الفهرس

فهرس المبحث الأول

المؤلفات

 الكلام والفلسفة

الصفحة الرئيسية

 

العلة والمعلول

(الفصل الثالث في العلة والمعلول) وكل شيء يصدر عنه أمر إما بالاستقلال أو بالانضمام فإنه علة لذلك الأمر ومعلول له، وهي فاعلية ومادية وصورية وغائية فالفاعل مبدأ التأثير وعند وجوده بجميع جهات التأثير يجب وجود المعلول.

ولا يجب مقارنة العدم، ولا يجوز بقاء المعلول وإن جاز في المعد، ومع وحدته يتحد المعلول.

ثم تعرض الكثرة باعتبار كثرة الاضافات، وهذا الحكم ينعكس على نفسه وفي الوحدة النوعية لا عكس. والنسبتان من ثواني المعقولات، وبينهما مقابلة التضايف، وقد يجتمعان في الشيء الواحد بالنسبة إلى أمرين ولا يتعاكسان فيهما.

ولا يتراقا معروضاهما في سلسلة واحدة إلى غير النهاية لأن كل واحد منها ممتنع الحصول بدون علة واجبة، لكن الواجب بالغير ممتنع أيضاً فيجب وجود علة واجبة لذاتها هي طرف، وللتطبيق بين جملة قد فصلت منها آحاد متناهية وأخرى لم يفصل منها.

ولأن التطبيق باعتبار النسبتين بحيث يتعدد كل واحد منهما باعتبارهما يوجب تناهيهما لوجوب ازدياد إحدى النسبتين على الأخرى من حيث السبق، ولأن المؤثر في المجموع إن كان بعض أجزائه كان الشيء مؤثراً في نفسه وعلله ولأن المجموع له علة تامة، وكل جزء ليس علة تامة، إذ الجملة لا تجب به وكيف يجب الجملة بشيء هو محتاج إلى ما لا يتناهى من تلك الجمــلة ويتكافأ النسبتان في طرفي النقيض، والقبول والفعل متنافيان مع اتحاد النسبة لتنافي لازميهما.

ويجب المخالفة بين العلة والمعلول إن كان المعلول محتاجاً لذاته إلى تلك العلة وإلا فلا، ولا يجب صدق إحدى النسبتين على المصاحب.

وليس الشخص من العنصريات علة ذاتية لشخص آخر منهما لم يتناه الأشخاص، ولاستغنائه عنه بغيره، ولعدم تقدمه ولتكافئهما ولبقاء أحدهما مع عدم صاحبه، والفعل منا يفتقر إلى تصور جزئي ليتشخص به الفعل ثم شوق ثم إرادة ثم حركة من العضلات ليقع منّا الفعل، والحركة الاختيارية إلى مكان تتبع إرادة بحسبها وجزئيات تلك الحركة تتبع تخيلات وإرادات جزئية يكون السابق من هذه التخيلات علة للسابق من تلك المعدّة لحصول تخيلات وإرادات أخرى فيتصل الإرادات في النفس والحركات في المسافة إلى آخرها، ويشترط في صدق التأثير على المقارن الوضع والتناهي وبحسب المدة والعدة والشدة التي باعتبارها يصدق التناهي وعدمه الخاص على المؤثر لأن القسري يختلف باختلاف القابل ومع اتحاد المبدأ يتفاوت مقابله والطبيعي يختلف باختلاف الفاعل لتساوي الصغير والكبير في القبول فإذا تحركا مع اتحاد المبدأ عرض التناهي.

(الفصل الثالث في العلة والمعلول) وفيه مسائل:

(مسألة) في تعريف العلة والمعلول وأقسام العلة (وكل شيء يصدر عنه أمر إما بالاستقلال) كصدور الاحراق عن النار باستقلالها (أو بالانضمام) كصدور قطع الصفراء عن السكر بانضمام الخل، (فإنه) أي المصدور عنه (علة لذلك الأمر و) ذلك الأمر (معلول له) وتسمى العلة في القسم الأول تامة، وفي القسم الثاني ناقصة. ولا يخفى أن هذا تعريف للعلة الفاعلية ولذا كان قوله : (وهي فاعلية ومادية وصورية وغائية) من قبيل الاستخدام. وكيف كان فالعلة وهي ما يحتاج إليه أمر في وجوده على قسمين : (الأول) أن يكون جزءاً من المعلول، فإن كان يحصل به الشيء بالفعل سمي صورة كصورة السرير، وإن كان يحصل به الشيء بالقوة سمي مادة كأعواد السرير. (الثاني) أن يكون خارجاً عن المعلول، فإن كان مؤثراً فيه سمي فاعلاً كالنجار الفاعل للسرير، وإن كان يقف التأثير عليه سمي غاية كالجلوس المقصود من صنع السرير.

