الفهرس

المؤلفات

الحقوق والقانون

الصفحة الرئيسية

 

القانون وأقسامه

تعريف القانون:

القانون قد يطلق بالمعنى العام، مثل: اطلاق الإنسان على الكلي الشامل للأفراد الخارجية.

وقد يطلق على المصاديق الخارجية لهذا الكلي العام، مثل: القانون التجاري، والقانون المدني، والقانون الدولي، وقانون الأحوال الشخصية وما أشبه ذلك.

إذن: فإن للقانون ماهية، ومقومات، وأقسام، ونحن في هذا الكتاب لم نهتم بالمزايا الإصطلاحية، وانما نهتم بعرض القانون الإسلامي، فلسفة، وقانوناً، ومصدراً، وجزئيات خارجية، على نحو الكلية - إذ هناك كلي فوقه كلي آخر - أو على نحو الجزئية، كأفراد ومصاديق.

وربما مست الحاجة إلى ذكر بعض الاُمور الجانبية والهامشية استطراداً، أو اطراداً في استطراد، وذلك لما لتلك الاُمور من نوع ارتباط بالبحث.

وربما عرّف القانون بعض: بأنه معرفة كلما يلزم على الإنسان أن يعمله، تجاه نفسه، وتجاه ربّه، وتجاه اُسرته، وتجاه محيطه، وتجاه الطبيعة حيواناً أو نباتاً أو جماداً، فقد قال علي عليه السلام: انكم مسؤولون حتّى عن البقاع والبهائم (1).

وعلى هذا: فالقانون بهذا المعنى يشمل الشريعة بمختلف فروعها الفقهية والأخلاقية والتربوية مما يعم قانون الفرد والحكومة في مختلف مجالات الحياة: الإجتماعية والإقتصادية والتجارية وغيرها.

وحيث ان المهم عندنا فقه القانون على الاُسلوب الشرعي الإسلامي، فلا يهمّنا البحث عن القانون اليوناني، أو الروماني، أو الفُرْس القديم، أو قوانين حمورابي، أو ما أشبه ذلك.

إذ في نظرنا ان شريعة اللّه المتمثّلة في صيغتها الأخيرة وهو الإسلام، هي وحدها التي يجب أن يعتنى بها دون ما سواها.

والبلاد الإسلامية من اليوم الذي أخذت فيه بتلك القوانين البائدة، تحطّمت هذا التحطّم الذي لا مثيل له في تاريخ الإسلام الطويل، ولذا فإن أراد المسلمون العزّة فاللازم أن يرجعوا إلى قوانينهم المبنية على الأدلة المتينة التي تقدّمت الإشارة إليها.

 أصل لفظ القانون 

ثم انهم قد اختلفوا في انّ لفظ القانون هل هو عربي، أو دخيل؟ أي: من قبيل القسطاس وقسورة - ولا يهمّنا البحث عن ذلك في هذا المقام - لأنّه على كل حال قد صار فعلاً عربيّاً، كما هو شأن كل اللغات بالنسبة إلى الدخيل الذي صار جزءاً من تلك اللغة.

ولا فرق في تسمية القانون قانوناً، أن يكون أولياً أو استثنائياً، فالمستثنى قانون في ظروفه، كما ان المستثنى منه قانون في ظروفه أيضاً.

وممّا تقدَّم يعرف: ان القانون عبارة عن مجموعة من القواعد التي تنظّم علاقات الفرد مع نفسه أو مع مجتمعه - بقطع النظر عن علاقات الفرد مع اللّه سبحانه فيما نعتقده نحن الإلهيّون، أو علاقات الفرد مع ما يعبده أو يعتقد به من غير الإلهيين، فعبّاد البقر مثلاً يعتقدون بلزوم الإستشفاء يوم العيد ببول البقر، فهذا قانون عندهم فقط، فيخصّهم ولا يشمل غيرهم - فإنه إذا صار شيء قانوناً بالمعنى الأخصّ، الذي يشمل الايجاب والسلب المانعَيْن عن النقيض، فإنه يُقسر ذلك على اتباعه فقط دون غيرهم ممّن لا يعتقد بذلك المبدأ الذي تفرع منه ذلك القانون.

وانما ذكرنا هذا الشرط الأخير، لأنه لا يُـقسر غير الاتباع، بل لغيرهم أن يأتي بما في قانونه الخاص به، وهذا ما نسميه بقانون الإلزام فغير المسلم - مثلاً - لا يُـقسر على عدم شرب الخمر، كما ان المسلم في بلاد غير المسلمين لا يُـقسَر على شرب الخمر، وما أشبه ذلك.

ومن ذلك ظهر: ان كون القانون قاعدة عامة، لا يراد به: لزوم انطباق القاعدة على كل أفراد المجتمع. لا في المستثنى ولا المستثنى منه، فقد تكون القاعدة لطبقة معيّنة - حسب ما وصفه المشرّع سواء كان اللّه سبحانه، كما نعتقده، أم الفئة التشريعية -.

فالقاعدة التي تنظّم كيفية عمل الفقهاء، أو الخطباء، أو الأطباء، أو التجّار، أو الزرّاع، أو الصنّاع، أو العمّال، تسمّى قانوناً، فما دام الإنسان متّصفاً بتلك الصفة يكون مشمولاً لتلك القاعدة (القانون) فإذا خرج عن ذلك الوصف لم يشمله ذلك القانون لأنه صار من السالبة بانتفاء الموضوع، فإذا دخل في وصف آخر، - كالمحامي يصير طبيباً- شمله قانون المنتقل إليه.

وهذا لا يعني إمكان الإنتقال، بل الأمر كذلك وإن لم يُمكن إنتقال، أو كان الإنتقال لازماً، فالأول: كقوانين النساء، وقوانين الرجال، والثاني، كقوانين الأطفال وقوانين الكبار.

ثم ان القانون قانون وإن انطبق حكمه على شخص واحد، كمرجع التقليد إذا فرض كونه واحداً فقط، فإن القانون يقول: يجب أن يكون مجتهداً عادلاً، إلى آخره، ومثله أيضاً في القوانين الوضعية مثل قانون صلاحيات رئيس الوزراء، أو رئيس الجمهورية، أو ما أشبه ذلك.

نعم، إذا استعمل ذو الصلاحية صلاحيَّته في عزل أو نصب أو ما أشبه، مثل: عزل وكيل أو نصبه، أو تعطيل صحيفة، أو ما أشبه، لم يسم ذلك قانوناً، بل هو من باب تطبيق الكبرى على الصغرى الخاصة.

ومن ذلك يعرف: ان التكرُّر في الصغريات لا يجعلها قانوناً، وانما القانون هو القاعدة العامة التي تكون تلك الصغريات مصاديق لها.

منشأ حدوث القانون في الإسلام 

القانون إنما نشأ من احتياجات الإنسان الجسدية والروحية، وذلك من غير فرق بين ما قررّه اللّه سبحانه من القانون، أو ما قرره الزاعمون للإصلاح من البشر، فليس خلاف في الكبرى وانما في الصغرى والتطبيق.

فلا فرق بين الأديان السابقة ودين الإسلام وبين القوانين المستندة إلى مختلف الفلسفات في انهم يريدون خير الإنسان - سواء كان الخير الواقعي أو المزعوم - والبحث والتنقيب هو الوسيلة الوحيدة لتمييز الصالح من غير الصالح، والكل يرضخ للحق إذا وجده بشرط التجرد عن الهوى.

وأُصول الإحتياجات الجسدية المستدعية لوضع القانون عشرة وهي:

المسكن، والملبس، والمركب، والطعام: من الماء، والغذاء، والدواء، والزوجة ـ أو الزوج ـ والأولاد، ووسائل الراحة والجمال، والتجمّع.

فإن كل واحد من هذه الأمور هو ما يطلبه الإنسان ويحتاج إليه، فاللازم على القانون أن يوفـّره حسب مختلف المستويات.

ومنها تشعّبت المهن والحرف وملايين الأدوات والآلات، من غير فرق بين أصحاب الكهوف والصحاري والمدن وغيرها، سوى أن لكل واحد منهم، جملة ما يلائمه، حسب مناخه وتقاليده وشرائط حياته.

كما أن أصول الإحتياجات الروحية عشرة أيضاً وهي:

الإيمان، والعلم، والفضيلة، والتقوى، والتقدم، والامن، والاستقلال، والحرية، والمساواة، والعدالة.

وكما أن الروح والجسد متشابكان يؤثر كل واحد منهما في الآخر صحة وسقماً وحركة وسكوناً، كذلك الحاجات المذكورة متشابكة فبعضها أولاً وبالذات مربوط بالروح، وثانياً وبالعرض مربوط بالجسد، وبعضها بالعكس.

والإسلام كما نجده في المتون الأولية وهي: الكتاب والسنة، أعطى كل شيء من هذه الحاجات حقه من القانون الصحيح، والإختلافات الإجتهادية للعلماء لا يضر الجامع، كما هو كذلك بالنسبة إلى سائر القوانين والأديان.

