الفهرس

المؤلفات

 الأخلاق والسلوك

الصفحة الرئيسية

 

كيف نحصل على اليقين؟

إذا كانت درجة اليقين بهذا المستوى من الشرافة والقدسية والقرب من الله عزوجل، فحريّ بالإنسان أن يسعى للوصول بإيمانه إلى اليقين، ليضمن رضا الله عزوجل، والخطوات الواجب اتباعها من أجل ذلك هي كما يلي:

الذكر المتواصل

أي أن يذكر الله على كل حال، وفي كل موطن وموقف، وعدم التجاهل في ذلك، فان للذكر أثراً عظيماً على القلب، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (ذكر الله جلاء الصدور وطمأنينة القلوب)(1).

وقال (عليه السلام): (الذكر جلاء البصائر ونور السرائر)(2).

وقال (عليه السلام): (إن الله سبحانه جعل الذكر جلاء القلوب، تبصر به بعد الغشوة وتسمع به بعد الوقرة وتنقاد به بعد المعاندة)(3).

فالذكر يجلي القلوب وينظفها، ويجعلها مهيأة لاستقبال الفيض الإلهي؛ إذ لو بقيت القلوب على كدورتها، لما كانت لها القابلية على استقبال الفيض من الله عزوجل، والقرآن الكريم يؤكد على مسألة الذكر، فيقول تبارك وتعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً)(4).

ويقول سبحانه: (إِلاَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً)(5).

ويقول جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً)(6).

ثم أن الفائدة الثانية للذكر هي الاطمئنان، أي سكون القلب بذكر الله، والاطمئنان وذهاب القلق عنه كما يقول الله سبحانه: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(7). فإذا اطمأن القلب كان مستعداً لنيل واستيعاب واستقبال النعم والفيوض الإلهية العظيمة.

وقد جاء في مجمع البيان(8) للطبرسي (رحمه الله) في تفسير هذه الآية المباركة: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) معناه الذين اعترفوا بتوحيد الله على جميع صفاته ونبوة نبيه وقبول ما جاء به من عند الله، وتسكن قلوبهم بذكر الله، وتأنس إليه... وقد وصف الله المؤمن ههنا بأنه يطمئن قلبه إلى ذكر الله، ووصفه في موضع آخر بأنه إذا ذكر الله وجل قلبه، لأنه المراد بالأول أنه يذكر ثوابه وأنعامه وآلاءه التي لا تحصى وأياديه التي لا تجازى فيسكن إليه وبالثاني أنه يذكر عقابه وانتقامه فيخافه ويوجل قلبه.

العناية التامة بالنوافل والمستحبات

أي أن مرحلة المحافظة على الفروض في أوقاتها تكون عنده من المسلمات، ومن الأمور العادية التي تصبح جزء من سلوكه اليومي، ثم العناية بالنوافل، فانها تقرّب الإنسان المؤمن من ربه أكثر وتجعله يلتصق بالحب الإلهي، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (قال الله تعالى: ما تحبب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وانه ليتحبب إلي بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، إذا دعاني أجبته، وإذا سألني أعطيته، وما ترددت في شيء أنا فاعله كترددي في موت مؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته)(9).

صلاة الليل

ومن أفضل النوافل هي صلاة الليل لما لها من آثار عظيمة تنعكس على روح الإنسان، وازدياد إيمانه، وارتفاع شأنه في الدنيا والآخرة.

فقد نَزَلَ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) عَلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) فَقَالَ لَهُ: ( يَا جَبْرَئِيلُ عِظْنِي) فَقَال: يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّت، وأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، واعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مُلاقيهِ، شَرَفُ الْمُؤْمِنِ صَلاتُهُ بِاللَّيْلِ وعِزُّهُ كَفُّ الأَذَى عَنِ النَّاسِ(10).

وقَالَ أَبو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) : ( إِنَّ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ ثَلاثَة، التَّهَجُّدَ بِاللَّيْلِ وَ إِفْطَارَ الصَّائِمِ وَ لِقَاءَ الإِخْوَانِ)(11).

