الفهرس

فهرس المبحث الثاني

المؤلفات

 الكلام والفلسفة

الصفحة الرئيسية

 

العقل والنفس

(الفصل الرابع ـ في الجواهر المجردة) أما العقل فلم يثبت دليل على امتناعه وأدلة وجوده مدخولة.

كقولهم الواحد لا يصدر عنه أمران.

ولا سبق لمشروط باللاحق في تأثيره أو وجوده وإلا لما انتفت صلاحية التأثير.

عنه لأن المؤثر ههنا مختار، وقولهم استدارة الحركة توجب الإرادة المستلزمة للتشبه بالكامل.

إذ طلب الحاصل فعلاً أو قوةً يوجب الانقطاع وغير الممكن محال لتوقفه على دوام ما أوجبنا انقطاعه على حصر أقسام الطلب مع المنازعة في امتناع طلب المحال، وقولهم لا علية بين المتضايفين وإلا لأمكن الممتنع أو علل الأقوى بالأضعف لمنع الامتناع الذاتي. وأما النفس فهو كمال أول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة، وهي مغايرة لما هي شرط فيه.

لاستحالة الدور، وللمانعة في الاقتضاء، ولبطلان أحدهما مع ثبوت الآخر، ولما يقع الغفلة عنه والمشاركة فيه.

والتبدل فيه.

(الفصل الرابع ـ في الجواهر المجردة) أي المفارقة عن المدة والمادة وهي قسمان : نفس وعقل. (أما) تجرد (العقل فلم يثبت دليل على امتناعه) لأن أقصى ما استدل للامتناع انه لو كان مجرداً شارك الباري تعالى وهو محال. وفيه أن المشاركة في السلوب والإضافات لا يقتضي المشاركة في الذات حتى يلزم التركيب. ولا يخفى أن مراد المصنف (ره) من العقل غير تركبه تعالى للزومه ما ذكره الفلاسفة ـ من العقل القديم الملازم مع الباري ملازمة النار للحرارة. وإلا فقد دلّ الدليل على بطلانه (وأدلة وجوده مدخولة) ذهب الحكماء إلى أن الواجب صدر منه العقل الأول ثم صدر من العقل الأول فلك أول وعقل ثانٍ ثم صدر من العقل الثاني فلك ثانٍ وعقل ثالث وهكذا إلى تسعة أفلاك وعشرة عقول. وقد ذكر المصنف (ره) من أدلتهم ثلاثة هي أقواها :

(الأول) ما أشار بقوله : (كقولهم) الممكن منحصر في العرض والجواهر الخمسة ـ أعني الجسم والصورة والهيولي والنفس والعقل ـ وأول صادر عن الباري لا يمكن أن يكون إلا العقل، أما عدم كونه جسماً فلأن (الواحد لا يصدر عنه أمران) وهذا يتوقف على ثلاث مقدمات : كون الجسم مركباً، وكون الباري واحداً، وكون الواحد لا يصدر منه إلا الواحد. أما أن الجسم ليس واحداً فلأنه مركب من الهيولي والصورة، وأما كون الباري واحداً فهو بديهي، وأما أن الواحد لا يصدر الخ فقد تقدم برهانه عند قول المصنف (ره) قبيل براهين إبطال التسلسل : (ومع وحدته يتحد المعلول). ونقول هنا : انه يلزم أن يكون في العلة خصوصية بسببها يصدر منه هذا المعلول دون غيره إذ لولا الخصوصية والسنخية بين العلة والمعلول لزم صدور كل شيء من كل شيء، وعليه فلو صدر أثران من مؤثر فلا يخلو إما أن يكون نسبة أحدهما إلى العلة عين نسبة الآخر وهو محال، أو النسبتان متغايرتان فنسبة كل واحد التابعة لخصوصية إما أن تكون داخلة في العلة ـ ويلزم منه تركبها، وهو خلف ـ أو خارجة عن العلة. فننقل الكلام في جهة ارتباط هذه الخصوصية الخارجية بالعلة ونقول إما أن تكون جهة الارتباط داخلة أو خارجة وهكذا إلى أن يتسلسل. أقول : يرد عليه أمور : (الأول) انه ليس الجسم مركباً كما سبق. (الثاني) أن الواحد الذي لا يصدر منه إلا الواحد إنما هو في العلة بالجبر كالنار لا بالاختيار كالباري تعالى، فإن الفاعل بالاختيار إنما يوجد بالإرادة على وفق المصلحة ولا يحتاج إلى السنخية. (الثالث) إن هذه القاعدة حتى في الفاعل بالجبر مخدوشة إذ لم لا يجوز ان يجعل الله تعالى شيئاً واحداً منشأ لأثرين.