لكن الإسلام يزيد على القوانين ـ كما هي حالة الأديان السماوية الأُخر ـ في أنه يبشر بدار آخرة، ولذا وضع لها سلسلة طويلة من القوانين، وهذه القوانين أمّنت سبل الحياة السعيدة في الدنيا أيضاً، إذ الوازع الداخلي له أهمية قصوى بالنسبة إلى تعديل الحياة وإسعاد البشر بما لا يتمكن القانون من توفيره إطلاقاً.

من مبادىء القانون 

النظام العام، أو المصلحة العامة، أو الآداب والأخلاق، أو العرف العام، ليس من مبادىء القانون ـ كما ذكره واضعوا القوانين الحديثة،.

وانما المعيار: الحقوق التي قرّرها اللّه سبحانه، سواء كانت تسمّى حقاً قابلاً للإسقاط ونحوه أم تسمّى حكماً لا يصح فيه شيء من ذلك، واصطلاح الحق والحكم اصطلاح فقهائي للتمييز بين القسمين المذكورين حسب ما يستفاد من الأدلة.

فمن الاُمور ما يرتبط بالإنسان نفسه، كالإضرار بنفسه إضراراً بالغاً، بأن يعمي عينه أو يصلم اذنه، ومنها ما يرتبط بغيره ممن هو طرفه كحق الزوج على الزوجة بأن لا تطأ فراشه غيره، أو حق ثالث كحق الجنين بين الأبوين، أو حق اللّه سبحانه كأن لا يشرب الإنسان الخمر، وهذه الأقسام الأربعة ليس للإنسان أن يفعله إذا كان تركاً، أو يتركه إذا كان فعلاً، لأن اللّه تعالى جعلها أحكاماً.

إذن: فليس له الحق في الأحكام أن يقول: من حقي أن أفعله لأنه يخصّني، أو لأن الحق لا يعدونا، فإذا رضي الزوج والزوجة بوطي ثالث لها لم يجز لها ذلك، كما ليس للزوج الإذن بذلك، أو لأن الجنين ابني وابنها وكلانا نرضى بإجهاضه، أو لأنّ اللّه كريم لا يضرّه شرب الخمر.

وأمّا ما عدا هذه الاُمور من الحقوق التي ليست أحكاماً ـ حسب الإصطلاح ـ فإذا كان للإنسان نفسه حق، كان له الإسقاط، كحق الزوجة في القـَسْم، أو حق الرجل والمرأة في الزواج، فيما إذا لم تكن هناك بينهما جهة محرّمة، وكذلك حق الثالث بالنسبة إلى الأبوين ـ مثلاً ـ الذين هما مختاران في تفويضهما ولدهما إلى ثالث لحضانته حيث انه سبحانه أعطى الحق لهما في ذلك.

نعم، قد يتدخّل القانون الثانوي اثباتاً أو إسقاطاً، على ما ذكرناه سابقاً، فإذا كان الأصل الإثبات أو الإسقاط، كان للقانون الثانوي المحدود بـ (لا ضرر) ونحوه التدخّل فيه، لكن ذلك بالنسبة إلى قوانين البلاد مشروط بأن يكون تحت إشراف شورى المرجعية، أو مرجع التقليد بالنسبة إلى مقلّديه، وبذلك يظهر: انه لا أثر للنظام العام والآداب وما أشبه ذلك في القوانين، في بلاد الإسلام.

ثم ان الأحكام الشرعية غير القطعية ـ أي: التابعة لاجتهاد مراجع التقليد ـ أمدها بتغيّر رأي المجتهد، أو تغيّر المجتهد، أو تغيّر شورى المرجعية ـ في الأحكام للبلاد.

أما القانون الثانوي الذي وضعه مجلس الاُمّة، أو شورى المرجعية، أو مجلس الأعيان، أو مجلس الوزراء، أو بعض الوزارات والإدارات فيما يخصّهم، فإلغائها بيد الواضع، فإن جعل الواضع له أمداً انتهى بانتهاء ذلك الأمد، وإن لم يجعل له أمداً فإلغائه بيده، حيث يرى تغيّر الموضوع فيغيّر بسببه القانون التابع لذلك الموضوع، فاحياناً يوسّع القانون السابق واحياناً يضيّقه، واحياناً يجعله بحيث يكون بين الأول والثاني عموم من وجه، واحياناً يلغيه اطلاقاً.

النقد على مبادي اُصول القانون 

إذا عرفت ذلك تعرف بُعد ما ذكره البعض(2): من تمنّي توحيد القوانين بالنسبة إلى الكل، وهذا لفظه:

«وحري بنا أن نشير هنا إلى أنّ مبدأ اقليمية القانون، بمعنى: القانون الواحد الساري المفعول على كل من هو مقيم في البلاد، خاضع في العراق ومصر وسورية، وكثير من البلاد العربيّة والإسلاميّة، إلى قيد مهم هو وإن كان في الأصل مظهراً من مظاهر السماحة في التشريع الإسلامي، ولكنّه أدّى في النتيجة إلى خضوع أبناء الوطن الواحد إلى قوانين مختلفة، أو على الأدق شرائع متباينة وذلك فيما يتعلّق (بأحوالهم الشخصيّة وشؤونهم العائلية).

فالمسيحي العراقي يخضع في أحكام الزواج والطلاق (الفُرقة) إلى أحكام غير التي يخضع لها اليهودي العراقي، وهذان يختلفان عما يخضع له المسلم العراقي، بل ان المسيحي الكاثوليكي يخضع لأحكام غير التي يخضع لها المسيحي الارثدوكسي، والمسلم السنّي يخضع لأحكام غير التي يخضع لها المسلم الجعفري.

وقد يبدو هذا الأمر اعتيادياً، لأننا ألفنا هذا الوضع ولكن الغرابة تظهر جلية إذا قارنّا هذا الوضع بالبلاد الأجنبية، فالفرنسي يخضع لأحكام واحدة في شؤونه الشخصية بغضّ النظر عن كونه مسيحياً أو يهودياً أو مسلماً، وبغض النظر عن كون المسيحي كاثوليكاً أو من أيّ مذهب من المذاهب البروتستانية.

وهكذا الحال في انجلترا، لا تمايز بين الأحكام التي يخضع لها الأفراد في هذه الناحية، وشأنها شأن المعاملات المدنية كالبيع والشراء، بل ان بعض القوانين المدنية أدخلت أحكام المواد الشخصية فيها وجعلتها جزءاً لا يتجزّأ من قوانينها المدنية المدوّنة.

ولا سبيل لعمل قانون موحّد في العراق، لأن دستوره قد نصّ على هذه الخلافات وأيّدها بنصوص قاطعة، والسبيل إلى ذلك تعديل الدستور العراقي أولاً، وإلغاء تلك النصوص حتى يظهر العراق بمظهر الدولة المنسجمة ثانياً.

على ان من الحق علينا أن نعترف بشدّة العقبات التي تعترض هذا السبيل، وهي ليست عقبات داخلية فحسب، ولكن الأجانب أنفسهم قد يتّخذون من أيّ محاولة جدّية لصهر المجتمع وتوحيده وسيلة جديدة لإثارة نعرات لم يزل ـ مع الأسف الشديد ـ مفعولها قوياً في بعض الأوساط.

وتحقيق الإنسجام والوحدة ليس ضرورة قوميّة تستدعيها متطلّبات الدولة الحديثة الكاملة السيادة فحسب، بل ان مصالح الإفراد أنفسهم تدعو إلى هذا، وذلك لصدور أحكام متناقضة من محاكم مختلفة، ولايجاد البعض وسائل للتخلص من أحكام لا ترضيهم عن طريق تغيير مذاهبهم أو أديانهم، وفي النتيجة: تغيير القانون الذي يخضعون لحكمه والجهة ذات الإختصاص في النظر في دعواهم.

وهذا الذي نشكو منه، تشكو منه مصر وبعض البلاد العربية الاُخرى الشكوى ذاتها.

ويكون توحيد الجهد في هذه الناحية ـ ككل النواحي الاُخرى ـ مجدياً لكل مشكلة من مشكلاتنا الأساسية التي تتطلب حلاً جذرياً سريعاً».

كيفية تبلور القانون 

ان الدنيا دار خراب وقلب من يعمّرها أكثر خراباً، والحكماء سمّوا هذا العالم: بعالم الكون والفساد، إذ يتكوّن فيه كل شيء ثمّ يفسد.

منتهى الأمر أن التكوّن قد يكون سريعاً والفساد سريعاً أيضاً، وقد يكونان بطيئين، فالخضروات ـ مثلاً ـ تتكوّن سريعاً في أشهر وتفسد في ايام، بينما الشمس تكونت في (ستة ايام) كل يوم ما شاء اللّه، وتفسد في ست مليارات من السنوات ـ على ما حدّده العلم من عمر الشمس ـ حيث انهم قالوا: قد شاخت الشمس ولم يبق من عمرها إلا السدس، واللّه اعلم.

