الفهرس

فهرس الفصل الأول

المؤلفات

 السياسة والدولة

الصفحة الرئيسية

 

التربية الروحية وممارسة التغيير

ومما يلزم على الممارسين للتغيير هو التضرّع إلى الله سبحانه، ودوام الذكر بقلوبهم وألسنتهم في كل حال، في المدرسة والشارع والمسجد والسوق والبيت والمعمل وفي كل مكان، كذلك التوجّه إليه سبحانه بكثرة قراءة القرآن والإستهداء به والدعاء، فقد قال سبحانه: (قل ما يعبؤ بكم ربي لولا دعاؤكم)(1).

وقال تعالى: (ادعوني أستجب لكم)(2).

ربنا يجيب الدعوات

ومن المعلوم أن بعض أدعية الإنسان تستجاب، أما ما لا يستجاب فهو لأحد أمرين:

الأول: إنه يدعو في غير دائرة الدعاء.

الثاني: إن الشرائط غير متوفرة.

أما الأمر الأول فإن دائرة الدعاء ما كان خارجاً عن إرادة الإنسان على الأغلب، أما ما هو تحت إرادة الإنسان فالدعاء لا شأن له فيه وإنما يلزم العمل.

مثلاً: من يدعو لتحصيل الولد بدون أن يتزوج، أو أن يحصل على الثمرة بدون أن يزرع أو يحصل على الماء بدون إجراء النهر إلى المزرعة، أو من يدعو لأن تكون له دار بدون أن يبني، أو يدعو لأن يشفى من مرضه بدون العلاج، أو ما أشبه فإنه لم يكن له إلا الحرمان، وكذلك من يريد تبديل الحكم غير الإسلامي إلى الحكم الإسلامي بدون أن يعمل العمل المناسب ذلك فإنه ليس له إلا الحرمان، ولذا قال النبي (صلى الله عليه وآله) لذلك الإنسان الذي ترك بعيره بالصحراء بدون أن يعقله: لماذا تركت البعير؟

قال: توكّلت على الله.

قال الرسول (صلى الله عليه وآله): (اعقل وتوكل)(3).

مشيراً إلى أن دائرة العقال غير دائرة التوكل كما أن دائرة التوكل غير دائرة العقال فدائرة العقال ما في اختيار الإنسان ودائرة التوكل ما ليس في اختيار الإنسان، كأن يصيب الثمر ثلج من السماء أو برد شديد أو ما أشبه ذلك فيفسده فإنه حيث لم يكن في دائرة قدرة الإنسان كان مكانه التوكل والدعاء والتضرع قال سبحانه: (ولو أرادوا الخروج لأعدّوا له عدّة ولكن كره الله انبعاثهم فثبّطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين)(4)، فمن يريد الخروج عليه أن يعدّ العدّة لا أن يجلس عن العمل ويدعو فقط، إلى غيرهما من الآيات والروايات، ولذا نشاهد أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان في حروبه يعمل كل ما في وسع الإنسان من العمل لأجل اكتساب الحرب من تهيئة الجيش والسلاح، وإخفاء الأمر، وغير ذلك، ثم يرفع يده بالدعاء يدعو فيما ليس بيده (صلى الله عليه وآله) من قوة قلوب المؤمنين وضعف قلوب الكافرين إلى غير ذلك.

وأما الأمر الثاني: فقد يهيّئ الإنسان كل الوسائل الممكنة لكن لا يتحقق النصر، لأنه سلك للنصر طريقاً على خلاف سنة الله في الكون حيث أن سنته جرت على كيفية خاصة لا يخرقها إلا المعجزة وقد قال سبحانه: (فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً)(5).

ثم أن بعض الناس يقولون: ما لنا لا يستجاب لنا دعاء وقد قال سبحانه: (ادعوني أستجب لكم)(6).

أو أنه لماذا لا يستجاب الدعاء عند رأس الحسين (عليه السلام) وقد ورد في الحديث: (استجابة الدعاء تحت قبته؟)(7).

والجواب أن أكثر أدعية الإنسان تستجاب فإنا في كل حاجة ومشكلة نتوجّه إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء، كأن يرفع فقرنا، أو أن نحصل على زوجة، أو المرأة تدعوا أن تحصل على زوج، أو أن يرزقنا الولد الصحيح الأعضاء، أو أن يشفينا من مرضنا أو أن نحصل على دار لائقة بنا، أو أن نسافر إلى الحج أو العمرة، أو سائر الأسفار، أو أن يرجع مسافرنا بسلام، أو أن يزيح الله (سبحانه وتعالى) العدو الذي هو في جوارنا، أو يخلصنا من مشكلة وقعنا فيها من غرق أو حرق أو هدم أو نحو ذلك، وفي غالب ذلك يستجاب دعاؤنا فعدم استجابة بعض الأدعية ليس معناه عدم استجابة الدعاء، كما أن عدم تمكن الطبيب من شفاء بعض الأمراض أو بعض المرضى، ليس معناه عدم كونه طبيباً.

وكذلك الدواء الفلاني ينفع المرض الفلاني فإذا نفع مائة مرة ولم ينفع عشرين مرة، ليس معناه أنه ليس بالدواء لذلك المرض، فإن غالب ما في الكون من باب المقتضيات لا من باب العلل التامة، كما أن الدعاء كذلك من باب المقتضى لا من باب العلة التامة، فإذا لم يستجب لنا بعض أدعيتنا لم يكن معنى ذلك أن أدعيتنا كلها لا تستجاب بل معنى ذلك أن في هذه الموارد الخاصة - لعدم وجود العلة التامة، أو لوجود المانع عن تأثير العلة - لم يستجب الدعاء.

التسلح بالدعاء والقرآن

وعلى كل حال فعلى الممارسين للتغيير أن يتوجهوا إلى الله سبحانه وتعالى بتلاوة كتابه وبالتوسل بأنبيائه وأوليائه كما قال سبحانه: (ابتغوا إليه الوسيلة)(8)، وأن يكثروا من الدعاء والضراعة كما قال سبحانه في قصة يونس(عليه السلام): (وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين)(9).

كما أن على ممارسي التغيير: أن يوسعوا صدورهم لكل من الرخاء والبلاء، فلا تبطرهم النعمة، ولا تؤيسهم النقمة، فإن في طريق التغيير يكون كل ذلك.

