب وارتفـاع الضغط وأمراض الكلى والسكر والدهن وغير ذلك من الأمراض الكثـيرة، وقـد كان الحكام الأمويون والعباسيون يفرطون في نهمهم بالطعام والشراب فكـان بعضهـم يأكل وجـــبة كبيرة ثم يستفرغها كلاًّ ليأكل مرة ثانية وثالثـة، وهـذا مما سبب موتهم دون العمر الطبيعي كما ذكرت التواريخ. ومن الواضح كثرة الأمراض التي يسببها التقيؤ غير الطبيعي لأن تقيؤ المعدة بطريق الحلـق يسبب ضغطاً كبيراً على العروق الصغيرة المرتبطة بالعين أو الإذن أو الحنجرة أو المخ. وأما التقيؤ الذي كان ينصحه الأطباء القدامى إنما ينصحونه في أشد حالات الضرورة، فالضرورات تبيح المحظورات.

جاء رجلٌ إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان يتجشأ، فقال له الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (يا عبد الله اقصر من جشائك، فإنّ أطول الناس جوعاً يوم القيامة أكثرهـم شبعاً في الدنيا)(15). وعن أبي ذر الغفاري قـال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أطولكم جشاءً في الدنيا أطولكم جوعاً يوم القيامة)(16) وورد مرفوعاً إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال في كلامٍ له: (سيكون مـــن بعدي سمنـــة يأكل المـــؤمن في معاءٍ واحد ويأكــــل الكافر في سبعة أمعاء)(17)، والمراد بذلك أنّ الكافر يأكل كثيراً بينما المؤمن يأكل بقدر محدد.

4 ـ هذا مـن جهة الإسراف في الأكل والشرب، وأما الإسراف في الزيادة في طبخ الطعام وطهيه فإن ذلك أيضاً من ملوّثات البيئة حيث إن الزائد يلقى في القمامات. وكثيراً ما يشاهد في بلاد المترفين أن شراء المواد الغذائية يتم بالكرتون أو الصندوق الكامل ولا تستهلك العائلة كل الكمية، بل غالباً ما يفسد جزء كبير منها الأمر الذي يؤدي إلى إلقائه في سلة المهملات.

أما بالنسبة إلى الاجتماعات كحفـلات العرس والمواليد وموائد العزاء وما أشبه فقد أضحى الإسراف فيها أمراً واضحـاً، وتبرز خطورة سلبيات ذلك حين يتم التخلص منها في محلات القمامة خارج المدن ثم تجتمع هناك في أكوام كبيرة أحياناً تكون كالتلال إذ إن هذه النفايات قابلة للتحلل والتعفن وتمثل مصدراً للروائح الكريهة التي تحملها الرياح إلى المدينة مما تسبب الأمراض والأعراض فضلاً عمّا توجب من الأذى. هذا بالإضافة إلى أن مثل هذا النوع من النفايات يعتبر عاملاً لجذب الحيوانات والفئران وهوام الأرض المختلفة، فإنها تكـون بمثابـة مزرعة خصبة لتوالد شتى أنواع الجراثيم والمكروبات التي تصدر العديد من الأوبئة والأمراض للمدن المحيطة. وحتى إذا تم التخلص من هذه النفايات الغذائية بطرق تقليدية مثل الدفن أو الحرق فإن المخاطر البيئية الناجمة عنها تظل قائمة، وتتمثل هذه المخاطر بتسرب عصارات النفايات بعد تحللها إلى التربة، فتنتهي إلـى الميـاه الجوفية وتؤدي إلى تلوثها وتلوث من استعملها، بالإضافة إلى انتشار الروائـح الكريهة المنبعثة من مصب النفايات وتكاثر الذباب والجراثيم.

والاحتراق الذاتي للنفايات أيضاً يسبب محاذير لأن الهواء يتلوث بنتائج حرق النفايات، كما إنّ عملية الحرق نفسها تؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة الأراضي والمنطقة المحيطة مما يجعل الهوام من الثعابين وغيرها من الفئران تخرج من جحورها زاحفة نحو المدينة، هذا بالإضافة إلى بوار الأرض التي تلقى فيها النفايات وعـدم صلاحيتها للاستغلال بعد دفن النفايات فيها إلاّ بعد فترة طويلة.