وفي المثل المشهور: «سريع النمو سريع الزوال».

هذا ما نجده فيما وصل إليه علمنا، ولعل هناك للّه سبحانه وتعالى مخلوقات سريعة النمو بطيئة الزوال، أو بطيئة النمو سريعة الزوال.

وعلى ايّ حال: فالقانون أيضاً قد تكوّن ونمى تدريجياً، اما قوانين الإسلام فانها في ابتداء البعثة تدرجت حتى بعد ثلاثة وعشرين سنة على يدي الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، كما في القرآن الحكيم: (اليوم اكملت لكم دينكم..)(3) وثم تدرجت إلى هذا الكمال المشاهد الآن.

لكن فرق بين التدرّج الأول الذي تم خلال ثلاثة وعشرين سنة، والتدرج الأخير الذي لا يزال مستمراً.

فالتدرج الأول: كان في فروع الشريعة.

والتدرج الثاني: كان في توسع الفروع وتعمق الإستنباط.

وأما القوانين الوضعية: فهي الاخرى أيضاً التي كان لها كلا الأمرين، لكن مع نوع من البطوء في كل واحد منهما اكثر من بطوء تدرج الشريعة.

وعلى هذا فللقانون ما يلي:ـ

1 ـ له تطور تاريخي.

2 ـ له غاية اجتماعية وفردية.

3 ـ له موازين في السعة والضيق يحدّدهما خصوصيات السبب، وقدر الغاية.

مثلاً: حدّ الزنا قانون يوجبه الزنا سبباً، ويحدّد بمائة جلدة غاية، ويراد به علاج الفرد ونزاهة المجتمع من الجريمة.

وقد قال الإمام الصادق عليه السلام: « ان اللّه قد جعل لكلّ شيء حدّاً وجعل لمن تعدّى ذلك الحد حداً »(4) فان اُريد من الحد في الجملة الاُولى: « جعل لكل شيء حداً » كل شيء على نحو الإستغراق ـ كما في امثلتهم (عليهم السلام) بحدّ الشرب من ماء الكوز وحدّ الخوان، اُريد بالحد في الجملة الثانية الأعم من حد العقاب القضائي أو الاُخروي أو الإجتماعي بالتقبيح أو المضرة ولو الخفيفة أو نزول الدرجة.

فمن زنى ـ مثلاً ـ عوقب قضاءاً، ودخل النار ان لم يتب في الآخرة، ونفر منه الإجتماع، بينما من شرب الماء قائماً في الليل حيث يكره ذلك ليلاً اضرّ جسده، كما ان ارتكاب بعض المكروهات يوجب نزول درجة الإنسان عند اللّه سبحانه، حيث ان المكروه لم يوضع الا لأحد هذين الأمرين من المضرة الدنيوية أو الاُخروية ـ لكن لا بحدّ العقاب ـ.

وهناك نوع ثالث من المكروهات، مما يكون احتياطاً في الامر، مثل: « لعن اللّه من نام وحده »(5) أو « نام على سطح غير محجّر »(6) او « ركب الفلات وحده »(7) أو « أكل زاده وحده »(8) فالنوم المنفرد أحياناً يوجب وقوع الكابوس على النائم أو ما اشبه ذلك، والنوم على سطح غير محجّر يوجب احياناً سقوطه من السطح وهو غافل، والراكب وحده في الصحراء قد يسلبه لص، أو يفترسه سبع، أو ما اشبه، والآكل زاده وحده دليل خسة النفس وشحّ الطبيعة.

والكل لهم بُعد في الجملة عن اللّه سبحانه أو عن الخير.

لكن ذلك كله من باب الإحتياط، وإلاّ فليس كل من فعل كذا اصابه ذلك، بل من باب العلم الإجمالي والمعرضيّة، فهو في المحرم حرام عقلي بل وشرعي، قال سبحانه: (اجتنبوا كثيراً من الظن ان بعض الظن اثم)(9) وفي المكروه مكروه عقلي أو شرعي، فالعقل يرى الإجتناب لإحتمال المضرة الخفيفة، والشرع يراه كذلك أيضاً على ما عرفت في الرواية السابقة.

ولنرجع للإلماع إلى حديث: الدنيا دار خراب فان من ميزات الدنيا ـ كما هو واضح ـ ان يخرب كل شيء فيها حتى الجبال (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربّي نسفاً)(10).

اما ان القلب اخرب، فلأنه ـ مثلاً ـ يصرف الف دينار لأجل دينار، بينما كان اللازم ان يصرف الف دينار لأجل مليار من الدنانير، فانه « ليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنّة »(11).

القانون العام وتفريعاته 

ان واضعي القوانين قسموا القانون العام ـ على اصطلاحهم ـ إلى أربعة فروع:

1 - القانون الدولي العام.

2 - القانون الدستوري.

3 - القانون الإداري والمالي.

4 - القانون المرافعي والعقابي.

فالأول: عبارة عن العلاقات التي تنشأ ما بين الدول المستقلة كحق السيادة، وحق البقاء، وحق المساواة، وحق الملكية، وحق القضاء، وحق التمثيل الخارجي، وما أشبه ذلك.

وكذلك يبحث القانون الدولي حول الدول تامة السيادة، والدول ناقصة السيادة بسبب حماية أو احتلال، كما يبحث القانون الدولي حول المؤسّسات الدولية كهيئة الاُمم، ومحكمة العدل الدولية، وغيرها من المؤسّسات التابعة للقانون الدولي العام.

وكذلك يبحث القانون الدولي فيما إذا نشبت الحرب بين دولتين، أو إذا احتلت دولة دولة، عن كيفية العلاقات بين الدولتين المتحاربتين والتي لا يجوز استعمالها، والتي يجوز استعمالها، وعن كيفية استعمال الأسلحة، ومعاملة الجرحى والأسرى، والمفاوضات أثناء الحرب، وطرق إنهاء الحرب، وما يجوز وما لا يجوز من مساعدة طرفي المحاربة سلاحاً أو مواداً غذائية أو دوائية، والحصر الإقتصادي و سائر العقوبات الدولية، وعن كيفية قبول اللاجئين من المتحاربين، وسائر خصوصيات اللجوء.

وكذلك يبحث القانون الدولي عن حقوق وواجبات الدول المحايدة، مع الدول الداخلة في الاُمم المتّحدة، وخصوصيات حق النقض (الفيتو) للدول الكبار وما إلى ذلك.

ثم انا قد ذكرنا في بعض الكتب: ان العقل يحكم بخطأ بعض القوانين الدولية والتي منها: حق النقض، ومنها: جعل التساوي بين الدول الكبار والصغار، فدولتان ـ مثلاً ـ كالهند والصين لهما ثلث العالم، ودولتان صغيرتان لهما واحد من ثلاثة آلاف من نفوس العالم، فهل يصح تساويهما في الرأي في الحرب والسلم وما أشبه؟.

بينما مقتضى القاعدة ان يكون الإعتبار بالافراد، ـ فيما يرتبط بهم ـ فدولة لها ألف مليون نسمة يجب ان يكون لها ألف رأي، ودولة لها مليون نسمة يلزم ان يكون لها رأي واحد، وهكذا، إلى غير ذلك.

مصادر القانون الدولي 

اما مصادر القانون الدولي، فهي: الفقه والقضاء، والعرف والعادة الدوليان، والقوانين العقلية العامة، والمعاهدات.

والمراد بالمعاهدات: هي التي تعقد بين الدول لوضع قواعد دولية، ويمضيها عدّة من الدول، او الدول باسرها، ومن نماذجها: ميثاق هيئة الاُمم المتحدة التي اخذت مكان (عصبة الاُمم) فانها هي من تلك المعاهدات.

وغالباً مّا تدخل الدول في هذه المعاهدات، إلاّ دولة لا تريد الدخول بنفسها لإعتبارات عندها، أو لا توافق الدول الكبرى على دخولها في المعاهدة، فسويسرا ـ مثلاً ـ من القسم الأوّل، وذلك لانها اعتبرت ان ذلك يضر بحيادها، لكن الدولة التي لا تدخل في هذه المعاهدات ـ سواء لا تدخلها بنفسها ام بضغط من الخارج ـ تُحرم من فوائد هذه المعاهدات.

هذا بالنسبة إلى المعاهدات الدولية في غير الإسلام.

اما في الإسلام فان المعاهدات الدولية، بالنسبة إلى دولة الإسلام وسائر الدول، انما تقع مورد القبول وتكون ذات فائدة إذا كان لها شرطان:ـ

الأوّل: قبول المعاهدة والموافقة عليها.

الثاني: عدم منع الإسلام عن مثل تلك المعاهدة.