(مسألة) في أحكام الفاعل (فالفاعل مبدأ التأثير) فإن الأثر يصدر منه لا من الغاية والمادة والصورة (وعند وجوده بجميع جهات التأثير) أي مستجمعاً للشرائط (يجب وجود المعلول) وإلا فإن لم يوجد المعلول حين وجود العلة التامة فإما أن لا يوجد أصلاً فهو خلف لأن المفروض أنه علة.

وإما أن يوجد في وقت آخر وهو مستلزم للترجيح بلا مرجح إذ وجود المعلول في ذلك الزمان دون ما قبله وما بعده لا أولوية له لفرض استجماع العلة للشرائط قبله وبعده.

(مسألة) (ولا يجب مقارنة العدم) أي لا يجب أن تكون العلة التامة مقارنة لعدم المعلول، لما تقدم من أن الفاعل بالجبر يقترن به المعلول فلا تسبق العلة معلولها فيستند القديم إلى المؤثر الموجب، وكأنه إلزام على مَن جمع بين القول بأن علة العالم موجبة وبين القول بوجوب مقارنة العلة لعدم المعلول. وعلى كل حال فالكلام في العلة الموجبة وأما المختارة فيجب فيها مقارنة العدم كما لا يخفى.

(مسألة) (ولا يجوز بقاء المعلول) بدون العلة، إذ علة الحاجة هي الإمكان والمعلول بعد الوجود ممكن فيحتاج إلى العلة.

(وإن) قلت : فانّا نرى أن البنّاء يموت والبناء باقٍ فكيف تبقى المعلول مع ذهاب العلة؟ قلت : البناء معد وإنما المفيض للصورة هو الله سبحانه و(جاز) بقاء المعلول مع ذهاب العلة (في المعد) بمعنى أن تبقى الصورة المفاضة من الله تعالى بعد عدم المعد وإلا فالمعد ليس علة للصورة حقيقة ـ فتأمل.

(مسألة) في أن الواحد لا يصدر منه إلا الواحد. الفاعل إن كان مختاراً أمكن تعدد معلوله مع وحدة العلة (و) أما إن كان مجبوراً فـ (مع وحدته يتحد المعلول) قال العلامة (ره) : وإن كان موجباً ذهب الأكثر إلى استحالة تكثر معلوله باعتبار واحد، وأقوى حججهم أن نسبة المؤثر إلى أحد الأثرين مغايرة لنسبته إلى الآخر وإن كانت النسبتان جزئية كان مركباً وإلا تسلسل(1)، وهي عندي ضعيفة لأن نسبة التأثير والصدور يستحيل أن تكون وجودية وإلا لزم التسلسل، وإن كانت من الأمور الاعتبارية استحالت هذه القسمة ـ انتهى. أقول : وما ذكره العلامة (ره) هو الصحيح كما لا يخفى على من راجع المفصلات.

ثم إنه قد أشكل المتكلمون على الحكماء الذاهبين إلى أن علة العالم موجبة بأنه لو كانت العلة موجبة والواحد لا يصدر منه إلا الواحد لزم أن تكون الموجودات بأسرها في سلسلة واحدة إما علة أو معلولاً وذلك باطل بالضرورة، فالقول بأن الواحد لا يصدر منه إلا الواحد أو القول بكون فاعل العالم موجباً باطل. وقد أشار المصنف (ره) إلى ضعف هذا الإلزام بقوله : (ثم تعرض الكثرة باعتبار كثرة الإضافات) بأن يصدر من مبدئ العالم شيء واحد هو المعلول الأول ولهذا المعلول كثرة غير حقيقية، لأن المعلول الأول بالنظر إلى ذاته ممكن وبالنظر إلى علته واجب، وهو يعقل ذاته ويعقل كثرته... إلى غير ذلك من جهات الكثرة الاعتبارية فيصدر عنه باعتبار كل جهة معلول. هذا ولا يخفى أن هذه الجهات إن أوجبت كثرة المعلول الأول فكيف صدرت الكثير عن واحد، وإن لم توجب كثرتها بل بقى على وحدته فكيف صدر منه كثير.