التصرف وفق الموازين الطبيعية

إن صاحب المال لا يسلّم مفاتيح ماله لمن ليس بأهل للحفظ، ولذا نشاهد أن الله سبحانه إنما يطُلع على الغيب ويُعطي مفاتيح القدرة الكونية لمن لا يتصرف في الكون تصرفاً خلاف إرادته الجارية في السنن الكونية، ولذا ينقل عن نصير الدين الطوسي (رحمه الله) أنه قال: (لو قدّر أن الله سبحانه وتعالى أعطاني القدرة الكاملة على إدارة الكون ما غيرت من الكون حتى شيئاً صغيراً، لأن الله سبحانه وتعالى إنما أجرى الأمور الكونية على حسب حكمة دقيقة ومصلحة تامة فكل تغيير في الكون من التغييرات التكوينية يكون خلاف المصلحة) إن الأنبياء والمعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) يملكون العلم بالمغيبات قال سبحانه: (فلا يُظهر على غيبه أحداً، إلا من ارتضى من رسول)(10) كما يملكون قدرة التغيير الإعجازي، فأحياء الموتى، وإماتة الأحياء، وإعطاء الأموال للفقراء حتى الغني وسلب مال الأغنياء حتى يفتقروا ولا يطغوا كل ذلك بأيديهم لكن لا يفعلون شيئاً من ذلك إلا في موارد خاصة إعجازية، و إلا فالله هو أعلم وأقدر على أن يفعل كل ذلك، فإذا لم يفعل شيئاً من ذلك إلا بالسنن الكونية والموازين الطبيعية التي أو دعها الله سبحانه في الكون كان معنى ذلك عدم المصلحة ولذا لا يفعله الأنبياء والأئمة الذين علمهم من عند الله وقدرتهم بإذن الله.

ثم إذا فعلوا ذلك خرجوا عن كونهم أسوة وفي هذا الصدد قال سبحانه: (ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون)(11) فمن الضروري أن يبقوا أسوة، وبقائهم أسوة يلازم عدم عملهم حسب قدرتهم الكونية وعلمهم الغيبي فلو أمات الرسول (صلى الله عليه وآله) أهل مكة عن طريق المعجزة أو بدل قلوبهم قال الناس: ليس علينا التبليغ لأن الرسول (صلى الله عليه وآله) إنما كان عليه التبليغ والجهاد لأنه كان يملك القدرة على الإعجاز، والعلم بالغيب ونحن لا نملكها فبقاء الرسول والإمام أسوة يتطلب عدم تصرفهم بالإعجاز وعدم إظهار علمهم الغيبي إلا في موارد خاصة ولذا نرى أن الرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليه السلام) كانوا يعيشون عيشة بسيطة مع أنهم كانوا يعلمون أين كنوز الأرض وورد في عيسى (عليه السلام) إنه كان يقتات بقل الأرض مع وضوح أنه كان يتمكن أن ينزّل المائدة، وأن يطّلع على كنوز الأرض فيعيش في بحبوحة من الثروة والنعمة، كما أنه كان يقدر أن يقتل اليهود الذين أرادوا قتله، فرفعه الله إليه.

وكذلك كان حال موسى (عليه السلام) الذي كان يقتات عشب الصحراء في مدة من عمره، كما أن لوطاً (عليه السلام) كان قادراً أن يجعل من الذين أتوا إليه يُهرعون، لأجل الفاحشة بضيوفه في قصة مشهورة، أن يجعلهم عمياناً ففي التفاسير والروايات أن هؤلاء الأطهار كانوا قادرين على أن يجعلوا من الحصى جوهراً ثميناً، لكنهم لم يفعلوا ذلك. فإن علمهم الغيبي وقدرتهم الخارقة لا يؤثران في تغيير سلوكهم ولذا يذهب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى المسجد مع أنه يعلم أنه يضرب في هذه الليلة، بل قبل ذلك، الرسول (صلى الله عليه وآله) يتناول السم الذي أثّر فيه - حتى أماته بعد حين - مع أنه كان يعلم أنه سم وكذلك سائر الأئمة كانوا يعلمون بوجود السم في الماء بالنسبة إلى الإمام الحسن(عليه السلام)، والرطب بالنسبة إلى الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)، والرمان بالنسبة إلى الإمام الرضا(عليه السلام)، وهكذا لكن مع ذلك لم يدخلوا علمهم في الأمر فإن العلم الخارق والقدرة الخارقة يلزم عدم العمل بهما حتى في مثل ميثم التمار الذي كان يعلم بأن ابن زياد يقتله، يأتي من مكة إلى الكوفة من زمن ابن زياد، مع تمكنه من البقاء في مكة التي ليست تحت سلطة ابن زياد، مع أنه كان يعلم أن ابن زياد يقطع يده و رجله ولسانه ويصلبه.

بل فوق ذلك، علم الأنبياء والأئمة بالحقائق لا يحول دون فرحهم وحزنهم الذي هو شأن كل إنسان، وإلا فما الذي يوجب بكاء الرسول (صلى الله عليه وآله) لولده إبراهيم، وبكاء الحسين (عليه السلام) لولده علي الأكبر، مع أنهما كانا يعلمان علماً خارقاً بل يبصران أيضاً بالبصر النفاذ أن الولدين دخلا في روح وريحان وجنة ورضوان وهل أحدنا يبكي إذا علم أن ولده دخل في بستان مع خدم وغلمان وراحة ورضوان.

وعلى أي حال فعلى الممارسين للتغيير أن يوسعوا صدورهم فإن (آلة الرئاسة سعة الصدر)(12) حتى يتمكنوا من بلوغ الهدف بإذن الله سبحانه وتعالى.

الأمانة والاختصاص

وقد بيّن الزاهد المصري فلسفة اختصاص القدرة الغيبية بمن لا يستعملها في مثال جميل.

فمثلاً: سمع رجل في بغداد بأن أحد زهاد مصر يملك اسم الله الأعظم وهو الاسم الذي ورد في دعاء سمات: (وإذا دعيت به على مغالق أبواب السماء للفتح بالرحمة انفتحت، وإذا دعيت به على مضايق أبواب الأرض للفرج انفرجت وإذا دعيت به على العسر لليـــسر تيسرت وإذا دعـــيت به على الأمـــوات للنشور انتشرت وإذا دعيت به على كشف الباساء والضراء انكشفت)(13).

فإنه إذا تلفظ الإنسان باسم الله الأعظم وطلب من الله شيئاً أعطاه الله ما أراده فوراً، وفي القرآن الحكيم إشارة إليه حيث قال سبحانه: (قال الذي عنده علم من الكتاب)(14).

