الفهرس

فهرس الفصل الرابع

المؤلفات

 العلوم الاخرى

الصفحة الرئيسية

 

الرياضة والحركة

وثالثها: الحركة والسكون البدنيان، وتختلف الحركة بالشدة والضعف، والكثرة والقلة، والسرعة والبطؤ، فالسريعة القوية القليلة تسخن أكثر مما تحلل، والبطيئة الكثيرة الضعيفة بالعكس.

وإفراط الحركة والسكون يبرد، والسكون أعون على الهضم، والحركة أعون على الانحدار.

رابعها: الحركة والسكون النفسيان، والحركة النفسية يلزمها حركة الروح، إما إلى الخارج دفعة كما عند الفرح المفرط، أو الغضب المفرط، أو قليلاً قليلاً كما عند الفرح والغضب غير المفرط، أو إلى الداخل دفعة كما عند الفزع الشديد، أو قليلاً قليلاً كما عند الغم، أو إلى الداخل والخارج كما عند الخجل.

ويلزم تلك الحركة سخونة ما تحركت الروح إليه، ويلزمه برودة ما تحركت الروح منه، والمفرط من ذلك قاتل، وإفراط السكون النفسي مبرد مبلد للذهن.

وخامسها: النوم واليقظة، والنوم بالسكون أشبه، واليقظة بالحركة، والنوم يغور فيه الروح إلى داخل فيبرد الظاهر، ولذلك يحوج إلى دثار أكثر وإفراط النوم مرطب بإفراط فيبرد، وإذا وجد النوم خلاءً يبرد بانحلال الروح، وإن وجد غذاءً مستعداً للهضم هضمه فيسخن البدن، وإن وجد خلطاً أو غذاءً عاصياً على الهضم نشره فيبرد.

والسهر المفرط يضعف الدماغ، ويسيء الهضم، بتحليل القوة، ويجوع بتحليل المادة.

ونوم النهار رديء فهو يفسد اللون، ويضر الطحال، ويبخر الفم، ويرخي القوى النفسانية كلها فيبلد الذهن، وإذا اعتيد فلا يجوز تركه إلا بتدريج.

والتحلل بين النوم والسهر رديء.

(وثالثها) أي ثالث الأمور التسعة الضرورية: (الحركة والسكون البدنيان) مقابل النفسيان الآتي في الأمر الرابع. وضروريتهما للإنسان واضح لا يحتاج إلى البرهان (وتختلف الحركة بالشدة والضعف) والمراد بالشدة القوة، وهي غير السرعة، فإن القوة لازمها كون اقتضاء الحركة في المتحرك قوياً، كحركة الحديد من فوق إلى أسفل، فإنها قوية وإن كانت سريعة، بخلاف حركة تبنة فإنها وإن بلغت في السرعة مبلغ حركة الحديد إلا أنها ضعيفة (والكثرة والقلة) فالسير فرسخاً كثير، وميلاً قليل (والسرعة والبطء) فقطع فرسخ في ساعة سريع، وفي يوم بطيء (فالسريعة القوية القليلة تسخن أكثر مما تحلل) أما التسخين فلأنه يتولد من قوة الاحتكاك الحاصلة في هذه الحركة، وأما قلة التحلل فلأن التحليل إنما يكون بعد ترقيق المادة وتبخرها، وذلك يحتاج إلى زمان طويل (والبطيئة الكثيرة الضعيفة بالعكس) فتحلل أكثر مما تسخن لأنها لضعف الاحتكاك لا تسخن كثيراً، ولطول الزمان تحلل كثيراً. ومن هاتين يعرف سائر أقسام الحركة الحاصلة من ضرب كل شق في الأقسام الأُخر.

(وإفراط الحركة والسكون يبرد) أما إفراط الحركة، فلأنه يحلل الرطوبة الغريزية ويبخرها فتتحلل بتحللها الحرارة الغريزية، وأما إفراط السكون، فلأنه يوجب احتباس الرطوبات فتنغمر الحرارة الغريزية فيها ويقل تسخينها (والسكون أعون على الهضم) للغذاء الذي في المعدة، لأن كل جزء من الغذاء يماس جزءاً من جدار المعدة طويلاً فيؤثر فيه الهضم الناشئ من المعدة، بخلاف الحركة إذ تلك تسبب حركة الغذاء في المعدة فلا تطول المماسة بين كل جزء من الغذاء وجزء من المعدة حتى تؤثر فيه طويلاً (والحركة أعون على الانحدار) للغذاء لأنها تحرك الغذاء والفضول فينحدران إلى الأسفل.