(مسألة) في أن الواحد لا يصدر إلا من الواحد (وهذا الحكم ينعكس على نفسه) فمع وحدة المعلول يتحد العلة فلا يجتمع على المعلول الواحد علتان كما أنه لا يصدر معلولان عن علة واحدة، لأنه إن أوجده بتمامه أحدهما لم يكن الآخر علة وإن لم يوجده أصلاً لم يكن هو علة وإن أوجد بعضه كان جزء علة لا تمام علة. هذا تمام الكلام في الواحد بالشخص (وفي الوحدة النوعية لا عكس) فإذا كان المعلول واحداً بالنوع أمكن أن لا يكون العلة كذلك.

والحاصل النوع لا يمكن أن يكون علة لواحد ويمكن أن يكون معلولاً لواحد بمعنى أن يقع بعض أفراد النوع الواحد بعلة وبعض أفراده الأخر بعلة أخرى، فيكون المحتاج إلى كل منهما مغايراً للمحتاج إلى الأخرى. مثلاً : الشمس والنار والحركة كلها علة للحرارة فهي مع وحدتها بالنوع صارت معلولة لأشياء ليست واحدة بالنوع.

(مسألة) في أن وصفي العلية والمعلولية من الأمور الاعتبارية (والنسبتان) أي العلية والمعلولية (من ثواني المعقولات) فليستا من الأمور الخارجية وإلا لزم التسلسل، ولذا ليس في الخارج ما هو عليه فقط أو معلولية فقط.

(مسألة) (وبينهما مقابلة التضايف) فلا يمكن أن تعقل العلية إلا مع تعقل المعلولية وبالعكس. (وقد يجتمعان في الشيء الواحد) فيكون علة ومعلولاً ولكن (بالنسبة إلى أمرين) كزيد الذي هو علة لابنه عمرو ومعلول لأبيه خالد ـ مثلاً ـ (ولا يتعاكسان) الضمير يرجع إلى الأمرين (فيهما) أي في العلية والمعلولية، فلا يمكن أن تكون العلة كخالد في المثال معلولة لمعلولها كعمرو في المثال وإلا لزم الدور المحال.

(مسألة) في إبطال التسلسل (ولا يتراقا معروضاهما) أي معروض العلية والمعلولية (في سلسلة واحدة إلى غير النهاية) بأن توجد علل ومعلولات مترتبة كأن يكون زيد معلولاً لعمرو وعمرو لخالد وخالد لبكر وهكذا إلى غير النهاية. والدليل على بطلان التسلسل وجوه :

(الأول) ـ (لأن كل واحد منها) أي من تلك السلسلة (ممتنع الحصول بدون علة واجبة) لأنه ممكن والممكن يحتاج إلى علة فعلَّته إما واجب بالغير وإما واجب بالذات (لكن الواجب بالغير ممتنع) الحصول (أيضاً) لكونه ممكناً فيحتاج هو إلى علة أخرى (فيجب وجود علة واجبة لذاتها) لا علة واجبة بالوجوب الغيري (هي) أي تلك العلة الواجبة (طرف) السلسلة فتنتهي الممكنات إليها.

(الثاني) ـ برهان التطبيق (و) ذلك (للتطبيق بين جملة قد فصلت منها آحاد متناهية و) جملة (أخرى لم يفصل منها). وتقريره : أن نفرض سلسلة العلل جملة وسلسلة المعاليل جملة أخرى ثم نقطع بعض جملة العلل ونطبق جملة العلل الباقية على جملة المعاليل، فإن تساوى السلسلتان لزم تساوي الزائد والناقص وهو محال، وإن لم تتساويا فاللازم أن يكــون الطرفان الآخران غير ما بأيدينا غير متساويين ـ إذ ما بأيدينا متساوي فرضاً ـ وحينئذ يلزم انتهاء الناقص ومنه يلزم انتهاء الزائد ـ لأنه أزيد من الناقص بالمقدار الذي قطعنا منه.

(الثالث) ـ (ولأن التطبيق باعتبار النسبتين بحيث يتعدد كل واحد منهما باعتبارهما يوجب تناهيهما لوجوب ازدياد إحدى النسبتين على الأخرى من حيث السبق) وذلك لأن كل واحد من الأفراد المتسلسلة علة باعتبار ما بعده معلول باعتبار ما قبله، فقد تطابقت النسبتان حقيقة ـ بلا احتياج إلى الفرض ـ لكن المفروض أن سلسلة العلل سابقة لأنها من طرف الفرق زائدة بواحدة وفي هذه الزيادة انقطاع للسلسلتين، لأن غير المتناهي لا آخر له حتى يتصور فيه الزيادة والنقصان، فزيادة العلل على المعلول موجب لتناهيهما.

