الفهرس

المؤلفات

المذكرات

الصفحة الرئيسية

 

هكذا رأيت المدينة

كربلاء المقدسة مدينة تقع في غرب العراق، من بلاد آسيا، نشأت فيها واحتضنتني خمسة وثلاثين عاماً، لم أر فيها إلا الخير والسعادة والتقدم، ولم ألمس من أهاليها إلا الإشفاق، والطيب والنزاهة، وهنا سؤال يفرض نفسه، هو: كيف تقول: لم أر فيها إلا الخير والسعادة والتقدم؟ والمعروف أنك قد اضطهدت فيها، بألوان من الاضطهاد، وناوئك بعض القاطنين فيها؟ والجواب على ذلك واضح جداً فإني أرى مفهوم الخير ما يعنى به في الدعاء الذي نقرأه في صلاة كل عيد: (اللهم أدخلني في كل خير أدخلت فيه محمداً وآل محمد، وأخرجني من كل سوء أخرجت منه محمد وآل محمد..) وقد اضطهدوا وعذبوا، وأهينوا وشردوا وقتلوا، وإن كل ذلك كان خيراً، فإن الخير هو أن يتمكن الإنسان أن يقود المجتمع، وأن يهيئ الخير والرفاه لبني الإنسان، وأن يعمر آخرته، وبعد ذلك لا فرق أن يكون في عرش الملك مثل النبي سليمان على نبينا وآله و (عليه السلام)، أو مبضعاً تحت سنابك الخيل مثل الشهيد الحسين بن علي (عليه السلام)، وبهذه المناسبة يروى: أن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قال ذات مرة: (إني لم أحسن إلى أحد قط ولم أسيء إلى أحد قط) ولما أستغرب السامعون هذا الكلام وقالوا: يا أمير المؤمنين ألم يسيؤا إليك، ألم تحسن إلى الناس؟ قال (عليه السلام): إن الله سبحانه يقول في كتابه المجيد (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) فكل ما عملت من الإحسان كان إلى نفسي، وكلما أساءوا كان إلى أنفسهم. إنني بهذا المنظار أرى الخير، وبهذا المعنى رأيت في كربلاء المقدسة كل خير ورفاء، أما الاضطهاد فقد زاد تجاربي، وعلمني طرق الخير أكثر فأكثر، وشحذ ذهني وقوى عزيمتي، هذا بالإضافة إلى ما أرجوه من الثواب والأجر في الآخرة، أما إساءة بعض الناس فقد قال تعالى: (إنما بغيكم على أنفسكم).. إن مهمتي في كربلاء المقدسة كانت هادفة إلى ترويج الإسلام، وتعريف الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين إلى الذين لا يعرفونهم، وخدمة البلاد الإسلامية، وبالأخص خدمة كربلاء المقدسة، باعتبارها مشهد الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته الأطهار، وهذا ما وفقت له إن قليلاً أو كثيراً.

بين الإقامة والرحيل

وإني لم أزل ـ وأنا خارج عن كربلاء ـ أهدف هذا الهدف نفسه: أما المواقع التي كنت أنطلق منها فهي: تحري (الحقيقة) و (الصبر) و (الرفق): وأما طريقتي فيوجزها المثل القائل: (ينتظرون منك كل شئ، ولا تنتظر من أحد شيئاً) و (يقولون فيك كل سوء ولا تقل في أحد سوءاً) ولعل المفتاح الرئيسي لنجاحي في تلك المهمة، إن صح أني كنت ناجحاً، هو مواقعي وطريقتي.

والآن وقد فارقت كربلاء المقدسة في ليلة السبت (18) شهر شعبان المعظم 1391 هجري. وقطنت بالكويت بعد بضعة أيام نهبها الطريق عبر سوريا ولبنان، لابد وأن التفت إلى تلك المدينة الجميلة الطيبة المقدسة، لأسجل ما رأيت فيها وما عملت، وما أنا بانتظار أن تتقدم المدينة إليه من الغايات، ـ وبعبارة أخرى كيف تركت كربلاء المقدسة،وهي إلى أين؟ ـ قد جهدت حين الكتابة، أن يكون ما أكتب مطابقاً للواقع، وفي نفس الوقت تجنبت الزوايا الحادة، حتى لا أسيء إلى أحد حسب المقدور.

تلميذ كربلاء

كنت في التاسعة من العمر، حينما هاجرنا إلى كر بلاء المقدسة بصحبة والدي (رحمه الله) بطلب من آية الله المجاهد الحاج أقا حسين الطباطبائي القمي (رحمه الله)، وأودعني أبي تلميذاً عند المرحوم الشيخ علي أكبر النائيني (رحمه الله) الذي كان معلماً للأطفال وكتاباً من الكتاتيب، وكان كتابه في الجنوب الشرقي من الصحن المقدس للإمام الحسين (عليه السلام)، وقد كان (ر ه) مثالاً للتقوى والفضيلة، والتربية الإسلامية الصحيحة، وإني أدين له بمعلوماتي الأولية (بدءاً من الأبجدية وانتهاءاً إلى الأمثلة) الذي هو المدخل الرسمي للعلوم الدينية التي يمارسها طلاب العلوم الدينية.