(و) أما عدم كون الصادر الأول صورة أو نفساً فلأنه (لا سبق لمشروط باللاحق في تأثيره) يعني أن الصورة والنفس إنما يؤثران إذا كانا مع المادة والبدن، فلا يمكن أن يكونا علة لجميع الأشياء التي منها المادة والبدن إذ لو كانا أول الأشياء ثم أوجدا شيئاً لزم كونهما علة مع عدم وجود شرط علتهما. وهذا يتوقف على كون الصورة والنفس لا يؤثران إلا إذا كان مع المادة والبدن وبيانه : أما الصورة فلأنها إنما تؤثر إذا كانت موجودة مشخصة وتشخصها متوقف على مقارنتها للمادة إذ لا تشخص لها بدون المادة ـ فلا تكون سابقة على المادة ـ وأما النفس فلأنها إنما تفعل بواسطة البدن فلا تكون مقدمة على البدن وعلة له. وفيه عدم تسليم وجود الصورة أصلاً بل هو أمر منتزع، خصوصاً بعدما عرفت من عدم تركب الجسم من المادة والصورة. وأما النفس فلم يقم دليل على تجردها وأنها لا تتمكن من الفعل إلا بواسطة البدن، فيمكن أن تكون أمراً مادياً تفعل بدون البدن (أو) مجردة تفعل بدونه ولا يلزم أن تكون عقلاً وإن كانا مشتركين في التجرد والفعل بدون شيء ـ كما لا يخفى.

وأما عدم كون الصادر الأول عرضاً فلأنه لا سبق لمشروط باللاحق في (وجوده) إذ العرض محتاج في وجوده إلى الجوهر فلو كان العرض أول الأشياء لكان علة للجوهر فيلزم أن يكون مقدماً لأنه علة ومؤخراً لأنه مشروط بالجوهر الذي فرض مؤخراً.

وأما عدم كون الصادر الأول هيولي ومادة فلأن الهيولي قابلة فلا يمكن أن تكون فاعلة، وإليه أشار بقوله : (وإلا لما انتفت صلاحية التأثير عنه(1) يعني وإلا يكن كذلك بأن كانت المادة هي الصادر الأول لما كانت بحيث انتفت صلاحية التأثير عنها، فحيث إنها انتفت صلاحية التأثير عنها لم تكن صادراً أو لا وعلة لجميع الأشياء. والأقرب في النظر أن يكون قوله : (أو وجوده) إشارة إلى أمرين عدم صلاحية العرض والهيولي إذ هي تحتاج في وجوده إلى الصورة ـ فإن الشيء ما لم يتشخص لم يوجد ـ وعليه فقوله : (وإلا لما انتفت) إلخ علة لقوله : (ولا سبق) إلخ يعني لا سبق لمشروط باللاحق وإلا لكان اللازم صلاحيته للتأثير ـ مجرداً ـ فانتفاء صلاحية التأثير عن هذه الأربعة كاشف عن عدم كونها صادراً أولاً، فيكون ضمير عنه راجعاً إلى قوله : (لمشروط) فتدبر. وإنما قلنا بأن أدلة وجوده ومدخولة (لأن المؤثر ههنا مختار) والمختار تتعدد آثاره وأفعاله، فيمكن أن يكون الصادر منه ابتداء أشياء كثيرة.