(الرابع) ـ (ولأن) المجموع ممكن فيحتاج إلى العلة فـ (المؤثر في المجموع إن كان) نفس المجموع لزم تأثير الشيء في نفسه وهو محال، وإن كان أمراً خارجاً عنها ثبت المطلوب إذ الخارج عن سلسلة الممكنات واجب، وإن كان (بعض أجزائه كان الشيء مؤثراً في نفسه وعلله ولأن المجموع له علة تامة، وكل جزء ليس علة تامة، إذ الجملة لا تجب به) أي بالجزء (وكيف يجب الجملة بشيء هو محتاج إلى ما لا يتناهى من تلك الجملة). وتقريره : أن هذه السلسلة لا يمكن أن يؤثر فيها جزؤها لأمور : (الأول) لزوم تأثير الشيء في نفسه وفي علله وهو محال. (الثاني) أن المجموع له علة تامة والجزء ليس علة تامة إذ الجزء لا يجب بوجوده وجود الكل كما هو بديهي. (الثالث) أن الجزء يحتاج إلى ما لا يتناهى من علله والمعلول لا يمكن أن يؤثر في علة واحدة فكيف بعلل متعددة ـ فتأمل.

(ويتكافأ النسبتان) أي نسبة العلية ونسبة المعلولية (في طرفي النقيض) أي طرفي الوجود والعدم، فكلما تحقق معروض العلة تحقق معروض المعلول وكلما تحقق معروض المعلول تحقق معروض العلة ـ هذا في طرف الوجود. وكذا كلما تحقق عدم العلة تحقق عدم المعلول وكلما تحقق عدم المعلول تحقق عدم العلة ـ هذا في طرف العدم. مثلاً : كلما تحققت النار تحقق الإحراق وكلما تحقق الإحراق تحققت النار، وكلما تحقق عدم النار تحقق عدم الإحراق وكلما تحقق عدم الإحراق تحقق عدم النار، وهذا في كمال الوضوح لا يحتاج إلى البرهان.

(والقبول والفعل) أي القابلية والفاعلية (متنافيان) فلا يمكن أن يكون أمر واحد بالنسبة إلى شيء واحد قابلاً وفاعلاً (مع اتحاد النسبة) أي نسبة القبول والفعل، وذلك (لتنافي لازميهما) أي لازم القبول ينافي لازم الفعل وحيث لا يجتمع اللازمان لا يجتمع الملزومان بداهة. مثلاً : لا يعقل أن يكون الجسم علة وفاعلاً للبياض ومحلاً وقابلاً له، وذلك لأن كون البياض معلولاً لازمه أنه يجب حين وجود الجسم ـ لأنه كلما تحقق العلة تحقق المعلول، وكون البياض مقبولاً لازمه انه يمكن وجود البياض حين وجود الجسم ـ لأنه ليس كلما تحقق المحل القابل يجب تحقق المقبول، وعلى هذا فلا يمكن أن يكون الجسم فاعلاً للبياض وقابلاً له. نعم مع اختلاف النسبتين لا مانع منه كأن يكون الجسم علة للبياض وقابلاً للسواد.

(مسألة) (ويجب المخالفة بين العلة والمعلول) بأن تكون مهية المعلول مخالفة لمهية العلة أي غير مماثلة لها لكن المخالفة إنما تكون (إن كان المعلول محتاجاً لذاته إلى تلك العلة) كاحتياج الحرارة لذاتها إلى النار، فإن مهية النار تخالف مهية الإحراق. وإنما وجبت المخالفة لأنه لولاها لزم احتياج الشيء إلى نفسه. مثلاً : لو كانت مهية الإحراق ومهية النار واحدة لزم احتياج المهية إلى نفسها وهو مستحيل (وإلا) يكن المعلول محتاجاً إلى العلة لذاتها بل احتاج إليها في تشخصها لا في نوعه ومهيته (فلا) يلزم المخالفة بل جازت الموافقة، كاحتياج إحدى النارين إلى الأخرى في وجودها فإن مهية النار المعلولة لا تحتاج إلى النار التي هي علة بل هذا الشخص من النار محتاج إلى ما سبقه في الزمان، كما يجوز أن يختلفا أيضاً كاحتياج هذا الفرد من الإحراق إلى النار.