وَ قَالَ الإمام الصَّادِق (عليه السلام): (عَلَيْكم بِصَلاةِ اللَّيْلِ فَإِنَّهَا سُنَّةُ نَبِيِّكُمْ ودَأبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ ومَطْرَدَةُ الدَّاءِ عَنْ أَجْسَادِكُمْ)(12) .

وعَنْهُ (عليه السلام) قَالَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ: ( إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وأَقْوَمُ قِيلا)(13) قَالَ (عليه السلام) : (يعني بقوله (وأَقْوَمُ قِيلا) قِيَامُ الرَّجُلِ عَنْ فِرَاشِهِ يُرِيدُ بِهِ اللَّهِ لا يُرِيدُ بِهِ غَيْرَهُ)(14).

ورَوَى جَابِرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ (عليهم السلام): (أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ بِالْقِرَاءة، فَقَالَ لَهُ: أَبْشِرْ، مَنْ صَلَّى مِنَ اللَّيْلِ عُشْرَ لَيْلَةٍ لِلَّهِ مُخْلِصاً ابْتِغَاءَ ثَوَابِ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى لِمَلائِكَتِهِ: اكْتُبُوا لِعَبْدِي هَذَا مِنَ الْحَسَنَاتِ عَدَدَ مَا أَنْبَتَ فِي اللَّيْلِ مِنْ حَبَّةٍ ووَرَقَةٍ وَ شَجَرَةٍ، وعَدَدَ كُلِّ قَصَبَةٍ وَخُوصٍ ومَرْعًى، ومَنْ صَلَّى تُسُعَ لَيْلَةٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ عَشْرَ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٍ وَ أَعْطَاهُ اللَّهُ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، ومَنْ صَلَّى ثُمُنَ لَيْلَةٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ أَجْرَ شَهِيدٍ صَابِرٍ صَادِقِ النيَّةِ وشُفِّعَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ، ومَنْ صَلَّى سُبُعَ لَيْلَةٍ خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ يَوْمَ يُبْعَثُ ووَجْهُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ حَتَّى يَمُرَّ عَلَى الصِّرَاطِ مَعَ الآمِنِينَ، ومَنْ صَلَّى سُدُسَ لَيْلَةٍ كُتِبَ فِي الأَوَّابِينَ وغُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، ومَنْ صَلَّى خُمُسَ لَيْلَةٍ زَاحَمَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ فِي قُبَّتِهِ، ومَنْ صَلَّى رُبُعَ لَيْلَةٍ كَانَ فِي أَوَّلِ الْفَائِزِينَ حَتَّى يَمُرَّ عَلَى الصِّرَاطِ كَالرِّيحِ الْعَاصِفِ ويَدْخُلَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، ومَنْ صَلَّى ثُلُثَ لَيْلَةٍ لَمْ يَبْقَ مَلَكٌ إِلا غَبَطَهُ بِمَنْزِلَتِهِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وقِيلَ لَهُ ادْخُلْ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شِئْتَ، ومَنْ صَلَّى نِصْفَ لَيْلَةٍ فَلَوْ أُعْطِيَ مِلْ‏ءَ الأَرْضِ ذَهَباً سبْعِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ لَمْ يَعْدِلْ جَزَاءَهُ وكَانَ لَهُ بِذَلِكَ عِندَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ رَقَبَةً يُعْتِقُهَا مِنْ وُلْدِ إِسْمَاعِيلَ، ومَنْ صَلَّى ثُلُثَيْ لَيْلَةٍ كَانَ لَهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ قَدْرُ رَمْلِ عَالِجٍ أَدْنَاهَا حَسَنَةٌ أَثْقَلُ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ عَشْرَ مَرَّاتٍ، ومَنْ صَلَّى لَيْلَةً تَامَّةً تَالِياً لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ رَاكِعاً وَ سَاجِداً وذَاكِراً أُعْطِيَ مِنَ الثَّوَابِ مَا أَدْنَاهُ يَخْرُجُ مِنَ الذُّنُوبِ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، وَ يُكْتَبُ لَهُ عَدَدُ مَا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ مِنَ الْحَسَنَاتِ ومِثْلَهَا دَرَجَاتٌ، ويَثْبُتُ النُّور فِي قَبْرِهِ، ويُنْزَعُ الإِثْمُ وَ الْحَسَدُ مِنْ قَلْبِهِ، ويُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، ويُعْطَى بَرَاءَةً مِنَ النَّارِ، ويُبْعَثُ مِنَ الآمِنِينَ، ويَقُولُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى لِمَلائِكَتِهِ: يَا مَلائِكَتِي، انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي أَحْيَا لَيْلَةً ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي أَسْكِنُوهُ الْفِرْدَوْسَ ولَهُ فِيهَا مِائَةُ أَلْفِ مَدِينَةٍ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ جَمِيعُ مَا تَشْتَهِي الأَنفُسُ وتَلَذُّ الأَعْين ولَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالٍ سِوَى مَا أَعْدَدْتُ لَهُ مِنَ الْكَرَامَةِ وَ الْمَزِيدِ والْقُرْبَةِ)(15).