الاّ إذا كانت قاعدة لا ضرر، أو قاعدة الاهم والمهم محكّمة، فللدولة الإسلامية القبول والموافقة عليها، فإذا قبلته ووافقت به لزم عليها الإلتزام بلوازمها كما ذكروه في كتاب الجهاد، لدلالة النص والفتوى عليه.

القانون الدستوري ومعناه 

القانون الدستوري ـ في اصطلاحهم ـ هي: القواعد التي تنظم علاقة الدولة بالفرد من حيث السياسة بمعنى: النظام السياسي في دولة من الدول من حيث تنظيم اسس الدولة وتحديد خصوصيات تكوينها وتكوّنها.

وعلى هذا: فالقانون الدستوري هو الذي يحدّد النظام السياسي للجماعة، او شكل الدولة وانها هل هي ملكية ام جمهورية برلمانية، بمعنى: خضوع الوزارة فيها لرقابة السلطة التشريعية، ام غير برلمانية فتكون الوزارة خاضعة لرئيس الجمهورية ومسؤولة امامه وليس للسلطة التشريعية حق اسقاطها بسحب الثقة عنها؟

كما ان القانون الدستوري هو القانون الذي يبيّن فرق السلطات بعضها عن بعض، ويبيّن علاقة السلطات في الدولة بعضها مع بعض، وكذلك الدساتير الحديثة تبيّن الحقوق الفردية في الحرية، وفي الإقتصاد، و في الإجتماع، وما إلى ذلك.

والقانون الإداري هي مجموعة القواعد التي تعيّن التنظيم الإداري للدولة، والروابط القانونية التي تنشأ بينها وبين الأفراد في سبيل قيامها بوظيفتها والمبادىء القانونية التي وضعت للمنازعات بينها وبينهم في هذا السبيل.

وعلى هذا: فالقانون الدستوري يبيّن كيفية تكوّن الآلة الحكومية إلى القانون الإداري، ويبيّن كيف تشير هذه الآلة، وكيف يقوم كل جزء منها بوظيفتها الخاصة، فهو يتولّى نظام الحكومة المحلية ومجالس البلدية، وكل ما يتّصل بشؤونها ومجالس اللواء، والمجالس الإدارية، والمرافق العامة: من شؤون التعليم والصحّة، والمواصلات السلكية واللاسلكية، والكهرباء والبريد، والقضاء والدفاع، والأمن والشؤون الإجتماعية، وتنظيم الموظفين الذين يقومون بتحريك الجهاز الإداري، ويحدّد العلاقات بين المركز والأقاليم، إلى غيرها من المهام الكثيرة الملقاة على أكتاف الدولة، والتي من أهمّها: شؤون المركزية واللامركزية.

ولهذا يعدّ بحث (المركزية) أو (اللامركزية) الإدارية من أهم موضوعات القانون الإداري، فمن الدول ما تسير على نظام المركزية الشديدة بحيث تجتمع السلطة في يد الهيئة الإدارية المركزية، ولا تعطي الهيئات المحلية إلاّ قسطاً صغيراً من الإستقلال، وهكذا تستحيل تلك الهيئات إلى أدوات لتنفيذ مشيئة السلطة المركزيّة.

ويجري البعض الآخر على مبدأ اللامركزية، يعني: تترك السلطة المركزية قسطاً كبيراً من اختصاصاتها للهيئات المحلية بحيث تتمتّع هذه الهيئات بقسط وافر من الإستقلال، على ان الطابع الأساسي في النظام اللامركزي هو: كون الموظّفين المحليّين منتخبين من قبل سكّان الأقاليم أنفسهم، لا معيّنين من قبل الحكومة المركزية تعييناً مباشراً.

أما المنازعات التي تقوم بين الحكومة والأفراد، أو بين بعض إدارات الحكومة وبعضها الآخر، فعند المشرِّعين بالنسبة إليها خلاف في انه هل اللازم جعل قضاء خاص لهم؟ كما في بعض بلاد الغرب وتبعهم بعض بلاد الإسلام، أو القضاء العام كاف لذلك، كما في البعض الآخر من بلاد الغرب، وتبعهم البعض الآخر من بلاد الإسلام أيضاً؟ الأقرب إلى بساطة الإسلام ـ في كل أجهزته ـ هو الثاني.

لا يقال: ان القضاء لا يعرف غالباً خصوصيات الإدارات وأنواع المنازعات.

لأنه يقال: أولاً: غير الغالب مما يعرفه كاف في الأمر.

وثانياً: يستعين القاضي بالخبراء في هذه الجهة، كما يستعين بالخبراء في الإقتصاد، وفي السياسة، وفي غيرهما لو راجعوه في هذه الشؤون.

وعلى هذا: فلو حدثت منازعة بين الحكومة والشعب كما إذا أرادت الحكومة ـ مثلاً ـ فتح شارع لأنها رأته ضرورياً، وعارضها أصحاب البيوت والمحلات لأنهم لم يروه ضرورياً، تنازعا إلى القضاء، وكذلك لو حدثت منازعة بين دائرة حكومية ودائرة اُخرى.

ثم ان اللامركزية هو الأقرب إلى نظر الإسلام، من جهة البساطة، وسرعة التنجيز التي هي أقرب إلى احترام الإنسان مالاً ووقتاً، بالإضافة إلى عدم هدر أموال الدولة في الرجوع إلى المركز ذهاباً ومجيئاً بما يستلزم ذلك من الأموال والأوقات والموظفين والأجهزة وما أشبه ذلك.

مضافاً إلى ان كيفية حكومة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام كانت على نحو اللامركزية كما لا يخفى ذلك على من له إلمام بهذا الجانب.

وأما في زماننا الحاضر: فحيث يراد توحيد بلاد الإسلام وإحياء الاُمة الواحدة، وإرجاع الاُخوّة الإسلامية، وتوفير الحريات الإسلامية ـ على ما سبق الإلماع إليها ـ يكون اللامركزية أقرب إلى كل ذلك، خصوصاً والبلاد شاسعة، والأقوام مختلفة، والألسنة متباينة، والحدود الطبيعية من الجبال والبحار والغابات ونحوها عائقة.

القانون المالي للدولة 

ثم ان القانون المالي للدولة يبحث في ميزانية الدولة، وهي تنقسم إلى قسمين أساسيّين: الواردات والمصروفات.

أمّا الواردات فتتأتّى من مصادر عديدة أهمّهما: الضرائب الأربع ـ التي سبق الإلماع إليها ـ وكذلك ما تحصل عليه الدولة من عوائد، أو ما تستوفيه من اُجور الخدمات التي تؤديها إلى الأفراد، أو ما يتأتى لها من حيازة المباحات بشرط أن لا تمنع الناس عن ذلك، والتجارات كذلك، وغيرها.

أما المصروفات فتحدّدها الميزانية، وتكون لسدّ حاجات الدولة الأساسية، وتحقيق الإصلاحات الإجتماعية، والإقتصادية، وتقدم الشعب في جميع مجالات الحياة، التي لا يمكن تحقيقها دون بذل المال.

وأخيراً يأتي قانون العقاب، وانه ما هو العقاب؟ وما هي طرق إثباته؟ وعلى من يقع العقاب؟ ولماذا يكون العقاب؟ ومن يقوم بالعقاب؟ وقد تناول في الإسلام هذا القانون ـ على الأغلب ـ في كتاب: الحدود والقصاص والديات، كما وتناول شيء منه في كتاب: الجهاد.

وذلك لأن العقاب قد يكون فردياً كالذي وضع على من اغتصب فتاة، وقد يكون اجتماعياً كالذي وضع على من حمل السلاح وجمع الجموع لإسقاط الحاكم والحكومة، أو الإخلال بالنظم والأمن، وقد يكون من دولة خارجية، كما في حرب غير المسلمين مع المسلمين، ولذلك جاء بعض العقوبات مدوّناً في الكتب الثلاثة الاُول، وبعضها في الكتاب الأخير، وحيث قد تقدم الإلماع إلى بعض الاُمور المربوطة بالعقاب لا داعي لتكراره.

الحاجة إلى القانون 

انما احتاج الإنسان إلى القانون لأنه انسان، له حوائج فردية واجتماعية في مختلف الجوانب.

وليس كما قال الاغريق: لأنه مدنيّ بالطبع فيحتاج إلى تحقيق متطلّبات الإجتماع، والمتطلّبات لا يمكن جعلها في المسار الصحيح إلاّ بالقانون.

وذلك لأنه لو فرض ان انساناً عاش وحده في غابة أو كهف لاحتاج أيضاً إلى القانون الذي ينظم سلوكه مع نفسه، مضافاً إلى القانون الذي ينظّم سلوكه مع خالقه ومع الكون بصورة عامّة.

وبذلك ظهر: ان قول بعض الفلاسفة: انه لو كان المجتمع مثاليّاً مكوّناً من الفلاسفة لم يحتج إلى القانون، غير تام.