(مسألة) (ولا يجب صدق إحدى النسبتين) نسبة العلية ونسبة المعلولية (على المصاحب) لأحدهما فمصاحب العلة ليس بعلة ومصاحب المعلول ليس بمعلول. مثلاً : حمرة النار المصاحبة لها ليست علة للإحراق وكذا لو كان التلازم بين الإحراق وبين شيء آخر لا يجب أن تكون النار علة لذلك المصاحب. أقول : هذا الحكم في طرف العلة تام بل يمتنع أن يكون مصاحب العلة علة لامتناع توارد علتين مستقلتين على معلول واحد، وأما في طرف المعلول فلو كان المراد بمصاحب المعلول ما يصاحبه اتفاقاً فالأمر كذلك إذ لا مانع من وجود علتين مستقلتين لمعلولين بينهما التــلازم والتصاحب ولو كان المراد به ما يلزمه دائماً فمصاحب المعلول بهذا المعنى معلول. مثلاً : لو كانت زوجية الأربعة مصاحبة لها فعلَّة الأربعة علَّة للزوجية ـ فتأمل.

(مسألة) (وليس الشخص من العنصريات) كأفراد النار مثلاً (علة ذاتية لشخص آخر منها) وإن أمكن أن يكون علة وجودية، (وإلا) فلو كان الشخص علة ذاتية لزم محاذير:

الأول ـ إنه (لم يتناه الأشخاص) إذ لو فرض أن كل فرد من أفراد النار علة ذاتية لفرد آخر فإذا وجِدَ فرد وجد علة فرد آخر فإذا وجد الثاني وجد الثالث وهكذا، فيلزم عدم تناهي الأفراد وهو محال بديهة.

(و) الثاني ـ ما أشار إليه بقوله : (لاستغنائه) أي هذا الفرد المعلول (عنه) أي عن هذا الفرد العلة (بغيره) من سائر الأفراد إذ ليس شخص ما من أشخاص النار أولى بأن يكون علة لشخص آخر من بقية أشخاص النوع، وإذا لم تكن أولوية فيستغني هذا المعلول عن هذا لعدم الأولوية وعن ذاك لعدم الأولية فيكون مستغنياً عنهما وهو خلف. وعلى هذا فيكون الفرد معداً لوجود فرد آخر لا علّة ذاتية له ـ فتأمل.

(و) الثالث ـ (لعدم تقدمه) إذ الشخص من العناصر لا يتقدم بالذات على شخص آخر منها. نعم يتقدم بالوجود والمعيار في العلة التقدم الذاتي، أما عدم التقدم الذاتي فلإمكان اجتماعهما ذاتاً، وأما لزوم كون العلة متقدمة ذاتاً فلأنه لولا التقدم لا يعقل التأثير.

(و) الرابع ـ (لتكافئهما) أي الشخصين اللذين أحدهما علة والآخر معلول. بيانه بلفظ القوشجي : أن الشخص من العناصر تكافي شخصاً آخر في أن أحدهما ليس أولى بأن يكون علة للآخر من العكس والمتكافئان لا يكون أحدهما علة للآخر ـ انتهى. لبداهة أن العلة يلزم أن تكون متقدمة في الرتبة.

(و) (الخامس) ـ (لبقاء أحدهما مع عدم صاحبه) فإنه لو وجدت نار شخصية من نار أخرى نرى بالوجدان انه قد يبقى المعلول ويعدم العلة وقد تبقى العلة ويعدم المعلول ولو كانت إحداهما علة للأخرى لم يعقل الإنفكاك بينهما إذ العلة التامة تساوق المعلول، فإن الحرارة المستندة إلى هذه النار الشخصية ـ مثلاً ـ يمتنع عدمها عند وجود النار ووجودها عند عدم النار كما لا يخفى.

(مسألة) (والفعل) الاختياري (منّا) بخلاف الفعل الاختياري من الله سبحانه ومن الحيوانات (يفتقر إلى) مبادئ أربعة :

الأول ـ المتصور لذلك الفعل على نحو الجزئية، كأن يتصور شرب هذا الماء لا الشرب الكلي، إذ تصور الكلي بالنسبة إلى جميع الأفراد متساوي فلا أولوية لوقوع بعضها دون بعض، ولذا قال : (تصور جزئي ليتشخَّص به الفعل). وفي بعض النسخ ـ (ليتخصَّص) مكان ليتشخص.

الثاني ـ (ثم شوق) نحو طلب ذلك الأمر المتصور، وهذا الشوق إنما ينبعث عن إدراك الملائمة أو المنافرة سواء طابق الإدراك للواقع أم لا، وقد يسمّى الشوق الحاصل من إدراك الملائم شهوة ومن إدراك المنافر غضباً.