العيش مع القرآن

وكذلك العيش المتواصل مع القرآن قراءة وتدبراً وتأملاً، فقد روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قوله: (قال من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بدمه ولحمه، وجعله الله مع السفرة الكرام البررة، وكان القرآن حجيجاً عنه يوم القيامة، ويقول: يا رب إن كل عامل قد أصاب أجر عمله إلا عاملي فبلّغ به كريم عطاياك، فيكسوه الله عزوجل حلتين من حلل الجنة، ويوضع على رأسه تاج الكرامة، ثم يقال له: هل أرضيناك فيه؟ فيقول القرآن: يا رب، قد كنت أرغب له فيما هو أفضل من هذا، قال: فيعطي الأمن بيمينه والخلد بيساره ثم يدخل الجنة، فيقال له: إقرأ آية واصعد درجة، ثم يقال له: بلغنا به وأرضيناك فيه؟ فيقول: اللهم نعم، قال: ومن قرأ كثيراً وتعاهده من شدة حفظه أعطاه الله أجر هذا مرتين)(16). فإن القرآن يعطي أهم صفة للموقنين، وهي عدم نسيانهم الآخرة، مما يدعوهم دوماً إلى العمل والجد والاجتهاد وعدم التقصير، لأنهم يرون ما لا يراه الآخرون: (وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)(17). فالاستمرار بالنوافل، سواء كانت (أدعية أو صلوات) تقرّب العبد من ربه، وتجعله على يقين بربه، وللنوافل آثار عديدة، منها: الابتعاد عن الماديات، والقرب من الغيب عبر المناجاة والصلوات، والعيش بالقرب من الغيب أو الاستشعار به دائماً يلهم المؤمن يقيناً ثابتاً، وذكراً متواصلاً لله عزوجل: (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ)(18).

خطبة المتقين

وهنا نذكر أروع ما قيل في صفة المتقين على لسان مولى المتقين والموحدين أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد جاء في نهج البلاغة(19):

رُوِيَ أَنَّ صَاحِباً لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يُقَالُ لَهُ هَمَّامٌ كَانَ رَجُلاً عَابِداً فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صِفْ لِيَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ فَتَثَاقَلَ (عليه السلام) عَنْ جَوَابِهِ ثُمَّ قَالَ: (يَا هَمَّامُ، اتَّقِ اللَّهَ وَأَحْسِنْ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا والَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) فَلَمْ يَقْنَعْ هَمَّامٌ بِهَذَا الْقَوْلِ حَتَّى عَزَمَ عَلَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) ثُمَّ قَالَ (عليه السلام):

(أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ، آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لأَنَّهُ لا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ، وَ لا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ. فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ، ووَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ. فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ. مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ، وَمَلْبَسُهُمُ الاقْتِصَادُ، وَمَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ، غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، ووَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ، نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلاءِ كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخَاءِ، وَلَوْ لا الأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ، شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ وَ خَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ، عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ، وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ، قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وَشُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ، وَأَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ، وَحَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ، وَأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ، صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً، تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ أَرَاَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا وَأَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ تَالِينَ لأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلاً يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً وظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ وَظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِمْ وَأَكُفِّهِمْ وَرُكَبِهِمْ وَأَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ يَطْلُبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ وَأَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ قَدْ بَرَاهُمُ الْخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى وَمَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ وَيَقُولُ لَقَدْ خُولِطُوا وَلَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ لا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ وَلا يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ فَهُمْ لأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي وَ رَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنِّي بِنَفْسِي اللَّهُمَّ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ وَاجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ وَاغْفِرْ لِي مَا لا يَعْلَمُونَ فَمِنْ عَلامَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِينٍ وَحَزْماً فِي لِينٍ وَإِيمَاناً فِي يَقِينٍ وَحِرْصاً فِي عِلْمٍ وَعِلْماً فِي حِلْمٍ وَقَصْداً فِي غِنًى وَخُشُوعاً فِي عِبَادَةٍ وَتَجَمُّلاً فِي فَاقَةٍ وَصَبْراً فِي شِدَّةٍ وَطَلَباً فِي حَلالٍ وَنَشَاطاً فِي هُدًى وَتَحَرُّجاً عَنْ طَمَعٍ يَعْمَلُ الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَهُوَ عَلَى وَجَلٍ يُمْسِي وَهَمُّهُ الشُّكْرُ وَيُصْبِحُ وَهَمُّهُ الذِّكْرُ يَبِيتُ حَذِراً وَيُصْبِحُ فَرِحاً حَذِراً لِمَا حُذِّرَ مِنَ الْغَفْلَةِ وَفَرِحاً بِمَا أَصَابَ مِنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ إِنِ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيمَا تَكْرَهُ لَمْ يُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِيمَا تُحِبُّ قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيمَا لا يَزُولُ وَزَهَادَتُهُ فِيمَا لا يَبْقَى يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمِ وَالْقَوْلَ بِالْعَمَلِ تَرَاهُ قَرِيباً أَمَلُهُ قَلِيلاً زَلَلُهُ خَاشِعاً قَلْبُهُ قَانِعَةً نَفْسُهُ مَنْزُوراً أَكْلُهُ سَهْلاً أَمْرُهُ حَرِيزاً دِينُهُ مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ مَكْظُوماً غَيْظُهُ الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ وَالشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ وَإِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ وَيُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ وَيَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ بَعِيداً فُحْشُهُ لَيِّناً قَوْلُهُ غَائِباً مُنْكَرُهُ حَاضِراً مَعْرُوفُهُ خَيْرُهُ مُدْبِراً شَرُّهُ فِي الزَّلازِلِ وَقُورٌ وَفِي الْمَكَارِهِ صَبُورٌ وَفِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ لا يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ وَلا يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ لا يُضِيعُ مَا اسْتُحْفِظَ وَلا يَنْسَى مَا ذُكِّرَ وَلا يُنَابِزُ بِالأَلْقَابِ وَلا يُضَارُّ بِالْجَارِ وَلا يَشْمَتُ بِالْمَصَائِبِ وَلا يَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ وَلا يَخْرُجُ مِنَ الْحَقِّ إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ وَإِنْ ضَحِكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ وَإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَقِمُ لَهُ نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ وَ النَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ أَتْعَبَ نَفْسَهُ لآخِرَتِهِ وَأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ ونَزَاهَةٌ وَدُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ لِينٌ وَرَحْمَةٌ لَيْسَ تَبَاعُدُهُ بِكِبْرٍ وَعَظَمَةٍ وَلا دُنُوُّهُ بِمَكْرٍ وَخَدِيعَةٍ).