كيف ولنفرض ان كل اُولئك الفلاسفة كانوا في أعلا درجات العدالة والنزاهة، أفليس اختلاف الآراء يوجب بينهم التخاصم والتدافع؟ أوليس ذلك بحاجة إلى قانون يقرّره من هو فوقهم - إذا اعتقدوا به - أو يقرّره أكثريّتهم، إذا كانوا يرون ذلك، أو حسب القرعة أو أيّ ميزان آخر يتّفقون عليه؟

إذن: فالقانون لازم لتنظيم شؤون المجتمع، مهما كان المجتمع بدائياً، أو متوسّطاً، أو مثالياً وفي غاية السموّ والرفعة، حيث ان اللازم أن يكون هناك مقياس لسير الفرد والإجتماع في مختلف جوانب الحياة - وهذا هو معنى القانون -.

وما ذكرناه هنا هو مقصودنا بالقانون في هذا الكتاب، وإلاّ فالقانون قد يطلق لغة على القاعدة المطّردة سواء في العلوم الإجتماعية، أم السياسية، أم الطبيعية، أم غير ذلك.

وبهذا المعنى يقال: قانون الجاذبية وقانون ارخميدس وقانون العرض والطلب، وقانون كراشام في النقود، والقانون الرياضي، وغير ذلك.

وبهذا المعنى أيضاً سمّى ابن سينا كتابه في الطب باسم: (القانون) كما سمّى المحقّق القمي قدس سره كتابه في علم الاُصول: (القوانين) وقال الحكيم السبزواري وهو يعرّف المنطق في منظومته:

قانون آليُّ يقــى رعايته

عن خطأ الفكر وهذا غايته

فسمّى المنطق قانوناً.

وقد يطلق لفظ القانون على فرع من فروع القانون العام الذي ذكرناه مثل: القانون المدني، أو قانون العقوبات، أو قانون الأحوال الشخصية أو غير ذلك.

وعلى هذا: فللقانون ثلاث اطلاقات: عام، وخاص، وأخص، والقرائن الحالية والمثالية هي التي تعيّن المراد به.

القانون الأسمى 

قد تقدّم: ان القانون قد يكون - بالأخرة - للفرد، وقد يكون للمجتمع، لكن الغالب انه تنظيم روابط المجتمع بعضه مع بعض، من غير فرق بين أن يكون لأجل حياة الإنسان العائلية، أو الإجتماعيّة، أو الإقتصادية، أو الأحوال الشخصية، أو علاقة الحاكم بالمحكوم، أو بالعكس، أو العلاقات الدولية، أو ما أشبه ذلك.

وعليه: فكل من الميراث، والزواج، والطلاق، والقضاء، والشهادات، والبيع، والإجارة، والرهن، والمزارعة، والمساقاة، والمضاربة، وغيرها من العقود والايقاعات كلّها داخلة في هذه الكلّية.

وحيث انا نرى صحّة الإسلام ومطابقته للواقع في كل ما قاله من الكليّات والجزئيات، فقانونه صحيح في كل الشؤون، وهو متوسّط بين المذهبين الذين سادا بلاد الغرب والشرق، من المذهب الفردي الذي يعطي للفرد على حساب تقليص الجماعة، والمذهب الإشتراكي الذي هو بالعكس، وقد ظهر الإشكال في كلا المذهبين، ولذا مال الرأسماليون الفرديون إلى شيء من الإشتراكية، ومال الإشتراكيون إلى نوع من الفردية، ومع ذلك فهما في طرفي الإفراط والتفريط حتّى يصلوا إلى الإسلام، ويذعنوا له ويؤمنوا به.

القانون بين الفرد والمجتمع

هناك تدافع في القانون بين حق الفرد وحق المجتمع، حيث ان الفرد إذا خلّي وطبعه كان له من الحق اكثر من الحق الذي له إذا لوحظ مع حق المجتمع، والعكس صحيح أيضاً، لكن العقل والعقلاء ـ والشرع سيد العقلاء ـ قرّروا الحقين معاً، وبذلك يحدد حق كل جانب بما لا يضر حق الجانب الآخر.

وانما يحدّد حق الفرد، لانه لولا المجتمع لم يتمكن من تحصيل حقه، كما انه يحدّد حق المجتمع لانه لولا الفرد لم يكن مجتمع.

وقد ذكر ذلك (أفلاطون) مما سمّى بعد ذلك: بالعقد الإجتماعي، فان طبيعة الإنسان طبيعة جلب المنفعة ودفع المضرة، وحيث ان نطاق الحياة ضيّق، يكون الإنسان في حالة نزاع مستمر مع بني نوعه، إذ كل واحد منهم ـ الا من عصمه اللّه ـ يريد أن يجلب اكبر قدر من المنافع إلى نفسه، كما يريد أن يدفع الضرر المتوجه إليه إلى الآخرين، وبذلك يقوم التنازع العرفي الذي لا ينقطع، لأن مادة النزاع لا تنقطع.

مثلاً: الإنسان له شهوات غير محدودة، حتى وان حددها ضيق الجسم، ولذا كان المستكفي العباسي قد خلّف بعد موته أربعة ملايين ثوب، وان هارون كان كلفة مطبخه بالنسبة إلى لحم الجزور فقط ستمائة ألف درهم، وان باحة قصر المتوكل كان مسرحاً لأربعة آلاف جارية، وان عبد الحميد العثماني كان يفرش في قصره عند كل وجبة طعام سبعمائة مائدة لزوجاته وجواريه ومن اليهن، إلى غير ذلك من الأرقام المدرجة في التواريخ.

اذن: فكل انسان ـ الا من عصم اللّه ـ يريد اشباع رغباته وشهواته، كما ان كل انسان يريد كل الثروة والقدرة حكراً لنفسه ويخاف من تفوق الآخرين عليه بالثروة والقدرة.

وعليه: فإذا اريد تخليص المجتمع من حالة الحرب والإستفزاز فلابدّ وان يعقد المجتمع عقداً بالتوزيع للثروة والقدرة توزيعاً عادلاً بينهم، وذلك بأن يتنازل كل فرد عن بعض حقه في قبال أن يحصل له الأمن والإستقرار، والقانون الذي يتكفل ذلك لا يخلو عن أحد أمرين:ـ

فإما ان يكون القانون مستمداً من العقل والمنطق، ويسمى بـ: (القانون الطبيعي).

وإما ان يكون مستمداً من السماء ويسمى بـ: (الدين والشريعة)، ولذا قال سبحانه: (اُولئك لهم الأمن)(12).

لكن من الواضح: ان القانون المستمد من العقل، لا يترك وشأنه، إذ اصحاب النفوذ ـ بالإضافة إلى الجهل والمحدودية الإنسانية ـ يحرّفون القانون حسب مشتهياتهم واهوائهم، ولذا كان الملجأ الوحيد للأمن هو: الشريعة والدين المنزل من إلهٍ مُطّلع على خفايا الاُمور، ولا تحدّه شرائط الزمان والمكان وما اشبه ذلك.

وحيث ان مثل هذا القانون المستمد من السماء لا يمكن لفرد واحد من عامة الناس ان يتكفل تطبيقه، ولا يمكن لاناس عاديين ذلك أيضاً، كما لا يمكن أن يبقى معلقاً في الهواء، فكان لا بدّ من هيئة رئاسية عُليا تتكفل تطبيقه وتفسيره لدى المشاكل والإختلافات، وتلك الهيئة يجب أن يرأسها معصوم عن الخطأ كالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليه السلام في زمن الحضور، أو عادل نزيه إلى ابعد حد كالمراجع في عصر الغيبة، ولذا ورد: « من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه »(13).

دوافع العمل بالقانون 

الناس بالنظر الى العمل بالقوانين على ثلاثة أقسام:

الأوّل: من يعمل بالقوانين لشرفه النفسي، حيث أنّ الشرف يبعث على الإتيان بالواجبات - عقليّة أو شرعيّة أو وضعيّة - وترك المحرّمات حتى إذا لم يكن ثواب ولا عقاب ولا خوف من الإجتماع، ولا نريد التعرّض هنا لقوله عليه السلام: «وجدتُك اهلاً للعبادة» (14) لأنّه لا يوجد إلاّ في الأوحدي من الناس وهم المعصومون (عليهم السلام).

بل ربّما يقال: إنّه أيضاً للشرف النفسي في أعلا مراتبه يندفع الإنسان الى احترام العالم، فإنّ النفس الشريفة بلا رجاء ثواب أو خوف عقاب تبعث على إحترام العلماء.

الثاني: من يعمل بالقوانين خوفاً من العقاب - غالباً - وشوقاً الى الثواب - نادراً - وإنّما قلنا ذلك، لما تقدّم: من أنّ الثواب ليس بحيث يسوق كلّ إنسان، بينما العقاب كذلك، ولذا نجد أنّ غالب المسلمين يصومون شهر رمضان الواجب، ولا يصومون الصيام المستحبّ، وليس ذلك إلاّ أنّ ترك الواجب فيه عقاب، أمّا ترك المستحب فليس فيه العقاب، وإن كان في فعل كليهما الثواب.