وعلى أي حال قصد هذا الإنسان مصر وخدم ذلك الزاهد سنة ثم طلب منه أن يعلّمه الاسم الأعظم فأبى الزاهد، فخدمة سنة ثانية وهو يظهر الخشوع والعبادة والتبتل والإعراض عن الدنيا والزهد والتقشف، وبعد تمام السنتين طلب منه أن يعلّمه، فأبى الزاهد تعليمه، فخدمهُ سنة ثالثة وهو على عبادته وزهده وتبتله وانقطاعه وقنوته لله سبحانه وتعالى حتى صار كالشن البالي، فقال له الزاهد: لا بأس ثم أن الزاهد في يوم من الأيام أعطاه إناءاً وقال له: اذهب بهذا الإناء إلى المكان الفلاني وسلّمه إلى فلان. فأخذ الرجل الإناء وذهب به نحو المقصد وفي أثناء الطريق رأى أن شيئاً في الإناء يتحرك فتعجّب مما في الإناء وتصور أنه حيوان فلم تتركه نفسه أن لا يطلع على ما في الإناء وإنما شوقته إلى الاستطلاع و أخيراً رفع غطاء الإناء وإذا بفأرة تقفز منه إلى الخارج، فغضب الرجل غضباً شديداً ورجع إلى الزاهد قائلاً: هل جزائي بعد خدمتك ثلاث سنوات الاستهزاء والتمسخر بي؟

قال له الزاهد: وكيف ذلك؟

فنقل له الرجل: أنه رفع غطاء الإناء فقفزت منه فأرة، وهل هذا إلا التمسخر به؟

قال الزاهد: يا هذا إنك لا تؤتمن على فأرة فهل تؤتمن على اسم الله الأعظم فإني أردت أن أمتحنك بهذا وأثبّت لك أنك لست أهلاً لذلك فمن قال لك أن تخون الأمانة وترفع منه الغطاء؟

ثم طرده. وذهب الرجل خائباً.

ويحتاج ممارس التغيير بالإضافة إلى ما تقدم من الإستعانة بالله إلى صفات نفسية سامية ومواصلة عملية دائمة حتى يتمكن من إرساء سفينة الإسلام إلى شاطئ السلام بإذن الله تعالى.

الصبر على المكاره

فعلى ممارسي التغيير الاستمرار في العمل والصبر على المكاره، وما قصة نوح وسائر الأنبياء العظام والأئمة الطاهرين (عليهم الصلاة والسلام) عنا ببعيدة. ففي القرآن الحكيم بالنسبة إلى نوح(عليه السلام): (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً)(15).

ومن الواضح أن الذين آمنوا بنوح في هذه المدة الطويلة لم يكونوا حتى مائة شخص على ما في جملة من التفاسير والروايات والتواريخ ومثل هذا غير يعيد بالنسبة إلى أناس متكبرين فإن الإنسان الجاهلي متكبر معاند لا يستجيب للحق إطلاقاً وإذا استجاب فهو نادر جداً ولذا فالعجب من استجابة من استجاب له، لا في عدم إيمان من لم يؤمن به ولا بعد في أن يكون نوح (عليه السلام) قد بعث قبل مئات الآلاف من السنين، إذ القرآن يصف الفترة بين نوح (عليه السلام) وبين إبراهيم (عليه السلام) بقوله (وقروناً بين ذلك كثيراً)(16) كما أنه لا دليل قطعي على كونه (عليه السلام) كان مبعوثاً قبل سبعة آلاف سنة أو ما أشبه مما ذكره بعض التواريخ فإن التواريخ ليست حجة في هذه الأمور وإنما الحجة أحد أمرين:

الأول: أخبار المعصوم (عليه السلام) وليس في المقام دليل صحيح على ذلك.

والثاني: أن يكون هناك مشاهدون للقصة وقد كتبوا كتباً وعلمنا بانتساب تلك الكتب إليهم، وهذا أيضاً مفقود، فليس في الأمر إلا ما ليس بحجة، فإن الدنيا لم يعرف أو لها ولا آخرها ولا أدل على ذلك من أنا لا نعرف حتى اسم مائة نبي (من مجموعة مائة وأربعة وعشرين ألف نبي) وحسب تعبير البعض: أن الدنيا ككتاب سقط أوله وآخره ونحن لا نعرف إلا وسط بعض الكتاب، فلا نعرف كم كان عدد الصفحات الساقطة من الأول والآخر، وهكذا لا نعلم أن الدنيا كم تطول، هل تطول ألف مليون سنة أو أكثر أو أقل فإن العلم عند الله سبحانه وتعالى.

الدنيا دول

وقد نقل أن إسكندر الذي فتح العالم، مرّ ذات مرة بصحراء خالية عن آثار الإنسان كما لم يكن في تلك الصحراء أثر النبات أو الحيوان أو الماء.

فقال: اصنعوا لي من تراب هذه الأرض إناءاً أشرب فيه الماء حتى أعلم أني شربت الماء في إناء لم يكن من أعضاء بني آدم من السابقين الذين آلت أعضائهم إلى التراب، فصنعوا له الإناء وشرب منه الماء، فأنطق الله الإناء للعبرة، فقال الإناء لإسكندر لما قرّبه من فيه: اعلم يا إسكندر أني تراب ست وعشرين إسكندراً كانوا مثلك أخذوا العالم، ثم ماتوا وصاروا تراباً، ثم صار التراب نباتاً وحيواناً وأكله الإنسان فصار منياً، وصار إنساناً إسكندراً أيضاً، وأخذ العالم وهكذا، وأنــت الاسكندر السابع والعشرون الذي تشرب الماء في هذا الإناء الذي هو من تراب ستة وعشرين اسكندراً قبلك.

نعم إن مثل ذلك ليس ببعيد عن هذا العالم الذي خلقه الإله القديم السميع البصير العليم الحكيم، ومثل هذه القصة ينقل عن النبي الخضر (عليه السلام) حيث مر على بحر كان في أطرافه الصيادون فسألهم عن تاريخ البحر وزمانه؟

فقالوا: إنه من زمان نوح(عليه السلام).

فمر بعد خمسمائة سنة على ذلك المكان فرأى أن البحر قد زال وفي مكانه مدينة عامرة فسأل أهلها عن تاريخ بلدتهم وزمان عمرانها؟

قالوا: من بعد جفاف بحر نوح.

ثم مر على ذلك المكان بعد خمسمائة سنة فرأى المدينة بحراً ورأى صيادين حوالي البحر فسألهم عن أول تكون هذا البحر فقالوا إنه بحر من زمان نوح وهكذا تعددت القصة ثلاث أو أربع مرات وكل يزعم أنه من بعد نوح (عليه السلام) بحرٌ أو مدينة.

وفي قصة ثالثة نقل بعض الأصدقاء الطاعنين في السن من أهل طهران.