قَالَ: فَصَعِقَ هَمَّامٌ صَعْقَةً كَانَتْ نَفْسُهُ فِيهَا فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ(عليه السلام):

(أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَهَكَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ الْبَالِغَةُ بِأَهْلِهَا فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ فَمَا بَالُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ (عليه السلام): وَيْحَكَ إِنَّ لِكُلِّ أَجَلٍ وَقْتاً لا يَعْدُوهُ وَسَبَباً لا يَتَجَاوَزُهُ فَمَهْلاً لا تَعُدْ لِمِثْلِهَا فَإِنَّمَا نَفَثَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِكَ).

الاهتداء بنور أهل البيت (عليهم السلام)

من أهم الأمور الموصلة إلى اليقين التام والانقطاع إلى الله تعالى هو ملازمة أهل البيت (عليهم السلام) ـ وهم أولياء الله عزوجل ـ في حياتهم، والسير على خطاهم بعد مماتهم. والابتعاد عن أعداء الله، الذين

لا تكون خطواتهم معبرة عن الإيمان الأصيل، ولا يكون تحركهم ضمن الإطار الإسلامي والمذهب الحق، فان الابتعاد عن مواطن الشبهة والشك، والركون كلياً إلى آل الله، وهم آل محمد (صلوات الله وسلامه عليهم) يزيل كل اضطراب وقلق نفسي، ويرفع كل وساوس الشيطان.

نعم، الولاء لهم (عليهم السلام) أيضاً متفاوت، فليس كل الناس في ولائهم متساوين، بل هناك درجات ومراتب في حب أولياء الله، كما هو الحال في الإيمان، فهناك من يحبهم على حرف واحد، فان أصابه شرٌّ مال عنهم إلى غيرهم، وهناك من يحبهم لأنهم شفعاؤه، وهناك من يحبهم لأنهم أنوار الله وأصفياؤه، ولأنهم ظُلموا أو عذبوا، فحبه لهم ليس في مقابل شيء.

وهناك مرحلة من الحب والولاء رفيعة وهي حبهم (عليهم السلام) لأنهم مصدر الفيض، وان جميع الممكنات في هذا العالم تستمد فيضها ونعمها ووجودها من أصل أنوارهم الطاهرة (صلوات الله عليهم أجمعين)، وهذا القدر من الحب والولاء هو الذي يحدد تحرك الإنسان، وكذلك تطابق عمله وسلوكه مع أولياء الله، فكلما ازداد المرء حباً لهم عن وعي وعلم، كلما ازداد يقيناً؛ لأن روحه سوف تكون مستعدة لقبول فيوض الإمام (عليه السلام) عليه، ومهيأة للتحلي بدعاء الإمام لها بالخير والفضيلة.

المرتابون

كلما ازداد المؤمن إيماناً بهم ازداد ثباتاً ورسوخاً في إيمانه ويقينه؛ لأنهم باب الله، فمن شك فيهم، أو ارتاب في ولايتهم، ظل قلبه غير مستقر، وتذبذب إيمانه، لأنهم كانوا يمثلون أعلى درجات اليقين فمن تبعهم لابد أن يكون في تابعيته لهم على يقين أيضاً.