الثالث: من يعمل بالقوانين حفظاً لشخصيّته وصوناً لمكانته في المجتمع، فلا يخترق القانون حتى لا يذهب ماء وجهه.

وهذا وإن كان خوفاً من العقاب، بل وأحياناً شوقاً الى الثواب حيث يريد زيادة ماء وجهه، أو إعتلاء مكانته وما أشبه، إلاّ أنّ المراد بالعقاب والثواب فيما تقدم: عقاب القضاء دنياً وآخرة، أو ثواب الآخرة وهو أمر آخر غير الحفاظ على الشخصيّة، ولذا جعلنا الثالث مستقلاً.

هذا ولا يخفى ما هناك من الفرق بين الإنسان وسائر الاُمور الكونيّة الداخلة تحت الأسباب والمسبّبات، فإنّ الاُمور الكونيّة أسبابها تنتهي إلى مسبّباتها بدون مدخليّة الإرادة إلاّ في الحيوان، في الجملة فالجاذبيّة تجذب، والشمس تشرق، والإسفنج يمتصّ الماء، والنار تحرق، وهكذا.

أمّا شرب الإنسان للماء، وأكله الطعام، ومباشرته أعماله، وتحريك يده ورجله، وما أشبه ذلك، فكلّها باختياره، فالعطشان وإن بلغ غايته يتمكن من ترك الشرب - كما فعله العبّاس عليه السلام - وكذلك سائر أمثال تلك الاُمور الإختياريّة.

وحيث ان الإنسان يستقيم بالشريعة ـ عند المتشرعين ـ وبالقوانين الوضعية ـ عند اهله ـ فلا بد من الإلتزام والتطبيق، وذلك لا يكون إلا بأن يتوفر فيه الشرف النفسي، أو خوف العقاب ورجاء الثواب، أو الحفاظ على الشخصية.

فالمجتمع الصالح هو الذي قد امتلأ نفوس افراده بهذه الاُمور الثلاثة، أي: الشرف النفسي، والخوف والرجاء، سواء من العقاب والثواب القضائي والأخروي، ام من العقاب والثواب الإجتماعي، وحفظ الشخصية.

ولذا شاع بين الناس: « حفظ ماء الوجه » أو على اصطلاح بعضهم: « الحيثية الإنسانية » لكن اللازم ان لا يكون في اي وجه من الثلاثة إفراط أو تفريط داخلي أو خارجي.

فالشرائع والقوانين وتحسين وتقبيح الإجتماع يجب توازنها ـ من ناحية ـ وتوازن الملكة النفسانية المرتبطة بهذه الاُمور ـ من ناحية ثانية ـ.

فبالنسبة إلى الأمر النفسي، فانه ـ مثلاً ـ إذا خاف الإنسان من التقبيح الإجتماعي اكثر من القدر اللازم اختل امره، كما انه إذا لم يخف بالقدر اللازم اختل أيضاً.

فالأوّل: لا يقدم على التجارة خوفاً من ركود السوق والخسران، بينما الثاني: يأكل أموال الناس بالباطل تهوُّراً وعدم إعتناءٍ بالتقبيح الإجتماعي.

وبالنسبة إلى الأمر الخارجي: الثواب والعقاب في ابعادهما الثلاثة، فانه ـ مثلاً ـ إذا كان تقبيح الإجتماع اكثر من القدر المتوسط، سبّب تحذ ّر الناس عن الإقدام حتى في الأمور الصالحة، وإذا كان تقبيحهم اقل من القدر المتوسط، سبّب اقدام الناس على الاُمور غير الصالحة.

والشرف النفسي، وكذا الخوف الإجتماعي أو القضائي أو الاُخروي، وكذلك رجاء ثوابها، إنّما تتركَّزُ في النفس بسبب أمور ثلاثة: التربية الفردية، والتربية الإجتماعية، وبسبب وجود الاسوة الصالحة والقدوة الحسنة، فان لكل من هذه الاُمور الثلاثة الدور الهام في ذلك، فان الضغوط الإجتماعية، كالضغوط المادية توجب التوازن النفسي، كما ان المادية توجب التوازن الجسمي.

والاسوة أيضاً لها اكبر المدخلية فيه، ولذا ورد في الحديث: « كونوا دعاة للناس بغير السنتكم »(15) فالاُسوة الحسنة توجب تربية النفوس على الحسن، والاسوة السيئة توجب تربيتهم على السوء.

من دعائم القانون

القانون مهما كان، دينياً ـ كما نراه نحن ـ أو وضعياً ـ كما يراه الغرب ـ فهو توجيه من كائن مدرك لكائن مدرك آخر، يعترف الكائن الموضوع له باكثرية علم الكائن الواضع، والواضع يضع العقاب ـ على الأغلب ـ والثواب، لمن خالف أو وافق، إمّا مستقيماً أو بالنتيجة.

مثلاً: الشارع يقول: الخمر منهيّ عنه ومن شربه عاقبته، ويقول: الشرط في المعاملات عدم الغرر، فمن تعامل معاملة غررية ابطلتها، ثمّ من مشى على هذا البطلان ولم يعتن بما وضعت من الشرط عاقبته أيضاً.

فان كان هذا المشرّع بيده الآخرة ـ كاللّه سبحانه ـ يقول: عاقبته في الدنيا والآخرة، وان لم يكن بيده الآخرة يقول: عاقبته في الدنيا.

ولذا كان اللازم في القانون اُمور ثلاثة كالتالي:

1 ـ شخص أو هيئة له سلطان.

2 ـ صدور أمر أو نهي ـ من هذا السلطان اما ابتداءاً كما في مثال: شرب الخمر، أو نتيجة كما في مثال: شرط عدم الغرر.

3 ـ اقتران المخالفة بجزاء دنيوي فقط، أو دنيوي وأخروي معاً.

فليس القانون نصحية مجرّدة، بل أمر ونهي، ولا صادراً من أيّ شخص، بل من شخص له سلطان، ولا انه مجرّد عن العقاب، ولذا لم تكن الأوامر والنواهي الأخلاقية المجردة قانوناً، كما ليست التوصيات المجرّدة عن الثواب والعقاب من القانون المصطلح في شيء.

وكذا ليس من القانون بالمعنى الدقيق ما تضعه الجمعيات والأحزاب والنقابات، وان كانت هي قوانين عندهم، لها الثواب والعقاب لديهم، كالطرد وعدم الترفيع أو الجذب والترفيع وما اشبه، وكلهم حسب التواضع يلتزمون باطاعة سلطان ذلك القانون.

ثمّ ان ما ذكرناه من القانون، قد يظهره السلطان من كوامن المجتمع، اي: من فطرته وعقله، كما تقدم، وقد يضعه وضعاً لا من كوامن المجتمع، لأنه الأعرف بالصلاح.

ولذا كان كل من الرأيين الغربيين، في ان القانون (اظهار الكامن) وحده، أو (وضع الأصلح) وحده، غير تام حتى بالنسبة إلى قوانينهم، بل قسم منه من الكامن، وقسم منه من الموضوع بحسب الاعرف والأبعد مدىً.

ثمّ ان علماء القوانين الوضعية اختلفوا ـ كفقهائنا ـ في انه هل القانون أمر ونهي فقط ويسمى عندنا: (بالتكليف) أو يشمل غير ذلك مما يسمى عندنا: (بالوضع)؟

فالمشهور ذهبوا إلى الثاني، والشيخ المرتضى قدس سره ذهب إلى الأول، ونحن نرى رأي الشيخ قدس سره، فليست الشريعة الا امراً أو نهياً، وكما سبق ينتهي الوضع إلى التكليف أيضاً، فان الشارع كما يضع الأمر والنهي ـ الصريحين ـ يضع شروط وموانع للمعاملات ـ عقداً أو ايقاعاً ـ كالبيع والشراء، والإيجار والإستيجار، والرهن والإرتهان، والمضاربة، والمزارعة والمساقاة، والشركة، والنكاح، والطلاق، والخلع، وغيرها.

وهكذا يضع القوانين والاجزاء والشرائط والموانع للأوراق التجارية (الكمبيالة) وسند تحويل الدين: (البوليسة) وسند الدفع: (الصك) واوراق القرضة، وما أشبه ذلك.

ثمّ ان كل قانون يضعه المشرّع ـ الديني أو الوضعي ـ اما ان يدخل في باب الأمر والنهي، واما ان يدخل في باب الأحكام الوضعية ـ في الإصطلاح الفقهي ـ من النجاسة والطهارة، والحلية والحرمة، والقضاء، والمواريث، والصحة والفساد، والجزء، والشرط، والمانع، والقاطع، والرافع، والمعدّ، واقسام العقود والإيقاعات والضمانات، وما أشبه ذلك، وبالتالي كلّما لم يكن أمر ونهي بالصراحة، ولذا قال علماء الاُصول: ان غير الأحكام الخمسة التكليفية أحكام وضعية.