(رابعها) أي رابع الأمور الستة الضرورية: (الحركة والسكون النفسيان) والمراد بهما حركة النفس إلى الخارج لغضب ونحوه، أو إلى الداخل لخوف ونحوه. ويقابلها السكون النفسي بأن لا تتحرك نحو خارج أو داخل لعدم وجود سبب للحركة (والحركة النفسية يلزمها حركة الروح) البخاري الذي يركب على الدم، فإن النفس إذا تنفرت من شيء هرب الروح إلى الداخل وبهروبه يتبعه الدم الذي هو مركوبه إلى الداخل، وإذا اشتاقت إلى شيء تحرك الروح إلى الخارج وباتجاهه نحو الخارج يتبعه الدم الذي هو مركوبه، وحركة النفس على خمسة أقسام، لأنها: (إما إلى الخارج دفعة) إن كان الملائم قوياُ (كما عند الفرح المفرط، أو) كانت قوة المقاومة على المنافر قوية كما عند (الغضب المفرط) ففي الأول ينبسط الروح نحو الخارج لإدراك الملائم الذي مصدره الخارج، وفي الثاني ينبسط الروح نحو الخارج لمقاومة المنافر الذي سبب الغضب، (أو) إلى الخارج (قليلاً قليلاً) إن لم يكن الملائم قوياً ولا المنافر مما يحتاج إلى قوة المقاومة (كما عند الفرح والغضب غير المفرط) فإن انبساط الروح ـ حينئذ ـ يكون تدريجياً، وتكون حالة النفس في ذلك حالة الحركة الخارجية حيث تكون بطيئة إذا كان الملائم أو المنافر غير ذي أهمية، بخلاف ما إذا كانا ذا أهمية فإن الحركة تكون سريعة عدوية (أو إلى الداخل دفعة) إن كان المنافر قوياً ويئس من المقاومة فإنه يهرب إلى الداخل (كما عند الفزع الشديد) والمخوف الهائل (أو) إلى الداخل (قليلاً قليلاً) حيث يكون المنافر ضعيفاً ولم يمكن دفعه (كما عند الغم) فإن المنافر قد وقع ولا يمكن دفعه ولذا يهرب الروح منه إلى الداخل لكنه قليلاً قليلاً لعدم قوة المنافر وهوله (أو) يتوجه الروح (إلى الداخل والخارج) لاجتماع الموجبين (كما عند الخجل) فإنه مركب من فزعين: فزع يظن أنه لا يمكن مقاومته فيهرب الروح إلى الداخل، ثم يتبين أنه ممكن المقاومة فيتوجه الروح إلى الخارج، ولذا يتبدل الحال فوراً.

(ويلزم تلك الحركة) النفسانية إلى الداخل أو الخارج (سخونة ما تحركت الروح إليه) فإن تحركت نحو الداخل سخن الداخل، وإن تحركت نحو الخارج سخن الخارج إلى البشرة والأعضاء الظاهرة، وذلك لأن الروح لا يتحرك إلا مع مركوبه الذي هو الدم، وكلاهما حار، فإذا توجها إلى ناحية سخن ذلك الطرف (و) كذلك (يلزمه برودة ما تحركت الروح منه) فالحركة نحو الداخل توجب برودة البشرة، والحركة نحو الخارج توجب برودة القلب والداخل (والمفرط من ذلك) التحرك للروح، سواء كان إلى الداخل أو الخارج (قاتل) مهلك، أما قاتلية التحرك إلى الخارج، فلأنه يخلو القلب حينئذ عن الحرارة والدم فيقف عن الحركة، وهذا هو سر موت الإنسان بسبب الفرح المفرط. وأما قاتلية التحرك إلى الباطن فلأنه إذا اجتمع الدم الكثير في القلب والباطن اختنق الباطن من شدة الانحصار ويكون الموت، وهذا هو سر موت الإنسان من الخوف الكثير.

(وإفراط السكون النفسي) بأن يطول عدم اعتراء الإنسان خوف وفرح وما أشبههما مما يوجب سكون النفس في حالة واحدة (مبرد) إذ الحركة توجب الحرارة، فمع عدم عدمها لا تكون حرارة (مبلد للذهن) إذ الفطنة إنما تكون من لطافة الروح الناشئة من حركتها، فإذا لم تتحرك الروح ذهبت لطافتها، وبذهاب اللطافة تذهب الفطنة والذكاء، وتكون بلادة وجمود.