والدليل للقائلين بوجود العقل ما أشار إليه بقوله : (وقولهم) بالجر عطف على (كقولهم) إن الفلك تتحرك مستديراً بالبداهة (استدارة الحركة توجب الإرادة) إذ الحركة إما طبيعية أو قسرية أو إرادية وحركة الفلك ليست طبيعية لأنها مستديرة وكل مستدير ليس طبيعياً. بيانه : أن الحركة المستديرة تترك جزءاً وتطلب ذلك الجزء بعينه والمطلوب بالطبع لا يكون متروكاً بالطبع، وإذا ثبت أنها ليست طبيعية ثبت أنها ليست قسرية ـ لأن القسرية مقابل الطبيعية فما لم يمكن فيه الطبع لا يمكن فيه القسر. فتحصل أن حركة الفلك إرادية (المستلزمة للتشبه بالكامل) وإنما استلزم كون الحركة الإرادية للفلك مقصوداً منها التشبه بالكامل ـ أي الذات التي كمالاتها حاصلة بالفعل، لأن الإرادة تقتضي أن يكون للمريد مطلوب ـ فمطلوبه إما مستحيل الحصول وهو محال إذ طلب المحال محال، وإما ممكن الحصول وهو إما محسوس أو معقول، والأول محال لأن الفلك لا يتغير عن حاله إلى أخرى ـ ولازم حصول المطلوب المحسوس تغييرها ـ فتعين الثاني وهو أن يكون المطلوب معقولاً. وحينئذ فالفلك إما أن يريد نيل ذات المعقول أو نيل صفاته أو نيل التشبه بأحدهما والأولان محالان لأن الذات والصفة إن نيلتا في الجملة لزم انقطاع الحركة ـ لامتناع طلب الحاصل ـ وإن لم تنالا أصلاً فلابد من اليأس وتنقطع الحركة أيضاً ـ وحيث إن انقطاع الحركة محال لأنها حافظة للزمان الممتنع عليه الإنقطاع، فكون المطلوب نيل الذات والصفات محال، فتعين أن يكون الطلب للتشبه وهو إما تشبه بالواجب أو بالعقل ـ إذ المعقول منحصر فيها ـ والأول باطل وإلا لم يختلف حركات الفلك، فتعين أن يكون التشبه بالعقل فيثبت المشبه به أي العقل ـ وهو المطلوب.

إن قلت : أي مناسبة بين الحركة بالإستدارة وبين التشبه بالعقل؟ قلت : إن الفلك تخرج كمالاته الممكنة بواسطة الحركة الوضعية ويحصل له بكل وضع تشبه بالمطلوب الذي هو بالفعل من كل الوجوه.

وقد أشار المصنف (ره) إلى أقسام الطلب بقوله : (إذ طلب الحاصل فعلاً أو قوةً يوجب الإنقطاع و) طلب (غير الممكن محال يعني أن الكمال المطلوب ليس حاصلاً بالفعل وإلا انقطعت الحركة ولا حاصلاً بالقوة وإلا لانقطعت أيضاً ولا غير الممكن لأن شعور الفلك مانع عن طلبه غير الممكن، فتعين أن تكون الحركة لطلب كمال يحصل بالتدريج إلى الأبد. وهذا الدليل غير تام أيضاً (لتوقفه على دوام ما أوجبنا انقطاعه) أي يتوقف هذا الدليل على دوام الحركة للفلك وقد أوجبنا انقطاعهما لأنّا بيّنا سابقاً حدوث الفلك وكل حادث ممكن العدم. (و) أيضاً يتوقف هذا الدليل (على حصر أقسام الطلب) فيما ذكروه لإمكان أن تكون لطلب نفع السافل (مع المنازعة في امتناع طلب المحال) فيمكن أن يكون الفلك بلا شعور فيطلب المحال، ولولا ملاحظة الاختصار ووضوح بطلان هذه التلفيقات الواهية لأكثرنا من الاعتراض عليه.

(الثالث) من أدلتهم ما أشار إليه بقوله : (وقولهم لا علية بين المتضايفين وإلا لأمكن الممتنع أو علّل الأقوى بالأضعف). وتقريره : انه لا يخلو إما أن يكون موجوداً لفلك الجسم أو العقل والأول مستحيل فيتعين الثاني وهو المطلوب، ووجه استحالة كون الموجد جسماً أن الموجد لا يخلو إما أن يكون محوياً بالفلك أو حاوياً له وكلاهما محال : أما الأول فلأن الحاوي أشرف من المحوي فلا يمكن أن يكون الأحسن علة للأشرف، وإلى هذا أشار بقوله : (أو علّل الأقوى بالأضعف). وأما الثاني فلأن الحاوي لكونه علة مقدم على المحوي ففي مرتبة عدم المحوي ـ في ظرف وجود الحاوي ـ يلزم الخلاء، فحيث إن الخلاء محال يستحيل أن تكون علة الفلك الجسم الحاوي، وإليه أشار بقوله : (وإلا لأمكن الممتنع) والمراد بقوله : (ولا علية بين المتضايفين) أي بين الحاوي والمحوي ـ لأن أحدهما من حيث هو حاوٍ مضائف للآخر من حيث هو محوي وبالعكس. وهذا الدليل باطل أيضاً (لمنع الامتناع الذاتي) للخلاء إذ لو كان الخلاء ممتنعاً ذاتاً كان ملازم عدم الخلاء ـ وهو المحوي ـ واجباً ذاتاً، لكن الثاني واجب بالغير فالخلاء ممتنع بالغير، وحيث إن الممتنع بالغير ممكن فلا يلزم من علية الحاوي إمكان الممتنع ـ فتأمل. ثم إن قولهم موجد الفلك إما الجسم أو العقل يعوزه قسم ثالث وهو الواجب، فلا استقامة للدليل من أصله.