وقد كان (ر ه) خطاطاً متفوقاً فأدين له ثانية بجودة خطي الذي ربما يعد جيداً، وما دارت الأشهر والسنوات حتى تخرجت من المدرسة الأكبرية (مدرسة الشيخ علي الأكبر) لأحشر مع طلاب علوم الدين في كر بلاء المقدسة، فأخذت أتردد على المدارس الدينية، وكانت المدارس الدينية يوم ذاك: (الهندية) و (البادكوبة) و (حسن خان) و (المهدية) و (ميرزا كريم الشيرازي) و (الصدر) و (الزينبية) وقد هدمت الأخيرتان عندما فتح شارع الحائر وهو الشارع المحيط بصحن الإمام الحسين (عليه السلام). وتربيت على يد أساتذة عظام،و إعلام في الأدب والفقه والأصول والحساب وغيرها،و كان أكثر تتلمذي على سيدي الوالد (ر ه) فقد قرأت عنده (السيوطي في النحو) و (الحاشية في المنطق) و (المعالم في الأصول) و (شرح اللمعة في الفقه) و (مقامات الحريري في الأدب) و (المطول في البلاغة) و (وخلاصة الحساب في الحساب)، وقرأت عنده في المحاضرات الاجتهادية في (درس الخارج): الرسائل،و المكاسب،و الطهارة، والصلاة والصوم. والخمس، و الحج،و رسائل متفرقة أخر،كما إني درست بالإضافة إلى ذلك (الكلام في أصول الدين) و (الحكمة في الفلسفة) والجغرافية، والهندسة والعروض، والتجويد، وعلم الفلك، وتفسير القرآن الحكيم، والتاريخ، وعلم الحديث، وعلم الرجال والطب. وبعض العلوم الأخر. كما تعلمت من اللغات الإنكليزية، والأردية، والتركية، بالإضافة إلى اللغتين العربية والفارسية، ولكن عدم الممارسة والمشاكل التي أناخت علي بكلا كلها أنستني أكثر الكلمات من اللغات الثلاث الأول، فلا أحفظ الآن منها إلا شيئاً قليلاً، وبالجملة فلعلي أتمكن أن أقول أن الأساتذة التي تتلمذت عليهم أكثر من مائة أستاذ.

ملكة الحفظ

وقد وفقني الله سبحانه لحفظ القرآن الحكيم وقسم من نهج البلاغة وبعض أدعية الصحيفة السجادية وجمهرة من الادعية، والأحاديث ومسائل الفقه الإسلامي، كما حفظت ألفية بن مالك، و (كتاب السيوطي الذي هو شرح على الألفية)، و (متن المطول في البلاغة) و (متن التهذيب في المنطق) وأشعار المنطق والحكمة للسبزواري ومجموعة من مقامات الحريري وغير ذلك، لكن لكثرة قرائتي وبحثي، أصبت بالتهاب في الحنجرة ونصحني الأطباء على أثرها بترك القراءة، وحيث اضطررت إلى الأخذ بنصيحتهم نسيت كثيراً مما حفظت، فما بقيت منها في ذاكرتي إلا كما تبقى الأطلال من المدن.

ثقافة المجالس

كما كنت مولعاً بالحضور في المجالس الحسينية، والتي هي كثيرة جداً في كر بلاء، ولعلّي لا أكون مبالغاً إذا قلت، أن معدل المجالس التي كنت أحضرها كل سنة، يقرب من ألف مجلس، وحيث أن المجالس كانت متنوعة مختلفة من حيث المادّة والمناسبة والصورة، فقد شحنتني بمادة غزيرة متنوعة، كما أطلعت يواسطتها على الحياة العامة، حيث أنها بسبب ما تلقى فيها من التواريخ والقصص والحكايات والنكت ترى فيها الكثير الكثير من مختلف الثقافات والأمم والأجيال والعادات والتقاليد، بالإضافة إلى أن حضور الإنسان في كل بيت مجمع للاستماع إلى الخطيب، يؤدي إلى اتصاله بمختلف أفراد الناس،من الكبير إلى الصغير ومن الشريف إلى الوضيع،و من العالم إلى الجاهل وهكذا سائر أصناف الناس، وهذا الاتصال مما يزيد في ثقافة الإنسان ويعرفه كيف ينبغي أن يعيش، وبهذه المناسبة فان ثقافة أهالي كر بلاء المقدسة رفيعة جداً، وأعني الثقافة العامة لا ثقافة الشهادات، فاكثر أهالي كر بلاء المقدسة حتى الصغار يعرفون الشيء الكثير عن الخلفاء الذين تسلموا مقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلمّ) كما انهم يعرفون كيف يعيشون عيشة الكرامة والحرية والرفاه وكيف يعاملون أهل البلاد الأخرى، على أساس المصلحة والكرامة المتبادلتين وكذلك يعرفون المسائل الشرعية، وشيئاً من تفسير القرآن الحكيم، وخطب نهج البلاغة، وأدعية الإمام السجاد، وسائر الأدعية والأعمال المستحبة، والأخلاق والآداب.