(وخامسها) أي خامس الأمور الستة الضرورية: (النوم واليقظة) فإنهما ضروريان للإنسان لا يتمكن من تركهما، ولو وجد فرد ناقص لا يعتريه أحدهما فهو شاذ لا يقاس عليه (والنوم بالسكون أشبه) فإن الروح والبدن في النوم ساكنان، ولذا نرى أن كلا من السكون والنوم يرطبان البدن ويزيلان الإعياء، وإن تفارقا بأن سكن بلا نوم، أو نام وهو متحرك (واليقظة بالحركة) لعكس ما تقدم، فإن الروح والبدن في اليقظة متحركان (والنوم يغور فيه الروح إلى داخل) البدن، ولذا تعطل الحواس (فيبرد الظاهر) لأن الحرارة والدم يتبعان الروح (ولذلك يحوج) النائم (إلى دثار أكثر) لتأثر البدن بالبرد الخارجي بغير مقاوم من حر داخلي، بخلاف حال اليقظة فإن البرد له مقاوم من الداخل.

(وإفراط النوم مرطب) للبدن (بإفراط) أكثر من الرطوبة اللازمة لقلة التحلل واحتباس المواد التي تتحلل في اليقظة (فيبرّد) النوم البدن، لأن الرطوبة الحاصلة من النوم تغمر الحرارة الغريزية وتطفئها (وإذا وجد النوم خلاءً) بأن لم يكن في المعدة طعام تنشغل الروح بهضمه (يبرد بانحلال الروح) إذ الروح إذا توجهت إلى الباطن ولم تجد ما تحلله حللت الرطوبات الأصلية، وبتحليلها تتحلل الحرارة الغريزية، فيوجب ذلك البرودة (وإن وجد) النوم (غذاءً مستعداً للهضم هضمه) بسرعة وسهولة، لاشتغالها بذلك فقط، إذ لا مأرب لها في الخارج لتعطل الحواس (فيسخن البدن) لأنه إذا هضمه أحاله إلى الدم والدم حار ويتولد منه الروح البخاري (وإن وجد) النوم (خلطاً أو غذاءً عاصياً على الهضم نشره) في البدن لأنه يحللهما ويرققهما فينتشران في البدن (فيبرد) لكون المنتشر فجاً بارداً بالطبع. ومن هذا التفصيل ظهر أن تأثير النوم في البدن مختلف فتارة يبرد وتارة يسخن.

(والسهر المفرط) الذي يكون أكثر من المعتاد (يضعف الدماغ) لأنه يوجب نهكه بسبب كثرة الإحساس والحركة (ويسيء الهضم) إذ الهضم يحتاج إلى القوة، والسهر يضعفها (بتحليل القوة) لأنه يصرفها في سائر الحركات والاحساسات، فلا يبقى منها القدر الكافي للهضم (ويجوع بتحليل المادة) التي من شأنها أن تنصرف لتغذية البدن، فإن السهر يصرفها في الحركة والحس لأنهما يحتاجان إلى الوقود.

(ونوم النهار رديء) لأن الروح جوهر نوراني فتهش إلى الخارج لأن الجنس منجذب إلى مثله، فلا تنصرف إلى الباطن لتعمل أعمالها، فلا يترتب على نوم النهار فوائد النوم (فهو يفسد اللون) لأن الغذاء لا يتحلل كاملاً ـ لعدم توجه الروح إلى الباطن كي تهضم صحيحاً ـ وإذا لم يتحلل الغذاء كثرت فضوله واختلطت مع الدم فيغلظ، فلا يحصل للون إشراق الدم الصافي (ويضر الطحال) لأنه يجذب الأخلاط الغليظة فيكثر فيه تلك لكثرة الأخلاط الغليظة بسبب عدم الهضم الكامل الموجب لاستقامة الأخلاط (ويبخر الفم) لأن الغذاء يفسد في المعدة لعدم جودة الهضم، فيتصاعد منه أبخرة فاسدة إلى الفم (ويرخي القوى النفسانية كلها) لاحتباس الفضلات، وابتلال الأعصاب والدماغ الذين هما منشأ القوى النفسانية، فبارتخائها ترتخي القوى (فيبلد الذهن) بتكدر الروح ورطوبة الدماغ. وقد عرفت أن الذكاء من آثار الحرارة والخفة (وإذا اعتيد) نوم النهار (فلا يجوز تركه إلا بتدريج) لأن الطبيعة تعتاد حينئذ على الهضم في النهار، فإذا ترك النوم دفعة تحيرت الطبيعة، فلا تتمكن من الهضم الجيد إلا بعد اعتياد مخالف، وفي هذه الفترة يوجب الفساد في الهضم الموجب لانحراف القوى.

(والتحلل) وهو التراوح (بين النوم والسهر) بأن ينام قليلاً ويسهر قليلاً وهكذا (رديء) لأنه موجب لتحيّر الطبيعة، فكلما توجهت إلى الباطن للهضم والراحة أزعجت بالسهر، وكلما توجهت إلى الظاهر للحس والحركة أزعجت بالنوم، فلا يتأتى منهما أي العملين على الوجه الصحيح.