أما إذا أريد تبديـل النفايات إلى مواد صالحة فإنها أيضاً مكلفة، فمن المثل المشهور: لماذا يقـول المرء شعـراً حتى يبتلي بقافيته وبسجعه ووزنه، فلماذا نسرف حتى نبتلى بنتائج الإسراف المكلفة مالياً والمسبّبة للتلوّث معنوياً.

5 ـ ومن موارد الإسراف، الإسراف في التجمل لأنه يوجب إسرافاً في المادة وفي العمل اللازمين لصنع مواد التجمـل ؛ صحيح (إن الله جميل يحب الجمال) كما ورد في الحديث(18) وذلك مستحب لكن بالقدر المقرر شرعاً، إذن الإسراف في الجمال أيضاً كالإسراف في سائر الأشياء، فقد قال سبحانه: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً ...)(19). هذا بالإضافة إلى أنه صرف للنقد الزائد وهو إسراف من حيثيات متعددة(20).

6 ـ ومن الإسراف أيضاً، الإسراف في النظافة حتى إن الشارّع المقدس حرَّم الوسوسة مـع أنه من التنظيف المتزايد بالنسبة إلى غسل الملابس وغسل البدن وغسل الأشياء، فقد جاء رجل إلى الإمام الصادق (عليه السلام) قائلاً له: فلان رجل عاقل لكنه وسواسي. فقال له الإمام الصادق (عليه السلام) إنه: (أي عقل له وهو يطيع الشيطان)(21).

7 ـ كما إن موارد الإسراف أيضاً، الإسراف في الجنس سواء بالتعدد الذي لا تطيقه حالـة الإنسان أو بالتكرر في العمل الجنسي وهذا من أخطر الأشياء على البدن، فقد قال ابن سينا:

احفظ منيّك مـــا استطعت فـإنه            ماء الحياة يصب فـي الأرحــــام

وفي الروايات النهي عنـه بالإضافـة إلى الأدلة العامة التي تشمل هذه الصغرى وسائر الصغريات.

8 ـ ومن موارد الإسراف، الإسراف في الإمناء سواء كان حلالاً أو حراماً فإنه يسبب ضعفاً فـي البصر والسمع والتفكير والتكلم والأعصاب، ويسبب أيضاً داء المفاصل وداء القلب وما أشبه ذلك.

والنهميون الشهوانيون كثيراً ما يستعملون أدوية منشطة للجنس لكنهم لا يعقلـون أن استعمال المنشطات يسبب العنه في أواخر العمر، وقد ذكر المؤرخون أن مـن أسباب موت من سُمّوا بالخلفاء والأمراء المبكِّر وأمراضهم الكثيرة كان هذا الأمـر، حيث كانـوا يفرطون في هذا الشيء إفراطاً فوق التصور، فقد كان هارون العباسي والمأمون العباسي والخليفة العثماني عبد الحميد يملك كل واحد منهم أربعة آلاف من الجواري. وكذلك ذكروا في قصر الملك الفارسي كسرى(22)، ومثل هذا لا يعدو الإنسان أن يكون بهيمة كما قال الإمام علي (عليه السلام): (أبني: إنّ من الرجال بهيمة في صورة الرجل السميع المبصر)(23).

ولا يخفى إنّ الإسراف في الإمناء غير الإسراف في الجماع إذ يمكن أن يكون هذا بدون إمناء وهو أيضاً ضار بالبدن أيضاً ضرراً كبيراً لأنه يسبب تهييج الأعصاب تهييجاً متزايداً. والتهييج يضرّ الأعصاب وما تعلق بها. وقد ألمعنا إلى هذا المبحث في كتاب فقه الأسرة.

9 ـ كما إن من الإسراف، الإسراف في العقوبة سواء كان تأديباً أو قصاصاً أو غير ذلك ومن مصاديقه الحروب العدوانية، قال سبحانه: (وإذا بطشتم بطشتم جبارين)(24)، وقال سبحانه: (ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل)(25)، فإنّ الإسراف في العقوبة مهما كان نوعها سواء كان قتـلاّ أو غـير قتل، تعذيباً أو غير تعذيب، غرامة أو غير غرامة، حبساً أو غـير حبس، حرمانـاً عـن الحقـوق أو غيرها.. كلها انحراف عن سنن الله سبحانه وتعالـى وتسبب أضـراراً للبيئة وغير البيئة، للإنسان وغير الإنسان، فإن الإنسان ملزم بالرفق حتى بالحيوان فلا يحق له معاقبة الحيوان أكثر مما يستحق إذا فرض استحقاقه العقوبة، فقد رفع الإمام السجاد سوطه ليضرب ناقته التي غيرت طريقها في سيرها، لكنه لم يضربها، فقيل للإمام (عليه السلام) لماذا لم تضربها؟ فقال الإمام (عليه السلام): (خاف القصاص)(26).

