فهرس الفصل الثاني | المؤلفات |
أسس
رقي المجتمعات |
إن الله سبحانه خلق الإنسان أول ما
خلقه إنسانًا، وقد دل على ذلك مختلف الأديان،
أما التفصيل الذي ذكره الماديون من أن أصل
الإنسان كان حيواناً، فقد دلت الأدلة على عدم
صحة ذلك، وقد زود الله الإنسان بأمور خمسة: 1 ـ
الفكر. 2 ـ
النطق. 3 ـ
الكتابة. 4 ـ
إمكانية تطوير ما حوله بسبب اليد والرجل
والحركة. 5 ـ
كونه اجتماعياً. فإن الإنسان بهذه الأمور الخمسة،
تمكن من تدرج إلى مدارج الرقي. فبالثلاثة
الأولى تمكن الإنسان أن يستوعب علماً كثيراً
وثقافة واسعة بالنسبة إلى ذاته وبالنسبة إلى
ما حوله. 1
ـ
حيث أن الله سبحانه خلق ملايين المخلوقات،
وقد أحصي في علم الحيوان مليون حيوان، كما
أحصي من الأشياء غير الحية مليونان، ومن
الواضح أن كل شيء من هذه الأمور ذات أبعاد
متعددة، وكثيراً ما تكون ذات أشياء وأجزاء،
مثلاً: الوردة لها جسم، وأوراق، وألوان،
وعطر، وبزر، وغيرها وحتى الشيء الذي ليس له
أجزاء، ذو أبعاد من لون وملمس وجسم وغيرها،
هذا من ناحية. 2
ـ
ومن ناحية ثانية هذه المخلوقات في حركة وتطور
واجتماع وانفصال مما يضيف إلى حالتها الذاتية
حالة أخرى، مثلاً: الوردة من ابتداء تكونها
إلى حين رجوعها إلى التراب والماء والضوء
والهواء لها حالات مختلفة، وقد قال الحاج
السبزواري: كون
المراتب في الاشتداد وإنما
قلنا: [إلى حين رجوعها] لأن الأربعة السابقة
أهم مقومات التكون ثم الشيء يتحلل إلى سابق
حاله، ولذا سمى الحكماء العالم بالكون
والفساد فإن بزر الزهرة ماكنة وفيها قوة
تتمكن أن تجذب إلى نفسها تلك العناصر
الأربعة، كلا بقدر خاص، وتمزج بينها وتغير
صورها إلى ما يناسب الزهرة من اللون والحجم
والعطر والكيفية وغيرها، ثم بعد انتهاء قوة
الماكنة تتحلل وترجع الأجزاء إلى ما كانت
عليه سابقاً من التراب والماء وغيرها. وليس
هذا بالنسبة إلى الحيوان والنبات والإنسان
فحسب، بل الجماد أيضاً في تحرك دائم، كما ثبت
في علم الذرة، وأشار إلى ذلك الإمام الصادق
عليه السلام، حيث قال لبعض أصحابه: (إن الأجرة
التي يراها الرأي جامدة ساكنة هي في حركة
دائمة). وإن
شئت قلت: إن العالم قد خلق فيه مليارات
الأجزاء، وهي مبعثرة في كل العالم، والماكنات
الصغار المودعة في الذرات تجذب ما يناسبها من
تلك المليارات فتكبر نفسها، مثلاً: بزر
الزهرة ـ وهي ماكنة أو مآت الماكنات ـ تجذب
شيئاً من العطر، واللون والطعم، والفائدة، و…
المناسبة لها، رأي حسب تركيب الله تعالى لتلك
الماكنة، حتى تبلغ بلوغها النهائي، ثم تقف
الماكنة عن الحركة لتأخذ الزهرة في التحلل،
ويرجع، كل شيء إلى الفضاء لتمتص ماكنة ثانية،
في وقت مناسب آخر الأجزاء المذكورة. وتتكون
زهرة جديدة، وهكذا. 3
ـ
ثم من ناحية ثالثة، جعل الله للكون مليارات من
القوانين، قانون حركة الأرض واحد منها،
وقانون أن النفط يعطي الدفء والضوء اثنان
منها وقانون أن في كل جزء من البدن قوة جاذبة
للغذاء، وقوة مبقية لها، وقوة غاذية، وقوة
دافعة للزائد أربعة قوانين منها، وقانون أن