وقال: قبل خمسين سنة تقريباً كان وسط طهران مقبرة وكان الناس يهابون العبور منها في الليل لأنها كانت مأوى اللصوص بالإضافة إلى أن بعض ضعاف القلوب كانوا يهابون المرور من المقبرة خوفاً من الأموات. فقال لي أحد العلماء: أنه ذات مرة كان مغموماً لأن صاحب داره التي كان قد استأجرها لسكن عائلته أمره بالخروج منها وحيث لم يجد داراً حتى ينتقل إليها كان في غاية الهم والغم لأنه بقي متحيراً كيف يبقى في الدار وصاحب الدار غير راض؟

وكيف يخرج ولا يجد داراً ثانية؟

وفي ذلك الحال مرّ بعد أذان الصبح من تلك المقبرة قاصداً، الجانب الثاني من طهران، وإذا في الطريق يرى شاباً جميلاً حسن الوجه مرتدياً ثياباً بيضاً، متعطراً بأحسن عطر، فسلم الشاب عليه فرد العالم جواب سلامه متعجباً منه، لكن الشاب إلتفت إليه وقال له: لا تغتم أيها العالم فإن الدنيا دار زوال تنتقل بأهلها من حال إلى حال. ثم أردف الشاب دليلاً على كلامه قائلاً: اعلم أن هذه المقبرة قبل كونها مقبرة كانت مدينة، وقبل كونها مدينة كانت مقبرة، وقبل كونها مقبرة كانت مدينة، وهكذا إلى أكثر من عشرين مرة وهل تغتم بدنيا هذه شأنها، تتحول مقابرها إلى مدائن، ومدائنها إلى مقابر، وهكذا دواليك.

ثم غاب ذلك الشاب فجأة، فعلم بأنه روح ميت أو ملك أمره الله (سبحانه وتعالى) بأن يأتي إليه ليقول له هذه الكلمة المسلّية. بعد مدة قليلة وجد هذا العالم داراً مناسبة فانتقل إليها وزال غمه. وسواء كانت هذه القصص واقعية أو قيلت للعبرة بها فإنها تحكي عن حقيقة واحدة وهي أن الدنيا دار فناء لا دار بقاء ولقد قرأت قبل عشر سنوات في مجلة: بأن علماء الآثار وجدوا جمجمة في بعض مناطق إفريقيا حدد عمرها الأخصائيون بأنها كانت لإنسان قبل سبعين مليون سنة، كما قرأت أخيراً في مجلة لبنانية بأن هناك في ألمانيا وجدوا سمكة محجرة، قدّر العلماء عمرها بثلاثمائة مليون سنة.

المتابعة والمواصلة

وعلى كل حال فممارس التغيير يحتاج إلى صبر طويل، ومثابرة وتكرار، وعدم يأس، وقد نقل أحد الأصدقاء أن ممثل السفارة كان يسيء إلى أهالي كربلاء فذهب هذا الرجل إلى الوزير في طهران لينقل ذلك الموظف لكن الوزير كان من أصدقاء ذلك الموظف فلم يعر لكلامه أذناً، وهكذا كان يطرق هذا الصديق الأبواب لمهمته ولا يتمكن من قلعه كلما طرق الأبواب، وأخيراً التجأ إلى الملك وعرض له القصة فنقله الملك مما سبب تعجب ذلك الموظف الكبير وأسياده الذين كانوا يسندونه في بقائه.

ونقل صديق آخر قصة ثانية تفيد أن المثابرة والاستمرار توجب الوصول إلى الهدف وهو أن أحد الموظفين كان يسيء إلى أهالي كربلاء فذهب أحد الوجهاء إلى الوزير ليقلع ذلك الموظف لكن الوزير رفضه رفضاً باتاً، فلم ييأس الرجل وإنما ذهب إلى أصدقاء الوزير واحداً واحداً وتمكن أن يؤثر فيهم فأثروا على الوزير فقلع الموظف.

ومثل هذه القصص كثيرة وقد مرّت على كل إنسان جرّب الحياة، فعلى الممارسين للتغيير أن لا ييأسوا من مرة ومرة، وعشر مرات، ومائة مرة، وحتى من ألف مرة.

وينقل عن (أديسون) أنه وصل إلى ضبط الكهرباء في الزجاج الكهربائي (المصباح) بعد تجربة بلغت أكثر من تسعة آلاف مرة ومن الواضح أن تجربة تسعة آلاف مرة شيء مذهل وتحتاج إلى سنوات عديدة لكن لعدم يأسه وصل أخيراً إلى ما نجده في دورنا ومدننا من ضبط النار في الزجاجات المغلقة بينما قبل هذا الاكتشاف لم تكن النار ممكنة الاشتعال إلا إذا كان لها منفذ إلى الخارج. 

مواقف مشهودة

نهاية الزحف المغولي:

لما اكتسح جيش المغول النصف الشرقي من العالم الإسلامي وأراد أن يكتسح النصف الغربي منه، تمكن احد علماء مصر وهو (عز الدين بن عبد السلام) من أن يوقظ الشعب، حيث جمع الأمراء وقال لهم: (إنكم جئتم مماليك إلى بلادنا وصرتم في هذا البلد ملوكاً فمن حق البلد عليكم أن تدافعوا عنه فإن في الدفاع عنه دفاع عن الإسلام وعن حياتكم وحياة شعبكم، فإن التتر جاءوا ليقتلعوا جذور الإسلام فإذا سقطت شجرة الإسلام سقطتم أنتم وسقط الإسلام معكم) فانقادوا إلى الشيخ وأمّروا على أنفسهم ملكاً يسمى بالأمير (قطز) وسموه الملك الظافر ثم أنه اجتمعت كلمة الدولة والشعب على أن يقفوا أمام جيش المغول لكن الأمراء قالوا للشيخ: (ليس عندنا أموال للحرب فاطلب أيها الشيخ من الناس أن يتبرعوا لنا حتى نجهّز الجيش).

قال الشيخ: (لا أطلب من الناس شيئاً حتى تخرجوا ما في قصوركم من الذهب والفضة وما عند نسائكم من الحلى والزينة وأن تخلصوا في البذل لله (سبحانه وتعالى) ليأتيكم منه النصر).

فأطاعوه وأخرجوا ما عندهم ولما رأى الناس أن الأمراء يبذلون ما عندهم تسابقوا إلى البذل والجود وكثرة الأموال فأعدوا العدّة وجمعوا السلاح وأقيمت معسكرات التدريب في كل مكان واهتزت أركان البلاد بالهتاف والتكبير !.

وهكذا دب الإيمان في روحهم حتى جعلهم يشتهون الوصول إلى المعركة وإلى الشهادة كما يشتهي المحب وصال حبيبه وكان الشيخ يدور عليهم ويوقظ فيهم روح الجهاد والشهادة وكلما خبت شعلة الإيمان في بعض النفوس زادها من إيمانه نوراً فخرج الجيش على أتم هيئة وأكمل استعداد نفسي وعسكري تتقدمه فرسان المماليك حتى بلغ منطقة (بيسان) في رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة، وأراد أن ينحدر من أعالي الهضاب إلى (عين الجالوت) فوجد تحته جيش المغول الجارف الذي انحدر من صحاري تركستان وأطراف الصين إلى (عين الجالوت).