وقـد قـال الإمـام علي (عليه السلام): (فأنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم)(27) فإن الإنسان مسؤول عنها كما أشرنا إلى بعض تفصيل ذلك في كتاب الفقه في باب الصدقات(28).

10 ـ ومـن الإسراف أيضاً، هـدر الأموال الكثيرة في صنع وشراء الأسلحة الفتّاكة، فمثلاً البلاد الفقيرة أنفقت 146 مليار دولار على القطّاع العسكـري سنـة 1404هـ (1984م) وزاد هذا الإنفاق سنة 1407هـ (1987م) عن معدّل سنة 1380هـ (1960م) 7.5%، فيجب اتّباع مسار جديد في التخطيط والتنمية يقلّل من الإنفاق العسكري خاصّة بعد انتهاء الحرب الباردة.

11 ـ ومن الإسراف أيضاً، الإفراط في الاستفادة من ثروات الطبيعة ومنها الأرض عبر الرعي حيث يقـوم الإنسان بالاستغـلال الزائد للمراعي والأراضي الزراعية، فإن عمله هـذا يؤدي به إلى إزالة الغطاء الأخضر الذي يكسو سطح الأرض، ومن ثم تتحول التربة إلى رمال متحركة وتصبح المراعي والمناطـق الزراعية امتداداً يضاف للصحراء التي تزحف بكثبانها الرملية على هذه الأماكن وقد تقضي على البقية الباقية من الحرث والنسل، إلى غير ذلك من صور الإسراف الذي يؤثر سلباً على البيئة مما اعتاده الناس خصوصاً أولئك الذين خرجوا عـن مظلّة الأنبياء ووحي السماء، سواء كان خروجاً مطلقاً كالشيوعيــين أو خروج فـي الجملة كاليهود والمسيحيين أو خروجاً على نحو المعصية والمخالفة كما نشاهده عند الكثير من المسلمين في الحال الحاضر حيث لا يهتمون بالأوامر الإسلامية التي تصلح دينهم ودنياهم، وبذلك (نسوا الله فأنساهم أنفسهم)(29)، فإن نسيان الله تعالى يشمل الأقسام الثلاثة(30).

ومعنى (نسيان الله) أن الإنسـان لا يـلاحظ رقابته عليه وجزاءه في الآخرة على أعماله، كمـا يقول سبحانه فـي الآخرة (اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا...)(31).

 

1 ـ سورة الدخان: الآية 31.

2 ـ سورة الإسراء: الآية 27.

3 ـ أنظر كتاب الأصول: مباحث الألفاظ للإمام المؤلّف (دام ظله).

4 ـ سورة هود: الآية 7.

5 ـ سورة الأنبياء: الآية 30.

6 ـ سورة الكهف: الآية 50.

7 ـ من لا يحضره الفقيه: ج1 ص34 ح7.

8 ـ وسائل الشيعة: ج17 ص190 ح4 ب6. وفلسفة ذلك واضحة، لأنّ الماء عندما نتناوله، فنحن نعرّض أنفسنا لمواد كيماوية، فبواسطة الماء يدخل إلى أجوافنا أصنافٌ من المعادن بعضها جوهري بالنسبة للصحّة ولكن كثيراً منها ليس له دور معروف في حفظ صحّتنا خاصة المواد الكيماوية التي تضاف للماء لأجل تعقيمه.

9 ـ فعن نشيط بن صالح عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (يجزي من البول أن يغسله بمثله) وسائل الشيعة: ج1 ص243 ح7. وكذا ورد: (يجزي أن يغسل بمثله من الماء إذا كان على رأس الحشفة) الكافي: (فروع): ج3 ص20 ح7. هذا ولا يخفى أنّ الإمام المؤلف ذكر تفصيل هذه المسألة في الجزء السابع من موسوعة الفقه كتاب الطهارة ص201. وذكر الأقوال الأربع في هذه المسألة:

أولاً: ـ كفاية مسمى الغسل مرّة وهذا اختيار الجواهر والإمام المؤلف.

ثانياً: ـ اعتبار مثلي ما على المخرج من الماء مرة وهو قول المشهور.

ثالثاً: ـ اعتبار غسلتين في كل واحدة مثلان وهو قول الصدوق في الفقيه والهداية.