في الكبد ألفي ماكنة ألف قانون منها، وهكذا. 4
ـ
ومن ناحية رابعة هناك قوانين اعتبارية
وانتزاعية ومالها تقرر في وعاء خاص وقوانين
ذهنية، مثل اعتبار الورق ديناراً، وأن
الأربعة زوج، وأن الكل أعظم من الجزء [ولو فرض
أنه لم يوجد كل وجزء، ولا ذهن ذاهن أبداً]
والصور الذهنية [والتي هي إحدى الوجودات
للشيء ـ على ما يقوله الحكماء ـ من لفظي وكتبي
وذهني وخارجي]. وكل
هذه المجموعات الأربع، هي أمور بتصور الإنسان
لها وتصديقه لها بتكون العلم والثقافة. وكثيراً
لا يصل الإنسان إلى قانون من القوانين
المودعة إلاّ بعد ملايين السنوات، ولا يهم
ذلك في كونه القانون قانوناً، كما أن الخسارة
تكون للإنسان حيث يرتبط بالواقع، ولا يعرف
السبيل إلى المخرج، حتى يصل بسبب التصاعد
الزمني والفكري والعملي إلى ذلك القانون الذي
أودعه الله في الكون. مثلا:
في باب القدرة قانون: [إن الترويض بالقدرة لا
يدوم، بينما الترويض بالإدارة يدوم] قانون لم
تصل إليه كافة الحكومات الديكتاتورية، ولذا
أخذوا يتخبطون ويقعون في تناقض مع الشعوب
ينتهي بضربهم للشعوب وأخيراً ضرب الشعوب لهم. وفي
باب التطبيق، قانون: [إن التطبيق إذا لم يكن
موافقاً للأيدلوجية، وقع التعارض بين
الأمرين، حتى ينتهي الأمر إلى طرد الأيدلوجية
للتطبيق] قانون عرف بعد تجارب كثيرة، وفشلت
ألوف القوانين التي وضعت خلافاً للأيدلوجيات. وفي
باب الاقتصاد قانون: [عدم جدوى حلّ القضية
الاقتصادية بالعقوبة] أو قانون: [أن الاقتصاد
المتين بحاجة إلى سياسة متمركزة] أو قانون: [إن
برمجة الاقتصاد تعارض القانون مما ينتهي
بانتصار أحدهما على الآخر] قوانين أودعت في
الكون، لم يصل إليها الناس إلاّ بعد معاناة
وتجارب وفشل وتعديلات. فالتاجر
إذا تكسّر، إنما يكون حل قضيته بانسحابه عن
ميدان الاقتصاد، بينما بعض الأنظمة يحل قضيته
بالعقوبات وذلك شيء غير لازم، لأن الإخراج عن
ميدان الاقتصاد هو الحل العادل فلماذا المزيد
من الحل بالعقوبة؟ والمال
يحتاج إلى الحماية في تحركه ونموه، والحماية
إنما يوفرها السياسة المتمركزة، إذ بدونها
يكون المال معرضاً للنهب، أو الصدّ أمامه عن
التحرك، مما يسبب جموده على أقل تقدير [فأن
المال جبان]. والبرمجة
سلب للحرية التي منحها القانون العام، ولذا
لابد وأن يكون أحدهما يهزم الآخر عن الميدان. إن
ما ذكرناه [من القوانين الخمس على سبيل المثال]
وملايين القوانين الأخر، بإضافة ما تقدم من
الحقائق وغيرها، هي التي تشكل مجموع العلم [في
محيط معرفتنا الإجمالية وإلاّ فلعل هناك فئات
أخر من المعلومات لا نعرفها حتى إجمالاً، ولا
نتمكن أن نشير إليها ولو إشارة مقتضبة]. والمجتمع
يكون له تلك الثقافة التي حصلها من أجداده،
وانتقلت إليه بالنطق والكتابة أو حصلها
بنفسه، وتلك الثقافة الكلية هي التي لها أكبر
الأثر في تسيير الجامعة، بالإضافة إلى المحيط
الطبيعي وغيره مما تقدم بيانه في المسألة
السابقة [في الأمور العشرة]. |
المجتمع
كلي متمايز عن أفراده |
والمجتمع
من جهة الكل، وإن كان مركباً من أفراده، فهو