ولما رأوا هذا الجيش الضخم كادوا يجزعون من الأمر حيث تذكروا كم اجتاحت هذه السيول البشرية في طريقها من جيوش كانت أعظم خطراً من هذا الجيش الصغير مما لم تتمكن تلك الجيوش الهائلة أن تقف أمام هذا السيل الجارف فكيف يتمكن هذا الجيش الصغير الوقوف أمام السيل؟

لكن الشيخ قام يذكرهم بما يضمن لهم من النصر، استنجازاً لوعد الله واعتماداً على قوله سبحانه حيث يقول: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)(17).

وهكذا تقابل الجيشان جيش المغول وجيش مصر، فانهزم التتر الذين دكوا في طريقهم كل قوة واخترقوا كل جيش وهزموا كل جماعة (وليتبروا ما علوا تتبيراً).

إنهم انهزموا أمام الإيمان الذي يفعل العجائب، وأنقذ الله النصف الغربي من العالم الإسلامي بسبب هذا الجيش. وبهذين الشيخين (نصير الدين الطوسي) للجانب الشرقي و (عبد السلام) في الجانب الغربي تمكن المسلمون أن يحفظوا بقايا حضارتهم لكن بأسلوبين مختلفين.

ومثل هذه القصة في التاريخ الإسلامي قصص كثيرة حيث أن الله (سبحانه وتعالى) وعد المسلمين النصر فكلما خبت في نفوسهم ثورة الإيمان أيقظها الله (سبحانه وتعالى) من جديد حتى يسير الإسلام مسيره في الحياة.

صد العدوان الصليبي:

ومن تلك القصص: قصة المقابلة بين قوى الإسلام في الأندلس والمغرب وبين قوى المسيحية في أسبانيا فقد دارت بينهما معركة شديدة أظهر فيها الطرفان من الشجاعة والبسالة ما سجلها التاريخ وقد كان مرجع أمراء الأندلس (ابن عباد). فجمع المسلمين وكتبوا كتاباً واحداً بلسانهم جميعاً يستقدمون (ابن طاشقين) الذي كان معروفاً بالشجاعة ورباطة الجأش، فلبى ابن طاشقين الطلب وحشّد جيشاً ضخماً وجاز به البحر والأندلس وكان (الأذفونس) إذ ذاك مشغولاً بحرب ابن (هود) أمير (سر قسط) فلما بلغه عبور ابن طاشقين ترك حربه تلك وجمع أمراء النصارى في جيش واحد وتوجه لمحاربة ابن طاشقين الذي انضم إليه أمراء المسلمين جميعاً ومشى الجيشان إلى المعركة الفاصلة التي اجتمعت فيها جيوش النصرانية كلها في جانب وجيوش الإسلام كلها في جانب وكان اللقاء بينهما في سهل (أفيح) بالقرب من مدينة (بطليوس) والتي تسمى بسهل (الزلاقة) وكانت الواقعة في يوم الجمعة خامس عشر رجب بسنة تسع وسبعين وأربعمائة ولما اصطف الفريقان وتقابلا رأى (ابن طاشقين) إن جيش المسلمين آخذ بالإنهزام فهجم بنفسه يتلقى بصدره الحراب من المسيحيين وقد حف به أبطال المغرب وضربوا الطبول الضخمة فارتجت الأرض ووقف الهجوم الإسباني وشق (ابن طاشقين) جيش الإسبان واخترقه حتى احتل قيادة (الأذفونس) فلما صار فيها، عاود الإسبان الهجوم أشد وأقوى من الهجوم الأول، فانخرقت جبهة المسلمين، ولكن المسلمين أعادوا الهجوم واحتلوا مقر القيادة الإسبانية، فهجم الإسبان للمرة الثالثة هجوم المستميت اليائس، فترجل الأمير (ابن طاشقين) وهو يومئذ شيخ في نحو الثمانين وترجل معه نحو أربعة آلاف من المسلمين ووقفوا كأنهم بنيان مرصوص وبأيديهم الأتراس والسيوف وقفز واحد منهم على فرس (الأذفونس) فقبض على عنقه بيد، وطعنه بخنجره في رجله بأخرى، فاخترق الخنجر الدرع وثبت في رجله ففر ورجله المثبت فيها خنجر المسلم المجاهد معلقة بالرسن فوقعت الهزيمة الكبرى في جيش الإسبان وتم النصر المحتم كما وعد الله (سبحانه) وقد عادت للأندلس وحدتها تحت راية إسلامية بينما كانت على وشك السقوط فأخرت هذه المعركة الحاسمة سقوط الأندلس أربعمائة سنة كل ذلك بسبب الهمة العالية للمسلمين واطمئنانهم بوعد الله (سبحانه وتعالى) ونصره. 

وقفه ضد بريطانيا:

وكذلك كان وقوف البطل المجاهد الشيخ ميرزا محمد تقي الشيرازي أمام بريطانيا التي لم تغرب الشمس عن ممتلكاتها (كما كانوا يقولون) فقابل البريطانيين ذات الألف وخمسمائة مليون نسمة - حيث كان تحت لوائهم الهند والصين وجملة من أفريقيا وغيرها - زهاء مليونين ونصف من المسلمين الصادقين في العراق من العشائر المجاهدة فتمكنوا أن يهزموهم بإذن الله سبحانه وتعالى شر هزيمة وأقام الإمام الشيخ في العراق أو ل حكومة إسلامية بعد إخراج البريطانيين منها وقد ذكرنا تفصيل هذه القصة في بعض كتبنا وحيث لم يوجد مثل هذا الجهاد في الهند بقي البريطانيون فيها زهاء ثلاثة قرون.

نعم هكذا يفعل الإيمان الصادق والجهاد المستميت:

وكـــــم لله مـــن لطف خفــي          يـــــدق خفاه عـن فهم الذكـــيّ

وكم يسر أتي من بعد عسـر          ففـــرّج كـــربة القلب الشجــــيّ

إذا ضاقت بك الأحوال يومــا          فثق بــالواحـــــد الفــرد العلــيّ

توسل بالنبـــــي فــكل خطـب          يهـــــون إذا تــــوسل بالنبــــيّ

ولا تجزع إذا مــا ناب خطب          فكــــم لله مـــــن لطف خفــــــيّ

جمع الطاقات والقدرات

يجب على الإنسان الممارس للتغيير أن يعرف أن تجمع القطرات تسبب تكوّن البحار، وتجمّع صغار الرمال يسبب تكوّن الصحاري، وتجمّع الخلايا الصغيرة يكوّن بدن الإنسان والحيوان والشجر إلى غير ذلك فعلى الإنسان الذي يريد ممارسة التغيير أن يجمع القطرات من أجل هدم الأبنية السابقة وتشييد الأبنية الجديدة مهما طال الزمن ومهما احتاج إلى ضم قطرة إلى قطرة وذرة إلى ذرة وعمل إلى عمل وجهاد إلى جهاد وذلك بفارغ الصبر، وجميل الإنتباه.