الثالث ـ (ثم إرادة) وهي فعل النفس أي اختيارها.

(ثم) الرابع ـ (حركة من العضلات) من اللسان واليد والرجل وغيرها (ليقع منا الفعل). وبعضهم عدّ المقدمات خمسة وزاد بعد التصور التصديق بالفائدة، وإنما أخرجنا فعل الله سبحانه والحيوانات لأن فعل الله يعلم فيه عدم هذه المقدمات وفعل الحيوانات يشك في وجودها فيه، ولكن ربما قيل بأن مراد المصنف (ره) من قوله : (منا) إلا نفس الحيوانية مطلقاً.

(مسألة) (والحركة الاختيارية) لا الإضطرارية (إلى مكان تتبع إرادة بحسبها) أي بحسب تلك الحركة، فالحركة إلى رأس الفرسخ تتبع إرادة الحركة إلى الفرسخ والحركة إلى رأس الميل تتبع إرادة الحركة إلى رأس الميل وهكذا. ثم إن هذه الحركة لكونها ذات امتداد انقسمت إلى جزئيات كل جزئي منها قدم مثلاً. (و) من المعلوم أن (جزئيات تلك الحركة تتبع تخيلات وإرادات جزئية) فكل قدم من هذه الأقدام مسبوق بإرادة جزئية بحيث (يكون السابق من هذه التخيلات علة للسابق من تلك) الأقدام (المعدة لحصول تخيلات وإرادات أخرى) فالإرادة الجزئية لوضع القدم الأول علة لوضع هذا القدم وهذا القدم معد لحصول إرادة أخرى جزئية لوضع القدم الثاني وهكذا، فكل قدم معد لإرادة وكل إرادة جزئية علة لقدم (فيتصل الإرادات) الجزئية (في النفس والحركات) الخارجية (في المسافة إلى آخرها) أي آخر المسافة. ومن الواضح أن هذا لا يختص بالحركة المشيئية بل التكلم والكتابة ونحوها كذلك، فإن مريد التكلم ساعة ـ مثلاً ـ له إرادة كلية وإرادات جزئية لكل لفظ لفظ، ومريد الكتابة صفحة له إرادة كلية وإرادات جزئية لكل حرف حرف.

(مسألة) (ويشترط في صدق التأثير) أي صدق كون الشيء علة (على المقارن) للمادة أعني الصور والأعراض المقارنة لها بخلاف تأثير المجرد. وقوله : (على المقارن) متعلق بالصدق أي يشترط في أن يصدق على المقارن للمادة انه مؤثر (الوضع) الخاص بينه وبين ما يؤثر فيه بأن يكون قابلاً للإشارة الحسية بأن هذا هنا وذاك هناك، وإنما خصصنا المؤثرية بالصورة والعرض لبداهة أن المادة بما هي مادة لا تؤثر فالمؤثر في النار ليس جسمها بل حرارتها، وخصصنا الاحتياج إلى الوضع بالمقارنات لوضوح أن المجرد كالباري سبحانه يؤثر في الأشياء بلا وضع بينه وبينها. والحاصل أن القوى الجسمانية المؤثرة إنما تؤثر فيما كان له وضع خاص بالنسبة إليها، فالنار تؤثر في ما كان ملاقياً لها والشمس تضيئ ما كان مقابلاً لها والله سبحانه يوجد الحرارة في الجسم بلا مقارنة لذاته سبحانه لذلك الشيء ويوجد الضوء بلا مقابلة.

(مسألة) (و) يستلزم التأثير (التناهي) أي أن تأثير القوى الجسمانية متناهية بخلاف المجرد فإنه لا تناهى في تأثيراته. وقوله : (والتناهي) عطف على الاستلزام المفهوم من قوله : (ويشترط). ثم إن التناهي إما (بحسب المدة) أي الزمان (و) إما بحسب (العدة) أي العدد (و) إما بحسب (الشدة) وهذه الثلاثة هي (التي باعتبارها يصدق التناهي وعدمه الخاص على المؤثر) متعلق بيصدق.