فعن زرارة أنه قال: دخلت على أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، وعن يمينه سيد ولده موسى (عليه السلام) وقدامه مرقد مغطى، فقال (عليه السلام) لي: (يا زرارة، جئني بداود بن كثير الرقي وحمران وأبي بصير) ودخل عليه المفضل بن عمر، فخرجت وأحضرته من أمرني بإحضاره، ولم يزل الناس يدخلون واحداً إثر واحد حتى صرنا في البيت ثلاثين رجلاً، فلما حشد المجلس، قال: (يا داود، اكشف لي عن وجه إسماعيل) فكشف عن وجهه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): (يا داود، أحي هو أم ميت؟)، قال داود: يا مولاي، هو ميت، فجعل يعرض ذلك على رجل رجل، حتى أتى على آخر من في المجلس وانتهى عليهم بأسرهم كل يقول: هو ميت يا مولاي، فقال: (اللهم اشهد)، ثم أمر بغسله وحنوطه، وإدراجه في أثوابه، فلما فرغ منه قال للمفضل: (يا مفضل، إحسر عن وجهه) فحسر عن وجهه، فقال (عليه السلام): (أحي هو أم ميت؟)، فقال: ميت، قال: (اللهم اشهد عليهم) ثم حمل إلى قبره فلما وضع في لحده، قال: (يا مفضل، اكشف عن وجهه) وقال للجماعة: (أحي هو أم ميت؟) قلنا له: ميت. فقال: (اللهم اشهد واشهدوا فانه سيرتاب المبطلون يريدون إطفاء نور الله بأفواههم ـ ثم أومأ إلى موسى (عليه السلام) ـ والله متم نوره ولو كره المشركون)، ثم حثونا عليه التراب ثم أعاد علينا القول، فقال: (الميت المحنط المكفن المدفون في هذا اللحد من هو؟) قلنا: إسماعيل، قال: (اللهم اشهد) ثم أخذ بيد موسى (عليه السلام) وقال: (هو حق والحق منه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها)(20).

ولكن بعد وفاة الإمام الصادق (عليه السلام) نرى أن طائفة كبيرة تدعي أن الإمامة في إسماعيل، وإنه غائب، وليس بميّت، وهذا الأمر يدلل على عدم الإخلاص في الولاء، مما يؤدي إلى الانحراف في العقيدة والسلوك؛ إذ أن الانضباط والإخلاص في اتباع الأولياء (عليهم السلام) من العوامل المهمة والرئيسية في مسيرة الكمال الإنساني، لأنهم يضعون لنا الخطوط العريضة، والقواعد الرئيسية، والخطوات المطلوبة في المسيرة، وأيضاً يضعون الإشارات الحمراء، ويشخصون مناطق الخطر، فإذا زاغ الإنسان عن متابعتهم اختلطت عليه المراحل، وانعدمت عنده الرؤية الصافية، فتبدأ مرحلة الانحراف، وبالتالي الخروج من جادة الحق والصواب، وعدم الوصول إلى الهدف المنشود.

اللهم صل على محمد وآل محمد، وتفضّل علي اللهم وأنطقني بالهدى، وألهمني التقوى، ووفقني للتي هي أزكى، واستعملني بما هو أرضى، اللهم أسلك بي الطريقة المثلى، وأجعلني على ملتك أموت وأحيا(21).

غرر الحكم ودرر الكلم: ص189 ح3639 الفصل الثاني في الذكر.

غرر الحكم ودرر الكلم: ص189 ح3631 الفصل الثاني في الذكر.

غرر الحكم ودرر الكلم: ص189 ح3636 الفصل الثاني في الذكر.

سورة الأعراف: 205.

سورة الشعراء: 227.

سورة الأحزاب: 41.

سورة الرعد: 28.

معجم البيان: المجلد3 ص290 تفسير سورة الرعد.

المحاسن: ص291 ب47 ح443.

10ـ من ‏لا يحضره‏ الفقيه: ج1 ص471 ح136.

11ـ من ‏لا يحضره ‏الفقيه: ج1 ص472 ح136.

12ـ تهذيب الأحكام: ج2 ص120 ب23 ح2.

13ـ سورة المزمل: 6.

14ـ الكافي: ج3 ص446 ح17.

15ـ من ‏لا يحضره ‏الفقيه: ج1 ص475 ح137

16ـ ثواب الأعمال: ص100 ثواب من قرأ القرآن وهو شاب

17ـ سورة البقرة: 4.

18ـ سورة الأنبياء: 49.

19ـ نهج البلاغة، الخطبة 193.

20ـ غيبة النعماني: ص327 ب22 ص327 ح8.

21ـ الصحيفة السجادية: الدعاء العشرون، من دعائه (عليه السلام) في مكارم الأخلاق.