وقد نقل بهذا الصدد أن إحدى مراكز العبادة في بلد من البلاد الغربية احتاج ترميمه وتقويته وجلب الناس إليه إلى كمية من المال قدّرت بثلاثة ملايين على أقل تقدير، ولما لم يتمكنوا من جمع هذا المال من الأثرياء والمتبرعين من أهل الخير، فكروا في طريقة أخرى وهو أن يجمعوا المال بسبب جمع رؤوس قناني المشروبات التي تلقى في الشوارع، فاستأجروا عدداً من العمال وزوّدوهم بعربات ليدوروا في الشوارع ويجمعوا رؤوس القناني التي يلقيها الناس في الشوارع بعد شربهم المرطبات فجمعوا خلال سنة من رؤوس القناني ما كان ثمنها ثلاثة ملايين.

من طرق الجهاد:

ويقال أن رجلاً خيّراً يكنى (بأبي البركات) كان يزوّد المجاهدين بالأفراس إذا كانوا يريدون الذهاب إلى الجهاد والمرابطة فإذا رجعوا أرجعوا الفرس إليه ليزود بها آخرين وإذا لم يرجعوا أو أرادوا أن يستبدوا بالفرس فهو لهم حسب قرارهم معه.

وذات مرة طلب (أبو البركات) من أحد بياعي الأفراس أن يبيعه مائة فرس فاستصحبه البائع إلى اصطبله، وفي الطريق كان أبو البركات يمشي خلف البائع ونظر الرجل إلى خلفه، فرأى أن أبا البركات يجمع الأوساخ ويضعها في كيس معه، فتعجب الرجل من ذلك وبعد أن اشترى أبو البركات منه الأفراس قال له البائع: هل تسمح لي أن أسألك؟

قال: نعم.

قال: إني رأيتك في الطريق تنحني مرة تلو أخرى، فهل ضاع منك مال أو ضل منك شيء تنشده؟

ضحك أبو البركات وقال: كلا إني كنت أجمع النفايات.

قال الرجل: نعم وإني رأيت ذلك، لكني احتشمت أن أقول لك في أو ل الأمر. لماذا كنت تجمع النفايات؟

قال: اعلم أيها الرجل إن أكثر ما أشتري به الأفراس التي أزوّد بها المجاهدين في سبيل الله هو ثمن النفايات التي أجمعها من الشوارع والأزقة فإني أجمع النفايات يومياً وأذهب بها إلى سطح داري وأميز بين محتوياتها، وبعد كل ثلاثة أشهر أو أكثر أذهب بها إلى الذين يشترونها فأحمل قطع الحديد إلى الحدادين وقطع الخشب إلى النجارين وبعر الحيوانات إلى الزارعين سماداً، وإلى الخبازين وقوداً لطبخ الخبز وقشر الرمان إلى الصباغين تثبيتاً للألوان وهكذا سائر المواد الأخرى وأجمع من ثمنها هذا المال الذي أشتري به الأفراس.

من طرق التجارة:

وفي قصة شبيهة لهذه القصة، ينقل عن أحد تجار بعض البلاد أنه كان جالساً في متجره فرأى أن ريفياً ينظر إلى الشارع بدقة ويمشي هنا وهناك مما يظهر منه أنه يفتقد شيئاً، فطلبه التاجر وقال له: هل تبحث عن شيء ضاع منك؟

قال: لا.

قال: فما تريد من نظرك بدقة إلى الأرض هنا وهناك؟

قال: اعلم أني سمعت أن في هذه المدينة نقوداً مبعثرة في الشوارع فقصدتها لذلك لكني من الصباح إلى الآن أفحص في الشوارع ولم أجد حتى فلساً واحداً فضحك التاجر وعلم أن الذي قال له هذا الكلام ماذا أراد من كلامه.

فقال له: نعم يوجد في شوارع هذا البلد نقود لكنها مشروطة بشرط والشرط أن تعمل بكلامي.

قال: فما هو؟

فأعطاه التاجر كمية من المال وقال: استأجر بها غرفة في الخان الفلاني ومركبة للبضائع لمدة شــهر واسترزق ببقية المال رزقاً متوسطاً أو دون المتوسط اجعل عملك من الصباح إلــى الليل أن تدور في الشوارع والأزقة وتحمل معك في هذه المركبة كل ما تلقى من النفايات وتذهب بتلك النفايات إلى سطح الخان وتوزعها في أماكن مختلفة، كل شيء مع جنسه، وبعد شهر تأتي عندي فعمل الريفي بكل ذلك، وبعد شهر جاء إلى التاجر فاستصحبه التاجر إلى سطح ذلك الخان فرأى شيئاً كبيراً من الحديد والخشب وغير ذلك مما قد جمعها الريفي أكواماً كما أوصاه ثم أمره أن يأتي ببعض الخبازين والحدادين والصباغين والنجارين والنساجين إلى السطح فأتي الريفي بهم فباع التاجر قطع الحديد للحداد وقطع القطن المجتمع للنساج وهذا حتى صار مالاً لا بأس به فأخذ التاجر منه المال الذي أقرضه له وقال: عليك بهذا العمل حتى تصبح تاجراً فلم تمر سنوات إلا وأصبح الريفي من التجار الكبار في ذلك البلد.

ولا أنسى كيف أن بعض اليهود في كربلاء المقدسة قبل سنة ثمان وأربعين (م) التي اغتصبوا فيها فلسطين كانوا يدورون في الشوارع والأزقة ويشترون من البيوت الأمتعة البالية والنفايات (كالزجاج المكسر) و(القطن البالي) و(الأوراق الباطلة) و(الألبسة الممزقة) وغيرها وكانت البيوت تجمع نفايات البيت وتبيعها لليهود بأثمان زهيدة وكنا نسأل بعض كبار السن عن ماذا يفعل بها اليهود؟

فكانوا يقولون: أنهم يبدلونها إلى أمتعة تنفع وتباع.

وكثيراً ما كان أصحاب البيوت يفرحون بمجيء هؤلاء اليهود لاشتراء نفاياتهم، لأنهم إذا لم يشتروها منهم اضطروا إلى إلقائها في المزابل، بينما يشتريها اليهود منهم، فيرفعون عنهم الأوساخ ويعوضونهم بالمال.