رابعاً: ـ غسل مرتين بما هو المتعارف من الغسل من استيلاء الماء على المحل وهو قول الشيخ مرتضى الأنصاري.

10 ـ سورة الأعراف: الآية 31.

11 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج19 ص187 ب295.

12 ـ إشارة إلى الحديث الشريف: (المعدة بيت كل داء والحمية رأس كل دواء) بحار الأنوار: ج62 ص290 ح72 ب89، وورد أيضاً: (إن المعدة بيت الداء وإن الحمية هي الدواء) بحار الأنوار: ج61 ص307 ح17 ب47، ج10 ص205 ح9 ب13.

13 ـ وورد عن أبي عبد الله (عليه السلام): (إن كل داء من التخمة ماخلا الحمّى فإنها ترد وروداً). الكافي (فروع): ج6 ص269 ح8.

14 ـ المحاسن: ص447، وسائل الشيعة: ج16 ص411 ح1 ب4.

15 ـ المحاسن: ص 447، الجشاء: إخراج الريح من المعدة، وسببه إمّا كثرة الطعام أو أكل ما يوجب التجشُّؤ. ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إذا تجشأ أحدكم فلا يرفع جشاءه إلى السماء، ولا إذا بزق، والجشاء نعمة من الله، فإذا جشأ أحدكم، فليحمد الله عليها).

16 ـ المحاسن: ص447. وسائل الشيعة: ج16 ص410 ح1 ب4.

17 ـ المحاسن: ص447. وسائل الشيعة: ج16 ص405 ح3 ب1. المعاء الواحد كناية عن الأكل قليلاً، وسبعة أمعاء كناية عن الأكل الكثير، فإنّ عدد السبعة أو السبعين في لغة العرب كناية عن الكثرة. وقد وردت روايات أخرى في هذا الصدد، قال الإمام الصادق (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (بئس العون على الدين قلب نخيب وبطن رغيب ونعظ شديد) وسائل الشيعة: ج16 ص406 ح4 ب1.

وقلبٌ نخيب: القلب الذي يرغب بالدنيا.

وبطنٌ رغيب: بطنٌ ترغب في المزيد من الطعام.

ونعظ شديد: اعتناء الرجل بشهوته الجنسية أكثر من المقرّر شرعاً وعقلاً.

وورد أيضاً عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إنّ الله يبغض كثرة الأكل). وعن أبي الحسن (عليه السلام): (لو أنّ الناس قصدوا في الطعم لاعتدلت أبدانهم) المحاسن: ص439، وسائل الشيعة: ج16 ص406 ح7. والطعم: جمع طعام. وعن أبي الحسن (عليه السلام) أيضاً: (إنّ الله يبغض البطن الذي لا يشبع) المحاسن: ص446.

18 ـ الكافي (فروع): ج6 ص438 ح1، وسائل الشيعة: ج3 ص331 ح64.

19 ـ سورة البقرة: الآية 143.

20 ـ إنّ الإسراف في الاستهلاك في الوقت الحاضر يعتمد على استراتيجيات ثلاثة: 1 ـ إيجاد احتياجات جديدة غير ضرورية 2 ـ تنشيط الرغبة في تلبيتها باستخدام الدعاية 3 ـ فتح أسواق تصدير جديدة وخفض مدّة بقاء السلع أو خفض مستوى المواد المستخدمة كمّاً وكيفاً، فعلى سبيل المثال: إنّ السيّارات تصدأ بأسرع من ذي قبل، وإنّ الأبنية الحديثة التي تقام في ضواحي مدننا لن تدوم، وإنّ الملايين التي تبتلعها إنشاء محطّات توليد الطاقة النووية يجب أن تستهلك تمام الاستهلاك في غضون عشرين أو ثلاثين سنة بالنظر إلى أنّ مدّة بقاء هذه المنشآت تتناسب عكسياً مع حجمها وتكلفتها.

هذا وقد سبب الإسراف في الاستهلاك إلى تراكم النفايات لتسارع عمليّات الإنتاج والاستهلاك، ففي أمريكا يطرح الفرد من الفضلات بما يساوي وزنه عشرين مرّة وزن الفرد في السنة. وفي فرنسا يطرح سنوياً 750 ألف سيّارة و500 ألف متر مكعّب من الأجهزة المنـزلية العاطلة.