(مسألة) في النفس الناطقة وقد تقدم أنها الجوهر المفارق عن المادة في ذاته دون فعله. وعرَّفها المصنف (ره) بقوله : (وأما النفس فهو كمال أول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة) أما كونها كمالاً للجسم فواضح، واحترز بالأول عن الكمال الثاني، إذ الكمال على قسمين : (الأول) الذي يتنوّع به الشيء كالفصول يسمى كمالاً أولاً. (الثاني) ما يعرض للنوع من الصفات اللازمة أو العارضة كالعلم والقدرة ونحوهما. واحترز بقوله : (لجسم) عن الكمال للمجردات، وبتقييده (بالطبيعي) عن صور الأجسام الصناعية كهيئة السيف والسرير، وبقوله : (آلي) عن صور العناصر والمعدنيات إذ لا يصدر عنها أفعال بواسطة الآلات، وبقوله : (ذي حياة بالقوة) عن النفوس السماوية التي تصدر عنها التعقلات والحركات الإرادية التي هي من أفعال الحياة بالفعل لا بالقوة، بخلاف ذوات النفوس فإنها تصدر عنها الحركات بالقوة.

(مسألة) في أن النفس الناطقة ليست هي المزاج (وهي) أي النفس (مغايرة لما) أي للمزاج الذي (هي) أي النفس (شرط فيه) أي أن النفس شرط لحصول المزاج فلا يكون عين المزاج وذلك لوجوه: (الأول)

(لاستحالة الدور). بيان ذلك : أن المزاج واقع بين أضداد تريد الإنفكاك والنفس تجبرها على الالتيام، فلو كان المزاج هي النفس لزم تقدم المزاج على نفسه وهو دور بمعنى لزوم تقدم الشيء على نفسه ـ فتأمل.

(الثاني) (وللمانعة في الاقتضاء) فإن النفس تقتضي شيئاً والمزاج يقتضي شيئاً آخر، فإن الماشي مزاجه يقتضي السكون ونفسه تقتضي الحركة. فتبين أنهما شيئان إذ لا يعقل أن يقتضي شيء واحد أمرين متقابلين.

(الثالث) (ولبطلان أحدهما مع ثبوت الآخر). وتقريره على ما في القوشجي : إن النفس تبقى عند بطلان المزاج، فإن زيداً مثلاً له مزاج عند طفوليته ككون مزاجه حاراً لا يبقى ذلك المزاج عند بلوغه إلى سن الشباب فيصير مزاجه بارداً مثلاً، ولا شك أن الباقي غير الزائل.

(مسألة) في أن النفس غير البدن لأمور :

(الأول) ما أشار إليه بقوله : (و) النفس مغايرة (لما يقع الغفلة عنه) فإنّا قد نغفل عن بدننا ومع ذلك نتصور أنفسنا، فلو كانت النفس عين البدن لم يعقل التفكيك إذ الشيء الواحد إما متصور وإما مغفول عنه، وقوله : (لما يقع) الخ عطف على قوله : (لما هي شرط فيه).

(الثاني) ما أشار إليه بقوله : (و) هي مغايرة لما يقع (المشاركة فيه) فإن البدن جسم والجسم يقع المشاركة فيه بين جميع الأجسام، فلو كانت النفس هي البدن لزم مشاركة جميع الأجسام في النفس وهو باطل فاتحاد البدن مع النفس باطل. وإن شئت قلت : النفس مختصة، والجسم ـ الذي هو البدن ـ مشترك، والمشترك غير المختص، فالنفس غير البدن.

(الثالث) ما أشار إليه بقوله : (و) هي مغايرة لما يقع (التبدل فيه) فإن أجزاء البدن تتبدل والنفس باقية بحالها، والمتبدل غير الباقي. أما أن أجزاء البدن متبدلة فلأن البدن دائماً في التحليل بسبب الحرارات الداخلية والخارجية ولذا يظهر الهزال بمجرد الإسهال لأنه لا يصل إلى الأعضاء بدل ما يتحلل، وأما أن النفس باقية فللقطع بأن نفس زيد في حال هرمه هو نفسه في حال طفولته.

 

1 ـ تذكير الضمير الراجع إلى المادة باعتبار تأويلها إلى المحل.