التحلي بالهمة العالية

ومن صفات من يريد إنقاذ بلاد الإسلام وممارسة التغيير أن يكون عالي الهمة وقد قال علي (عليه السلام): (المرء يطير بهمته كما يطير الطائر بجناحيه) وإنا لا نرى إحدى السلسلات العلمية وأولى المكانة الاجتماعية والدولية إلا وقد كان أو ل السلسلة عالي الهمة فبنى بهمته لنفسه ولأعقابه الذين من بعده مكانة وسمعة وحركة ونهضة وقد قال الشاعر حول رسول الله (صلى الله عليه وآله):

له همــــم لا منتهـى لكبارها          وهمته الصغرى أجل من الدهر

وقال شاعر آخر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):

صعدنا لآفاق السماء بيمنــه          وإنا لنبغــي فــوق ذلك مظهرا

ولما أنشده أمام الرسول (صلى الله عليه وآله) قال له الرسول (صلى الله عليه وآله) : (وما تبغي فوق ذلك؟).

قال الشاعر: (الجنة).

فتبسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلو همته(18) لأنه من الواضح أنه ليس فوق الجنة ومرضاة الله (سبحانه وتعالى) شيء آخر، فقد قال سبحانه: (وأن إلى ربك المنتهى)(19) فإن الوصول إلى رضاه وجنته فوق كل مطلب مما لا يكون لإنسان مطلب فوق ذلك.

وقد قال (صلى الله عليه وآله) تحريضاً للمسلمين على طلب العلم: (اطلبوا العلم ولو بالصين)(20).

وقال (صلى الله عليه وآله): (لو كان العلم في الثريا لناله رجال من فارس)(21).

ومن المعلوم أن الوسائل الحديثة التي وصلت إلى القمر وإلى ما فوق القمر، لم تصل بعد إلى الثريا.

أقسام الهمم:

والإنسان يرى في المجتمع كلا القسمين من الناس صغير الهمة وعاليها، وقد رأيت إنساناً في اضطرابات العراق أيام الشيوعيين وقلت له ألا تعمل؟

فقال: إني أديت رسالتي، ولما تحققت عن ذلك تبين أنه قد ألف كتاباً من مائة صفحة في شأن من الشؤون الهامشية فتصور أنه قد أدى رسالته بهذا الكتاب الصغير الهامشي بينما كان اللازم عليه أن يؤدي خدمة كبيرة لما كان يتمتع به من مكانة إجتماعية رفيعة.

ومن المعروف في المثل المضروب لأمثال هؤلاء: إن عمله زوبعة في فنجان، ويقال عن لسان الحيوانات: أنه دخل مقدار قليل من الماء في جحر فأرة فأخذت تصيح: إن الدنيا قد غرقت بالسيل.

ورأيت إنساناً كان يؤلف شرحاً على نهج البلاغة، فقال له إنسان صغير الهمة: إن عملك هذا أعظم من القباب الكبيرة، إلى غير ذلك من الأمثلة لصغار النفوس في قبال أمثلة أخرى لكبار النفوس. قال الشاعر:

وإذا كانــــت النفوس كباراً           تعبت فــي مرادها الأجسام

تحمل الصعوبات

شواهد تاريخية:

على ممارس التغيير تحمل الصعوبات، فإن تحمل الصعوبات تسجل للإنسان التاريخ المشرق وتدفع الأجيال إلى الأمام ولذا نرى النبي (صلى الله عليه وآله) كيف تحمل المشاق الجسدية والروحية، وهكذا بدأت الصديقة الزهراء (عليها السلام) تتحمل الصعوبات المنزلية وغير المنزلية وقاست مصاعب الهجرة واستشهدت أخيراً.

والإمام عليّ (عليه السلام) واجه الصعوبات الكبيرة النفسية والجسدية والحروب المهولة وقُتل أخيراً.

والإمام الحسن (عليه السلام) تحمل الصعوبات الكبيرة وخاض الحروب وأخيراً قُتل في سبيل الله.

والإمام الحسين (عليه السلام) استشهد في تلك الصورة المفجعة المعروفة.

وكذلك نرى غيرهم من الرجال الكبار الذين التف حولهم الناس، كميثم التمار، وحجر بن عدي، والكميل، وقنبر، وهكذا بالنسبة إلى سائر الأوصياء والأنبياء والأئمة (عليه السلام) والذين كان الناس ملتفين حولهم.

وقد ذكر بعض المؤرخين أن أصحاب عيسى (عليه السلام) الإثني عشر: قتلوا كلهم بأسباب مختلفة بعد رفع عيسى إلى السماء، فبعضهم قتل حرقاً، وآخر غرقاً، وثالث بالسيف ورابع بالصلب، وخامس برميه بالحجارة، وسادس بتعذيبه حتى استشهد تحت التعذيب، وهكذا وهلم جرا.

وهكذا كان حال أبي ذر الغفاري (رضوان الله عليه) حيث تحمل الصعوبات في سبيل تبليغ رسالات الله (سبحانه وتعالى) كما قال سبحانه: (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله)(22).

فتحمل الجوع والفقر والمرض والتبعيد وغير ذلك لكنه تمكن من تغيير المفاهيم الجاهلية إلى المفاهيم الإسلامية التي جاء بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإنه وإن مات جوعاً في الربذة في حالة غربة وتشريد، لكنه ركز لواء الإسلام وجعل من نفسه علماً إلى هذا اليوم.

بينما نرى (زيد بن ثابت) - الذي التف حول السلطة وصار له من المال الشيء الكثير حتى حدثنا التاريخ عنه بأنه لما مات قسم الذهب من إرثه بالفؤوس بين ورثته - لم يبق له ذكر مشرق ولم يكن علماً كأبي ذر.

وهذا الأمر ليس خاصاً بمن يمارس التغيير وإنما هو عام لكل من يريد التقدم والرقي لشيء أو يريد تقدم نفسه في سبيل الله (سبحانه وتعالى) ليكون كما قال تعالى في كتابه: (واجعلنا للمتقين إماماً)(23).

فإنه يجب عليه السهر والتعب والمشقة.

أمثلة لرجال الصعوبات

رجل العلم والتأليف:

فمثلاً في البعد التأليفي نرى أن صاحب الجواهر (قدس سره) أتعب نفسه الشريفة ليل نهار حتى خلف هذا السفر الضخم وينقل في أحواله: أنه كان له ولد طيب بار بوالده مجد في توفير معيشته فمات هذا الوالد فحزن صاحب الجواهر عليه حزناً كبيراً وظل يفكر في أمرين:

الأول: أنه من يعيّشه حتى يتم الجواهر فإنه لا يريد الاشتغال بالمعاش ليذهب من وقته.