ولأجل القضاء على الإسراف في الاستهلاك، لابدّ من إعادة استخدام المواد ودورتها، ويعتمد ذلك على مجموعة من الخيارات: أ. اجتناب استخدام السلع غير الأساسيّة ب. استخدام المنتج مرّة أخرى، كإعادة ملء الأوعية الزجاجية التي تعبأ فيها الأشربة ج. إعادة دورة المواد لتشكيل منتج جديد بعد طرح المواد المتبقية في حفر ثمّ تردم، وإنّ إعادة دورة المواد يمنع استخدام المواد البكر إلاّ لتعويض أية كمية تفقد في الاستخدام وإعادة الدورة. وكذلك يوفّر في الطاقة، فإنّ الصلب المنتج من الخردة يتطلّب ثلث الطاقة التي يتطلّبها الصلب المنتج من خام الحديد، ويخفّض تلوّث الهواء بمقدار 85% وتلوّث الماء بمقدار 76% ويمحو نفايات التعدين كليةً. والورق المصنوع من الورق المعاد يستلزم ربع الطاقة ممّا يستلزمه الورق المصنوع من لبّ الخشب، ويخفّض تلوّث الهواء بمقدار 74% وتلوّث الماء بمقدار 35%. وكذا الزجاج يستهلك ثلثا الطاقة التي يتضمّنها صنع المنتج الأصلي، وإنّ القارورة الواحدة إذا استخدمت عشرة مرات تؤدّي إلى خفض الطاقة بمقدار 90% لكلّ قارورة. د. تبسيط التعبئة الغذائية عبر وضع قواعد تنظيمية للتعبئة، فإنّ كثيراً من الدول تقوم بالإسراف في التعبئة والتغليف إلى ثلاثة أو أربعة أغلفة، أو استعمال أوعية رقيقة للتعبئة، فمن المحبّذ استخدام أكياس قماش أو نايلون متينة ولمرّات متعدّدة بدل أكياس النايلون التي تستعمل لمرّة واحدة. وكذا من المحبّذ توحيد أحجام علب التعبئة وإعادة استخدامها مرّات عديدة بعد تنظيفها وإزالة البطاقات القديمة الملصقة عليها بالبخار ولصق بطاقات جديدة. ففي الدانمارك منعت الحكومة عام 1977م استخدام قناني المشروبات الغازية التي تلقى بها بعد استعمالها مرّة واحدة، وذلك حتّى تصنع المعامل قناني صالحة للاستعمال عدّة مرّات. وفي ألمانيا ضغطت الحكومة على أصحاب المصانع ليتحملوا المسؤولية عن النفايات المتولّدة من منتجاتهم ومن مواد التعبئة ممّا حدا بأصحاب المصانع فكّ مكوّنات منتجاتهم وإعادة استخدامها.

21 ـ الكافي (أصول): ج1 ص12 ح10. ونصّ الحديث عن عبد الله بن سنان قال ذكرت لأبي عبد الله (عليه السلام) رجلاً مبتلى بالوضوء والصلاة، وقلت هو رجلٌ عاقلٌ، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): (وأيّ عقلٍ له وهو يطيع الشيطان. فقلت له: وكيف يطيع الشيطان؟ فقال (عليه السلام): سله هذا الذي يأتيه من أيّ شيء هو، فإنّه يقول لك من عمل الشيطان).

22 ـ حيث ذكروا إنّ له أربعة آلاف جارية، للمزيد راجع كتاب: تجارب الأمم لابن مسكويه.

23 ـ ديوان الإمام علي (عليه السلام): ص182.

24 ـ سورة الشعراء: الآية 130.

25 ـ سورة الإسراء: الآية 33.

26 ـ الكافي (أصول): ج2 ص331 ح6، ج2 ص335 ح23.

27 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج9 ص288 ب168.

28 ـ للمزيد راجع موسوعة الفقه: ج60 كتاب الوقوف والصدقات والسكنى والسبق والرماية.

29 ـ سورة الحشر: الآية 19.

30 ـ الخروج مطلقاً أو جملةً أو معصيةً.

31 ـ سورة الجاثية: الآية 34. هذا ويجب القضاء على الإسراف عبر تعديل أنماط الاستهلاك وتعديل النظام الاقتصادي بحيث لا يكون استهلاك الموارد على حساب الأجيال القادمة ويجب اتّباع القانون الإلهي العام من: إنّ فضلات أحد الكائنات الحيّة هي أسباب حياة كائن حيّ آخر. وهذا القانون لو طبّق، فإنّه يساهم بدور فعال في إيجاد مورد غذائي للحيوانات والنباتات.