والعرف والعادة من مصادر القانون عند من لا يعتقدون بالقانون الديني، اما من يعتقد به كالمسلمين فالعرف والعادة عندهم من مشخصات الموضوع، ثمّ حسب الموضوع يكون الحكم.

مثلاً: ان الشارع قال: (الماء مطهر) و: (في الحنطة زكاة) و: (آنية الذهب محرمة) و: (صلة الأرحام واجبة) فانه بعد هذا يأتي دور العرف لتشخيص هل ان المياه الزاجية والكبريتية (ماء)؟ وهل الحنطة التي تولدت من التشذيب والتوصيل (حنطة) ؟ وهل المصفاة (آنية)؟ وهل إبن عم القبيلة يفصله عشرون نسلاً (رحم)؟

ولذا كان على فقهاء الشريعة أمران:

الأول: تشخيص الموضوع في الموارد المشتبهة أو المختلف فيها، وانه هل هو من هذا الموضوع أو ذاك الموضوع؟ ليترتب عليه هذا الحكم أو ذاك الحكم.

الثاني: استنباط الحكم من أدلته الأربعة عند الشيعة، أو الأكثر من الأربعة ـ بإضافة مثل القياس ونحوه ـ عند العامة.

نعم يكون العرف والعادة: مصدران للقانون ـ عند من لا يأخذون بالقانون الديني ـ فيما إذا اجازهما صاحب السلطة، والا فهما بنفسهما يعدّان من اخلاقيات المجتمع لا من قوانينه.

وقد ذكرنا في بعض مباحث الفقه ان الفرق بين العرف والعادة: ان الأول اعم من الثاني، حيث ان شيئاً ما إذا صار عرفاً ولكن لم يستمر بعد فليس بعادة.

نعم العادة تطلق على الأشياء الضارة أيضاً، لكن المنصرف من العرف هي الأشياء النافعة فقط.

وعلى ما تقدم: فكل من العرف والعادة قانون إذا صُدّق من قبل من له الصلاحية كمجلس الاُمة، والقضاة، ومن اشبه، لا ان التصديق فرع القانون.

ثمّ ان القانون إذا اخذ من العرف والعادة فلا يكون له قوة، إذ المجتمع يرون ذلك اخلاقياً لا الزامياً، إلا إذا صاحب ذلك شعور اجتماعي بلزوم تنفيذه، لانهم يرون فيه المصلحة وفي تركه المفسدة، ولذا يحرّض الغرب اصحاب الأقلام ومن أشبه بتقوية هذا الشعور في مجتمعاتهم.

أمّا في الإسلام: فإنّ قوّة القانون فيه ناشئة من الوازع الديني الذي يغرس في النفس من جهة رجاء ثواب اللّه وخوف عقابه، الثواب والعقاب الدنيوي والاُخروي، إذ قوانين اللّه سبحانه لابدّ لها من أن تثمر في الدنيا والآخرة، إن ايجاباً أو سلباً، وبذلك يستقرّ القانون ويهنأ المجتمع بفوائده: من الرّخاء والرفاه والحريّة والأمن وما أشبه ذلك.

وقد كان من أهمّ أسباب ارباك كلّ مرافق الحياة، من الإقتصاد والسياسة والإجتماع وغيرها، في كافـّة بلاد الإسلام: القوانين المستوردة، التي أراد المستعمر وأذنابه زرعها في البلاد عوض قوانين الإسلام، فإنّ الناس كانوا يعتقدون بالإسلام شريعة وقانوناً.

مثلاً: كانوا يرون حرمة الغناء والربا والزنا والجمرك والضرائب والقمار، وما أشبه ذلك، كما كانوا يرون لزوم عدالة القاضي ونزاهة الشهود وعدالتهم، وانّ العقوبات كذا، الى غير ذلك.

وإذا بهم يفاجأون بحلّية كل تلك المحرّمات قانوناً، وبقلب كلّ موازين القضاء من إسلامي الى غربي، ولذا صاروا امام الدولة وقوانينها غير مبالين، بل أخذوا حالة التحدّي بمقابلة الدولة في كلّ قوانينها، إلاّ إذا خافوا من الشرطة والقوّة والسجن والتبعيد وما أشبه.

وعليه: فلا عجب إن اضطرب كلّ شيء، وتفشّت الرشوة، وشاع الهروب عن القوانين حتى من مثل قوانين الصحّة والمرور والإسعاف والنجدة والدراسة وغيرها، وكثر التزوير حتى في المعاهد العلميّة.

ومن الطبيعي أن تختلّ كلّ الموازين إذا فقد المجتمع الموازين الدينيّة والموازين الدنيويّة، فالدين الذي كان يعتقد به شَطَب القانون المستورد عليه، والموازين الدنيويّة التي لايعتقد بها وَضَعَها القانون المستورد عليه - وفي المثل: نسى المشيتين - ولذا صارت المقابلة الشديدة بين الحكومات وبين المسلمين في كلّ أقطارهم، وأخذت الشعوب الإسلامية - تحت أسامي متعددة - تسعى لإسقاط الحكومات واحدة واحدة، والحكومات الحاضرة كلّها عرضة للسقوط، مادامت الحالة باقية.

إذن فالقانون إذا لم يكن نابعاً من المجتمع لا يلتزم به المجتمع، وبالأخرة لايتحقق الهدف الذي قد وضع القانون من أجله والأمثلة لذلك كثيرة جداً، نذكر جملة منها:

مثلاً: انّ (الدكتور شاخت) وضع خطّة اقتصاديّة لألمانيا حال اهتزاز اقتصاد ألمانيا، فنجح نجاحاً منقطع النظير، ثمّ إنّه بنفسه وضع نفس الخطّة لأندنوسيا، حال اهتزاز اقتصاد اندنوسيا ففشل فشلاً منقطع النظير، ولم يكن السرّ خفيّاً حيث أنّ خطّته الإقتصاديّة في ألمانيا لم تكن تصادم عقائد الناس وشرائعهم ولذا استقبلوها استقبالاً حسناً، بينما خطته الإقتصادية في اندنوسيا كانت تصادم قوانين المسلمين، في مثل حرمة الخمر، ولحم الخنزير، وفتح نوادي القمار ودور البغاء والملاهي والمراقص، وما أشبه ذلك ممّا كان في ضمن خطّته الإقتصاديّة، ولذا قاطعها المسلمون جملة وتفصيلاً حتى أنّ رأس المال الذي وضع لتنفيذ الخطّة ذهب ادراج الرياح.

ومن الأمثلة التي رأيناها في العراق: قصّة الوقف الذ ُّرّي، حيث أنّ نوري السعيد ألغاه وزعم أنّه يلغى بشطبة قلم، لكن بقي الناس على ما كانوا عليه حتى سقط نوري سعيد وسقط معه قانونه.

وجاء قاسم، وسنَّ قانون الإصلاح الزراعي المستورد، وذلك بإشارة من الغرب لأجل إفقار العراق وقد حصل الغرب على ما أراد، حيث حلّ في العراق الفوضى والإضطراب الى جانب الفقر والحرمان، فقد كان القانون المستورد يقول بتقسيم أراضي الملاّكين على الفلاحين، فأدّى ذلك الى أنّ عشرات الآلاف من الفلاحين، تركوا الأراضي ونزحوا الى المُدُن، لأجل فرارهم من الغصب الذي حرّمه الإسلام وغير ذلك.

كما سنّ قانون تساوي البنت والولد في الإرث، ممّا أثار مشكلة كبيرة بين الناس حيث كانوا يراجعوننا بعدها لشراء الأخوات من إخوتهم المقدار الزائد على حصّتهنّ الشرعيّة مما منحتها لهنّ المحاكم، أو يراجعوننا لبيع الإخوة على أخواتهم ما منحتها لهنّ المحاكم من حصّتهم الشرعيّة بيعاً شرعيّاً، حتى لايكون تصرّف الأخوات تصرّفاً غير مشروع في البساتين والأراضي وما أشبه.

أمّا المال فكانت المحكمة إذا أعطت البنت أكثر من حقّها المشروع، رجعت البنت الى البيت لتسلّم الى أخيها القدر الزائد من حصّتها.

لكن لمّا ذهب قاسم، ذهب ما سنّه معه ورجعت الشريعة كما كانت.

وجاء عبد السلام وجعل الإشتراكيّة في البلاد، فسبّب ذلك تشلّل الإقتصاد وإفلاس البلاد لأنّ الناس سحبوا أرصدتهم من البنوك وادّخروا أموالهم في المخازن والبيوت وما أشبه فراراً من جحيم الإشتراكيّة وحرمتها.

وكان إذا اضطرّ انسان الى الإشتراء من المال الكذائي كان يذهب الى صاحب المال ليُعطيه البدل حتى يحلّ له، ثمّ لمّا ذهب عبد السلام ذهبت اشتراكيّته معه ورجع الأمر على ما قرّره الإسلام.