الثاني: أنه ما هو مصيره في الآخرة، هل هو من أهل السعادة أو لا - والعياذ بالله -؟

لأنه في الغالب يكون الأمر مجهولاً للإنسان بالنسبة إلى الدار الباقية، وحيث أن وفاة هذا الولد كان قريباً من الليل وضعت جنازته في البيت حتى يأتي الصباح ويجتمع المشيعون لتجهيزه فأخذ صاحب الجواهر الورق والقلم والكتاب والمحبرة وجلس عند جنازة الولد يكتب ويبكي ويكتب ويبكي وهكذا حتى الصباح ثم لما نقلوا الجنازة إلى الحرم المقدس كان صاحب الجواهر في التشييع ولما دخل إلى الصحن سمع هاتفاً غيبياً يقول له (نحن خير لك منه، ونحن خير له منك) وكان الأمر كما سمع فإنه قد درّ عليه الرزق من بعد الولد مما سبب إتمام الجواهر بدون أن يشتغل بالمعاش وقد صار علماً من علماء المسلمين يذكر إلى اليوم في الحوزات العلمية رحمه الله.

وكذلك ينقل في أحواله أنه كان إذا ذهب إلى المقبرة لأجل قراءة الفاتحة للأموات استصحب معه الكتاب والورق والقلم والمحبرة فإذا جلس هناك عند قبر ولده أو سائر القبور أخذ يكتب الجواهر هذه المدة عوض أن يقرأ القرآن باستثناء قراءة الفاتحة والسورة حيث كان يرى اشتغاله بالعلم أو لى من قراءة القرآن، وقد ورد في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) خاطب به أبا ذر قائلاً: يا أبا ذر (ساعة في طلب العلم أفضــل عند الله سبــحانه وتعالى من ختمــــة إثني عشر ألف قرآن)(24).

إنسان الفقه والحديث:

وينقل عن صاحب الحدائق أنه وقعت حرب أهلية بين طرفين متحاربين فأحرق أحد الطرفين داره فأخذ صاحب الحدائق قلمه ومحبرته وكتابه ودفتره وهرب من داره إلى دار أخرى فأخذ يكتب هناك والدار والأثاث يشتعلان.

بطل الحديث والتاريخ!

ونقل ناقل عن المرحوم الشيخ عباس القمي (رحمه الله) قائلاً: كنت أذهب من (أراك) إلى (قم) في سيارة لي وإذا بي أرى الشيخ عباس القمي في أثناء الطريق في الصحراء المقفرة جالساً على الأرض وهو يكتب فتقدمت إليه وسلمت عليه وقلت له: شيخنا ماذا تفعل في هذه الصحراء المقفرة وكيف جئت إلى هنا ومن جاء بك وما هذا الذي تكتب؟

قال (رحمه الله): كنت في سيارة قاصداً من أراك إلى قم وفي أثناء الطريق تعطلت السيارة فجاء السائق وأمر بنزولي قائلاً: أن توقف السيارة من شؤمك فانزل وأرحنا، وثم أنزلني قهراً، فنزلت مكرهاً وفكرت في أن لا يذهب وقتي هدراً ولذا أخذت في التأليف (وكان ذلك في أيام البهلوي الأول الذي حارب الدين ورجاله والعلم وأصحابه بأمر من أسياده المستعمرين الذين جاءوا به).

قال الرجل: فقلت للشيخ وكم لك في هذه الصحراء؟

قال: ما يقارب الساعتين.

قال: فأخذته في سيارتي وجئت به إلى قم.

رجال الفقه والأصول:

ولا أنسى أيام كنت بصحبة والدي (رحمه الله) وقد كان بصحبة المرحوم السيد حسين القمي رحمه الله - الرجل العالم والمجاهد المشهور - وكان بصحبته أيضاً آية الله العظمى السيد الميلاني (رحمه الله) وغيره، وكنا قد ركبنا السيارة من كربلاء إلى سامراء وفي أثناء الطريق عطبت السيارة فسأل المرحوم القمي السائق عن المدة التي يستغرقها إصلاح السيارة؟

قال السائق: عشر دقائق، فتوجه القمي (رحمه الله) إلى خادمه وقال له: افرش في الصحراء وأنزل الكتب، فنزل ونزل أصحابه: والدي والسيد الميلاني وغيرهما.

فقال لهم: نتباحث لئلا يذهب وقتنا اعتباطاً فأخذوا في المباحثة حتى تهيأت السيارة، فركبنا جميعاً وتوجهنا إلى سامراء.

بطل التأليف والتصنيف:

وينقل عن العلامة الحلي رحمه الله أنه كان في أيام الخميس يقصد كربلاء المقدسة من الحلة وهو على حماره ويرجع يوم الجمعة، لكنه كان إذا ذهب إلى كربلاء ورجع لا يترك الوقت يذهب سدى بل ينتهزه للكتابة وهو على دابته مما سبب عدم تمكن أحد من قراءة خطه إلا ولده فخر المحققين فإنه هو الذي بيّض مسودات والده التي كتبها على الدابة ولذا نجد اليوم بعد مضي ما يقارب من سبعة قرون قد بقي العلامة الحلي علماً من الأعلام وآخذاً بزمام الحوزات العلمية.

فيجب على ممارسي الحركة أن يكونوا أشداء في سبيل الهدف ويتحملون المشاق والصعوبات برحابة صدر حتى يصلوا إلى ما يهدفون من خدمة الإسلام ورفع رايته وتوحيد بلاده تحت ظل حكومة شرعية واحدة بإذن الله تعالى.

 

1 ـ سورة الفرقان: الآية 77.

2 ـ سورة غافر: الآية 60.

3 ـ كنز العمال: ج3 الرقم 5687.

4 ـ سورة التوبة: الآية 46.

5 ـ سورة فاطر: الآية 43.

6 ـ سورة غافر: الآية 60.

7 ـ بحار: ج36، ص385، الباب41 ح107.

8 ـ سورة المائدة: الآية 35.

9 ـ سورة الأنبياء: الآيتان 87-88.

10 ـ سورة الجن: الآية 26-27.

11 ـ سورة الانعام: الآية 9.

12 ـ نهج البلاغة: قصار الحكم 176.

13 ـ مفاتيح الجنان المعرب: ص71.

14 ـ سورة النمل: الآية 40.

15 ـ سورة العنكبوت: الآية 14.

16 ـ سورة الفرقان: الآية 38.

17 ـ سورة محمد: الآية 7.

18 ـ العقد الفريد: ج6، ص125.

19 ـ سورة النجم: الآية 42.

20 ـ بحار الأنوار: ج1، ص177، كتاب العلم الباب1، ح555.

21 ـ كنز العمال: ج12، ح34121.

22 ـ سورة الأحزاب: الآية 39.

23 ـ سورة الفرقان: الآية 74.

24 ـ بحار الأنوار: ج1، ص203، كتاب العلم الباب4، ح21.