إعلم أن عدم الملكة عبارة عن عدم خاص وسلب شيء عما من شأنه أن يتصف بالملكة. مثلاً : الأمرد ليس عبارة عن عدم اللحية عن كل شيء بل عدم اللحية عما من شأنه أن يكون ملتحياً، وكذا الأعمى والمجنون والأطرش ليست عدم البصر والعقل والسماع عن كل شيء بل عدمها عن الإنسان الذي من شأنه الاتصاف بالبصر والعقل والسمع، وعلى هذا فلا يصدق الأمرد والأعمى والمجنون والأطرش على الجدار وإن صدق عليه انه عديم اللحية والبصر والعقل والسمع. ومثل هذا اللامتناهي ـ الذي هو عدم للتناهي ـ فإنه لا يصدق على شيء إلا أن يكون من شأنه التناهي، فالمجرد ـ كالعقل بزعمهم ـ لا يصدق عليه انه اللامتناهي لأنه ليس قابلاً للتناهي. نعم التناهي واللاتناهي وصفان للكم حقيقة وللجسم ذي الكم عرضاً ومجازاً، ولذا قال المصنف (ره) : (وعدمه الخاص) ـ إخراجاً للعدم المطلق، فالمجرد يصدق عليه انه غير متناهي ولا يصدق عليه اللاتناهي.

إذا عرفت هذا قلنا : إذا وصف المؤثر بالتناهي أو اللاتناهي كان الوصف باعتبار الآثار، وحيث إن آثار المؤثر على ثلاثة أقسام فالوصف بالتناهي واللاتناهي يقع في ثلاثة مواضع :

(الأول) أن يكون باعتبار المدة فما يكون زمانه أكثر يكون أقوى، فالتناهي فيه عبارة عن محدوديته بالزمان وعدم التناهي عبارة عن عدم انتهائه. مثلاً : لو فرض راميان يذهب سهم أحدهما ساعة ويذهب سهم الآخر نصف ساعة كان الأول أقوى، وعدم التناهي في هذه الصورة عبارة عن ذهاب سهم أحدهما إلى الأبد.

(الثاني) أن يكون باعتبار العدة فما يكون عدده أكثر يكون أقوى، فالتناهي فيه عبارة عن محدوديته بالعدد وعدم التناهي عبارة عن عدم انتهاء عدده. مثلاً : لو فرض راميان يرمي أحدهما سهماً ـ بحيث لا يقدر على أكثر ويرمي الثاني سهمين كان الثاني أقوى، وعدم التناهي في هذه الصورة عبارة عن رمي أحدهما عدداً غير محدود لا يدخل تحت العدد.

(الثالث) أن يكون باعتبار الشدة فما يكون أشد يكون أقوى، فالتناهي فيه عبارة عن محدوديته في الشدة وعدم التناهي عبارة عن عدم انتهاء شدته. مثلاً : لو فرض راميان يرمي أحدهما سهمه إلى دريئة خاصة فيقطع سهمه إلى وصوله إليها ساعة ويرمي الثاني أيضاً إلى تلك الدريئة فيقطع سهمه نصف ساعة كان الثاني أقوى، وعدم التناهي في هذه الصورة عبارة عن قطع المسافة لا في زمان، وإلا فلو كان هذا القاطع في نصف ساعة غير متناهي بحسب الشدة لزم أن يكون القاطع في ربع ساعة ـ ولو فرضاً ـ أشد مما لا يتناهى في الشدة والأشدية مما لا يتناهى محال فالقاطع في نصف ساعة ليس غير متناهي وإنما أتينا بهذا التطويل روماً للوضوح. هذا تمام الكلام في تصوير ما يوصف بالتناهي وعدمه.

إذا عرفت ذلك قلنا : غير المتناهي في هذه القوى غير معقول (لأن) القوى الجسمانية إما أن تكون قسرية أو طبيعية وكلاهما يستحيل صدور ما لا يتناهى عنهما : أما (القسري) فلأنه (يختلف باختلاف القابل ومع اتحاد المبدأ يتفاوت مقابله). لا يخفى أن اللاتناهي بحسب الشدة لما كان ظاهر البطلان لم يشتغل المصنف (ره) بالبرهان على بطلانه واشتغل ببطلان اللاتناهي بحسب المدة والعدة. ونحن نقرر البرهان على الامتناع في التأثير القسري بحسب الترتيب المتقدم في المتن فنقول :

أما استحالة اللاتناهي بحسب المدة فلأنه لا شك في أن التأثير القسري يختلف باختلاف القابل المقسور فكلما كان المقسور أكبر كان تحريك القاسر له أقل. مثلاً : لو رمى القاسر السهم الصغير كان ذهابه أسرع مما لو رمى السهم الكبير بنسبة الجسم، فلو فرض ذهاب الصغير في الهواء كل ساعة فرسخاً كان ذهاب الكبير ـ الذي هو ضعف الصغير ـ كل ساعة نصف فرسخ، وحينئذ فلو فرضنا تحريك الشخص جسماً كبيراً من مبدأ مفروض حركات لا يتناهى بحيث يذهب إلى غير النهاية في الزمان ثم حرك ذلك الشخص جسماً صغيراً من ذلك المبدأ فلا شك انه يقطع أكثر، فإما أن نقول بتساويهما وهو خلف لفرض أن حركة الأصغر أكثر، أو نقول بتفاوتهما وإذ ليس التفاوت في المبدأ فاللازم أن يكون التفاوت في المنتهى فيلزم منه انتهاء حركة الأكبر وإذا انتهت حركة الأكبر انتهت حركة الأصغر لأنها أزيد بمقدار متناه.