حاصل الجمع فإذا ولد فرد، زاد المجتمع كماً،
وإذا مات فرد نقص من المجتمع فرد، إلا أن ما
المجتمع من ناحية الكيف كلي مستقل متمايز عن
أفراده فهو: 1 ـ قبل كل فرد فرد. 2 ـ وبعد كل فرد فرد. 3 ـ ولا يتغير بزيادة الأفراد
ونقصها. 4 ـ وهو يضغط على الفرد، ويعدل
سلوكه أو يحرفه. 5 ـ والفرد معه في تصارع دائم. ولذا
قال بعض الفلاسفة: بأن للمجتمع روحاً مستقلة،
فقد حدد أفلاطون الفرد والمجتمع في بنود سبعة: (أ)
الإنسان موجود له روح وجسد، ولابد له
لاستمرار حياته من إعطائه لوازم الحياة من
المأكل والمشرب والملبس والمسكن و… (ب)
الاجتماع كالإنسان، له روح وجسد، وإذا أريد
بقاؤه لابد وأن يعطي حوائجه الأساسية حتى
يتمكن من استمرار الحياة. (ج)
الموجودات الحية [الإنسان والاجتماع] تطلب
البقاء والدوام، ولكل منهما كيفية خاصة من
البقاء. (د)
الإنسان بالصورة الاجتماعية قابل للبقاء
وتقسيم العمل سبب دوام الإنسان وتكامله. (هـ)
الإنسان ذاتاً اجتماعي، وبالتعاون مع
الثقافة المشتركة يرتبط ببقية الأفراد
ويتعاون معهم، والثقافة عبارة أخرى عن [الفكر
الاجتماعي]. (و)
الإنسان يعيش تحت ظل نظام اجتماعي، فلابد وأن
يكون في كل اجتماع نوع من النظم والانتظام. (ز)
النظم الاجتماعي، أي الروابط التي تحكم
الاجتماع، قابلة للدرك. وكلامه،
وإن كان تاماً في بعض بنوده إلا أن بعض بنوده
الأخر محل نظر، إذ للاجتماع روح خاصة، وأما
متطلباته، إنما في آثار ومتطلبات المجموع من
حيث المجموع، حيث أن الاجتماع يوجد علاقات
جديدة، مثلاً: إنسان واحد لا يكذب ولا يضرب
ولا يستغيب ولا ينافق ولا يتزاوج، ولا يحزن
لفقد صديق ومرضه، وهكذا، فإذا صار إنسانان،
صار كل ذلك، فهل معنى ذلك أن إنسانين لهما
ثلاثة أرواح، روحان لكل واحد، وروح للمجموع؟ وأطولية
عمر الجامعة، وضغطها على الأفراد وما أشبه،
معناه أن الأفراد الآخرون موجودون قبل هذا
الفرد، كما أنهم موجودون بعده بأعيانهم أو
بأبدالهم، وإن جماعة إذا تطلبوا شيئاً كان
الفرد ـ بحكم أنه يريد أن يعيش معهم، وأنه إذا
لم ينسق معهم صعب عيشه معهم لازدرائهم به،
وعدم قضائهم حوائجه ـ مجبوراً على إعطائهم ما
طلبوه، من باب قاعدة الأهم والمهم، الكامنة
في فطرة كل إنسان حيث يقدم الأهم على المهم. ولذا
الذي ذكرناه من النظر في روح الاجتماع، لم
يوافق الحكماء الذين جاءوا بعد أفلاطون معه،
إلا نادراً، وإن ذهبوا إلى بعض بنوده السبعة
المتقدمة بل أضاف بعضهم أن الاجتماع له نداء
ضد الظلم ولذا ينبري جماعة للمقاومة مع
الحاكم الظالم مهما كلفهم من مال أو روح أو
جاه أو غيرها. ثم
إنه إذا أريد معرفة الاجتماع يلزم أن يلاحظ
الاجتماع بنفسه، لتدرك قوانينه، فإن ملاحظة
المزاج الفردي، والمحيط الطبيعي والمحيط
المصطنع السياسي الجغرافي، وإن كانت دخيلة في
فهم الاجتماع، لكن الاجتماع بالإضافة إلى ذلك
قوانين خاصة، لا تتسنى معرفتها إلا بمعرفة
تلك الثلاثة بالإضافة إلى قوانينه الخاصة،
والمجموع من حيث المجموع يعطي معرفة قوانينه. |