وفي باكستان حاول ضياء الحق إلغاء الأحزاب - حتى يكون هو الفاعل لما يشاء دون أن يكون هناك من يحاسبه على تصرّفاته، فيتسنّى له بيع البلاد الى الأجنبي أكثر فأكثر - فكان عاقبة أمره ما كان، ورجعت الحريّة والتعدّدية الى البلاد على ما كانت عليه.

الى عشرات الأمثلة الاخرى التي رأيناها في بلدنا، أو البلدان المجاورة ممّا ذكرها يحتاج الى كتاب مستقلّ.

بين الفطرة والقانون

قد عبّر بعض الباحثين في علم القانون عن الاُمور الفطرية بـ: (القانون الطبيعي) والمراد به: ما يراه العقل المجرد الخالي عن شوائب الزمان والمكان والعادات والتقاليد وما أشبه ذلك، وهو مشترك بين جميع العقلاء، لانه نابع عن الفطرة.

قال سبحانه: (فطرة اللّه التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللّه ذلك الدين القيّم) (16) فالمراد (بالطبيعي): ما يقتضيه طبيعة الإنسان بما هي طبيعة، وهو عبارة اُخرى عما ذكره الفلاسفة والحكماء والاُصوليون من الحسن والقبح العقليين.

فان العقل بما هو مجرد عن الشوائب، وان العاقل الذي يحتكم إلى عقله يرى حسن بعض الأشياء كانقاذ المظلوم من يد الظالم، وقبح بعض الأشياء كالظلم.

والطبيعة بما هي طبيعة اعم من كل فطرة، ولذا يقال: طبيعة الكون، وطبيعة الحياة، وطبيعة الحيوان، وطبيعة الماء، إلى غير ذلك فهي مقابل الاُمور العارضة بسبب مال أو جاه أو قرابة أو عشيرة أو ما أشبه ذلك.

ومنه ما يقال: ان النتيجة الطبيعية للشيء الفلاني كذا، مثل ان نتيجة الالقاء في النار الاحراق وهكذا، فانه يراد به ان السبب في نفسه ـ مع قطع النظر عن المؤثرات الخارجية ـ يتولد منه ذلك المسبب، من غير فرق بين الأقوال التي تقول: انها بتوليد أو باعداد أو بالتّوافي، كما أشار إليه السبزواري في منظومته.

وإلى هذا الإصطلاح جرى ارسطو حيث جعل العدل عدلين:

عدلاً طبيعياً: وهو ما كان ينبع من الفطرة ويتساوى فيه كل الناس المتمدنون في كل الأزمان والأقطار.

وعدلاً عرفياً: وهو ما تعارف عليه جماعة خاصة ممّا يختلف فيه الأقطار والأزمان.

مثلاً: العدل الطبيعي هو كقبح القتل، وانتهاك العرض، وسرقة الأموال، والعدل العرفي هو كمرور السيارات من جانب اليمين، لإمكان ان يجعل جماعة في مكان خاص أو في زمان خاص، المرور من جانب اليسار.

وقد عبّر آخرون عن هذين القانونين بقانون الجماعة، وقانون الشعوب، فالأوّل: وضعي ناش من ملاحظات خاصة، والثاني: فطري ناش من الفطرة البشرية.

ثمّ انه قد يتلاقى الإصطلاحان، بأن تضع الجماعة القانون بما يوافق الفطرة. فالقانون الطبيعي ـ مثلاً ـ يحرّم الزنا والربا، لأن الأول: هدم للعوائل وسبب للأمراض والرذائل، والثاني: فساد للأموال وتكديس للثروة عند الأغنياء على حساب الفقراء ممّا ينتهي إلى الحروب اخيراً والجماعة تجعل التحريم أيضاً.

وقد لايتلاقيان بأن تضع الجماعة القانون بما يخالف الفطرة، مثل: اباحة الزنا والربا في القانون العرفي الموضوع بسبب جماعة، كما نرى ذلك في الجاهلية الاُولى والجاهليّة الحاليّة.

لكن لا يخفى: ان نداء الفطرة موجود دائماً فهو يهيب بالإنسان من داخله ويصرخ به ابداً، فإذا وضع القانون على خلاف الفطرة علا نداء من داخل الإنسان يقول: بان هذا القانون خطأ ويجب ان يزال، ولذا يقوم العقلاء تدريجياً بالإنتقاد ويناشدون بتعديل القانون الوضعي المخالف للفطرة.

وهذا النداء قد يكون بصوت عال حيث يجد الشرائط المناسبة، وقد يكون بصوت خفي حيث يكون الإرهاب أو شرائط غير مناسبة.

ثمّ ان هذا النداء موجود حتى في باطن الفرد المجرم، مما يظهر من فلتات لسانه، وصفحات وجهه، وصغريات سلوكه، فإذا قتل انسان انساناً، ولو انكر الف انكار، لم يسكن ضميره عن تأنيبه، وإذا انكر فانما ينكر باللسان، وقلبه مطمئن بالإيمان.

وفي الآيات والروايات الماعات كثيرة إلى هذه الجهة ـ مثل قوله تعالى: ـ (ثمّ نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون)(17).

ومثل (النفس اللوامة) في قبال (النفس الراضية).

ثمّ انه قد يكون الشيء الجزئي مورد التحسين والتقبيح العقليين، مثل قتل زيد ظلماً، واسعاف عمرو الفقير.

وقد يكون الكلي موردهما من غير فرق بين هذا الجزئي أو ذلك، فتنظيم النقل والحركة ـ مثلاً ـ يقتضي وضع القانون لمرور السيارات اما من جانب اليمين أو جانب اليسار، حتى لا يلزم الفوضى والضرر والضرار، فيضع العقلاء القانون على الأول، أو على الثاني، مع انه لا فرق في وضع القانون على ايهما.

ولذا نرى ان البلاد تختلف في مثل هذا القانون، وكذلك في مثل قانون الوقوف على الإشارة الحمراء أو الخضراء، إلى غير ذلك من الأمثلة.

ثمّ انا ذكرنا في شرح الرسائل وجه الجمع بين قولهم عليهم السلام: « ان للّه على الناس حجّتين: حجّة ظاهرة وحجّة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة عليهم السلام، وأما الباطنة فالعقول »(18).

وقولهم عليهم السلام: « إنّ دين اللّه لا يصاب بالعقول »(19).

فإنّ المراد بالأوّل: ما فيه للعقل مجال مثل: جملة من العقائد، والأخلاق، والأحكام، فان العقل يحكم بأن للكون الهاً واحداً عدلاً حيّاً قيُّوماً قادراً عالماً، وان الصدق والأمانة حسنان، وان القتل والزنا قبيحان، ويحكم بان على الإنسان ان يطيع خالقه، وان يشكر من انعم عليه.

والمراد بالثاني: ما ليس فيه للعقل مجال مثل: جزئيات الأحكام ـ في قبال القياس ـ فان العقل لا مجال له إلى ان يعرف لماذا جعل الشارع الدية في القتل الف دينار، ولماذا ان صلاة الصبح ركعتان، وان الصوم في شهر رمضان، إلى غير ذلك من الأمثلة.

وعلى هذا: فالقانون الطبيعي ـ غالباً ـ يأتي بالكليات: كالنظم، والنظافة، ونزاهة القاضي والشاهد، وارجاع حق كل انسان إليه، وعدم أكل اموال الناس بالباطل، بينما القانون الوضعي يأتي بالتطبيقات والجزئيات ـ وان كانت هي كليات أيضاً من الدرجة الثانية، أي كلي فوقه كلي ـ مثل: ان تكون ساعات العمل ثمان ساعات، وان تكون العطلة في يوم الجمعة، وما أشبه ذلك.

 

تتمة

(1) بحار الأنوار: ج32، ص9، ب1، ح2.

(2) ذكره البزاز في كتابه: (مبادئ اصول القانون).

(3) سورة المائدة الآية: 3.

(4) وسائل الشيعة: ج18، ص 310، ح1.

(5) راجع من لا يحضره الفقيه ج4، ص246، ب176، ح4.

(6) راجع من لا يحضره الفقيه ج4، ص245، ب176، ح3.

(7) راجع من لا يحضره الفقيه ج4، ص246، ب176، ح4.

(8) راجع من لا يحضره الفقيه ج4، ص246، ب176، ح4.

(9) سورة الحجرات، الآية: 12.

(10) سورة طه، الاية: 105.

(11) نهج البلاغة، قصار الحكم: 456.

(12) سورة الأنعام، الاية: 82.

(13) وسائل الشعية: ج18، ص94، ح20.

(14) بحار الأنوار: ج70، ص186، ب53، ح1.

(15) بحار الأنوار ج70، ص330، ب57، ح13.

(16) سورة الروم، الآية: 30.

(17) سورة الأنبياء، الآية: 65.

(18) بحار الأنوار: ج1، ص137، ب4، ح30.

(19) مستدرك الوسائل : ج17، ص262، ب6، ح25.