وأما استحالة اللاتناهي بحسب العدة فلأنّا لو فرضنا شخصاً يرمي سهاماً صغاراً بعدد لا يتناهى ثم فرضنا ذلك الشخص يرمي سهاماً كباراً ـ كل سهم ضعف السهم الصغير ـ كان اللازم أن يكون عدد الكبار نصف عدد الصغار فلو كان كلاهما لا يتناهى في العدد لزم تساوي الزائد والناقص، فاللازم أن تكون الكبار متناهية وإذا كانت متناهية كانت الصغار كذلك لأن الزائد على المتناهي بمقدار متناه متناه.

وأما استحالة اللاتناهي بحسب الشدة فلأنه لو رمى شخصان سهمين من مبدأ واحد إلى منتهي واحد كان أشدهما هو الذي زمانه أقل فمن يطوي المسافة نصف ساعة أشد مما يطويها ساعة، وحينئذ كان ما لا يتناهى في الشدة واقعاً لا في زمان، وإلا فلو فرض وقوع ما لا يتناهى في الزمان ولو في عُشر دقيقة كان الواقع في نصف هذا الزمان أشد فيلزم أن أشديته مما لا يتناهى هذا خلف، وإذ استحال وقوع الشيء لا في زمان استحال اللاتناهي في الشدة. هذا تمام الكلام في استحالة اللاتناهي من القوة القسرية.

وأما صدور ما لا يتناهى من القوة الطبيعية فقد أشار إليه بقوله : (والطبيعي) من القوى كحركة الحجر الهابط بطبيعته إلى الأسفل فلا يعقل صدور ما لا يتناهى عنه مدة أو عدة أو شدة لأنه (يختلف باختلاف الفاعل) أي القوة الموجودة في الجسم (لتساوي الصغير والكبير في) أصل (القبول) للحركة وإنما الاختلاف باختلاف القوة (فإذا تحركا مع اتحاد المبدأ عرض التناهي) في المنتهى. بيان ذلك : أما في المدة فلأنه إذا فرض حركة الصغير ـ التي هي أبطأ ـ وحركة الكبير ـ التي هي أسرع ـ من مبدأ معين فإما أن نقول بعدم التناهي في الطرف الآخر ويلزم منه التساوي هذا خلف أو نقول بتناهي الصغير ويلزم منه تناهي الكبير لأن الزائد على المتناهي بمقدار متناه متناه.

(تنبيه) الحركة القسرية والطبيعية تتعاكسان ففي القسري الأكبر أبطأ وفي الطبيعي الأصغر أبطأ، وأما في العدة فلأنه إذا تمكنت القوة الموجودة في الكل على تحريك أجزاء غير متناهي بحسب العدد فالقوة الموجودة في الجزء إن تمكنت على ذلك لزم تساوي الزائد والناقص وإن تمكنت على نصفه فهذا النصف إما متناهٍ أو غير متناهٍ فعلى الثاني يلزم تساوي الزائد والناقص وعلى الأول يلزم تناهِ الصغير والكبير حيث كان أكبر منه بقدر متناه لزم تناهيه لأن الزائد على المتناهي بمقدار متناه متناه، وأما في الشدة فلنفس البرهان الذي تقدم في القسري منتهى الفرق أن اللاتناهي هنا يصدر عن قوة في الجسم وهناك يصدر عن قوة خارجية ـ على فرض اللاتناهي ـ فتأمل. ولا يخفى أن القوم ساقوا دليلَيْ تناهي المدة والعدة بنحو آخر غير ما ذكرناه فراجع.

 

1 ـ لأن المصدرية لمعلولين إما داخل أو خارج فإن كان داخلاً لزم تركب الواحد وهذا خلف، وإن كان خارجاً كان مصدر المصدرية إما داخلاً أو خارجاً وعلى الأول خلف وعلى الثاني تسلسل. (المؤلف).